المخرجان الأميركيان زاك وكريس في ضيافة لاجئين سوريين في مخيم الزعتري
المخرجان الأميركيان زاك وكريس في ضيافة لاجئين سوريين في مخيم الزعتري

في عالم مزدحم بالأخبار والمعلومات، وفي عالم باتت الصورة تلاحق نفسها بين الساعة والأخرى كثيرون لا يجدون في هذا الزخم الهائل والسائل من المعلومات ما يشبع فضولهم ويحقق رغبتهم في معرفة الزوايا الأربع للقصص الإنسانية، التي تراها عيونهم وتسمعها آذانهم في أجزاء متفرقة من العالم.

وكأنهم يقولون في معنى ما نريد للحقيقة أن نلامسها بأنفسنا، وأن نصل إليها في مكانها، وأن نعايش تفاصيلها في مواقعها بصرف النظر عن حجم المعاناة التي يمكن أن يصادفها الباحثون عن هذه الحقيقة وهم في طريقهم للبحث عنها.

 هذه التوطئة تبدو أكثر من ضرورية في كلمات المخرجين الشابين الأميركيين "كريس ثامبل" و" زاك انغراسكي "، حيث تخرج هذا الثنائي حديثا من الجامعة، وباشرا حديثا أيضا حياتهما المهنية، لكن بين الدراسة الأكاديمية ووقائع الأرض ويوميات الحياة بالإضافة إلى قصص الناس في أجزاء بعيدة من العالم فوارق شاسعة جدا.

 تحرك هذا الثنائي معا، وفي مبادرة مشتركة قررا معا أن يدخلا وبمعية المنتجة "سلام دروازة "، صاحبة الأصول الفلسطينية الأردنية والأميركية المولد والتعليم، قرر هؤلاء جميعا وضع خطة طموحة جدا والقيام بمغامرة تقودهم من الولايات المتحدة إلى مخيم "الزعتري" بضواحي العاصمة الأردنية عمان، والحياة وسط اللاجئين السوريين هناك لمدة تفوق الشهر والعودة بصورة حية عن القصة الحقيقية لهؤلاء الناس وتقديمها للجمهور الأميركي من دون تدخل لأي طرف آخر، كما يقول كريس وزاك.

الرحلة احتاجت إلى الكثير من التحضير والإجراءات، وعمل الجميع على تحقيقها وتجاوز متطلباتها، وانتهت بهما الجهود في مساء عماني بارد إلى وسط المخيم بعد الحصول على تصريح الدخول والإقامة من قبل الجهات الأمنية الوصية في العاصمة الأردنية .

الآن زاك و كريس لاجئان أميركيان في مخيم الزعتري. عن هذه اللحظة يقول لي هذا الثنائي المغامر والمبدع إنها كانت لحظة استثنائية بكل المقاييس في حياتهما وهما يدخلان المخيم لأول مرة.

يقول زاك إنه وهو يقطع الطريق عبر الطائرة بين نيويورك وعمان، كانت مخاوفه متوقدة وعيناه لا تجدان الطريق إلى النوم بسبب ما سمعه من أخبار عن الوضع في الشرق الأوسط، وحالة العنف السائدة هناك. لكنه يعود والابتسامة تملأ ملامحه ليقول إن كل هذه الصورة التي رافقته اكتشف أنها خاطئة تماما وهو يدخل المخيم ويتعامل لأول مرة مباشرة مع أهل هذا الشرق وفي شرقهم العامر تاريخا ومحبة وضيافة.

حدث ذلك عندما حدث أول صدام بين الشابين الأميركيين وجيرانهم من اللاجئين، عند وضع خيمتهم وسط خيام اللاجئين بسبب احتجاج الرجال والأطفال على تصوير أمهاتهم وأخواتهم وزوجاتهم من قبل هذا الثنائي الأميركي. لكن زاك وكريس جلسا إليهم وتحدثا طويلا في حضور المترجم الأردني، والتزما أمام الجيران الجدد أنه لن يتم تصوير أي أحد في المخيم من دون موافقة مسبقة منه ومن عائلته.

هنا، وفي هذه اللحظة، وجد الجميع الطريق للاطمئنان إلى النوايا، وانخرط الجيران العرب من اللاجئين بأيديهم وجهودهم في مساعدة جيرانهم القادمين من أميركا على بناء خيمتهم وبداية حياتهم الجديدة.

 وكالعادة، كما هو الحال دائما في هذا الجزء من العالم، حضر الطعام الجاهز دائما للضيف المرتقب حلوله. هنا يقول لي كريس كانت الصدمة الاجتماعية الأولى حيث لم يكن قد مضى على وصولهم المخيم سوى ساعات قليلة، فيما اللاجئون هؤلاء الذين يعتمدون في حياتهم على المساعدات المقدمة إليهم يقدمون له و لرفيقه أفضل الطعام المتاح لهم بالإضافة إلى كؤوس الشاي الساخنة.

لا يتوقف الكرم عند العشاء الطارئ على المشهد، بل أن الجيران من اللاجئين تقدموا من الثنائي الضيف وطلبا منهما، وفي حضور مسؤولي الأمن في المخيم، بضرورة المبيت خارج المخيم لأن هناك خوفا على سلامتهما، باعتبارهما غريبين في المكان، وأن الجيران ليس بمقدورهم ضمان أمنهما في ساعات الليل الطويلة.

 اهتدى زاك وكريس إلى فكرة مغايرة، وهي البحث عن مبيت لهما خارج المخيم، على أن يعودا في ساعات الصباح الأولى في كل يوم إلى المخيم ليستطيعا إنجاز الغرض الذي خرج بهما من ديارهما وجاء بهما الى عمان.

هكذا ارتسمت ملامح الحياة الجديدة لزاك وكريس قبل أن يبدآ في تصوير وإنجاز فيلمهما "سلام يا جار ".

وأنا أسال المنتجة سلام دروازة "لماذا المغامرة في هذه القصة تحديدا؟ ولماذا سلام يا جار تسمية للفيلم الوثائقي؟"، تزاحمت المعاني في كلماتها، وهي تقول إن قصة اللاجئين السوريين في المعالجة الإعلامية اليومية تأخذ صورة نمطية، وإنها اختارت وشركائها أن تعيش حياتهم وتقدمها للجمهور الأميركي ولبقية العالم من الداخل، مضيفة أن خلف تلك الصورة النمطية هناك تضحيات هائلة لأمهات وآباء قدموا وقدمن كل ما يملكون في الحياة لأجل إنقاد أطفالهم، وأنهم وهم يعيشون تجربة الحياة في المخيمات، التي اضطروا إليها مكرهين، يحاولون جاهدين وعلى مدار الساعة توفير الحد الأدنى من أسباب الحياة لأطفالهم، والدفع بهم لبر الأمان متى وجدوا إليه طريقا".

 أليس في ذلك ما يثير الإعجاب ويستحق التقدير؟ تسأل سلام.

مسألة أخرى تشير إليها سلام وهي تسمية الفيلم الوثائقي في حد ذاته. إنها أرادت أن تشير إلى تلك القيم السائدة في حياة أهل الشرق، حيث كل شيء هناك يبدأ بالسلام بين الناس، وأن أول الكلمات تبادلا بين الجيران هي السلام في أوقات مختلفة من الليل والنهار. إضافة إلى أن هذا الجوار المعاش في المخيم، هو جوار بين أميركيين جاءا لاكتشاف الحياة في المخيمات بإرادتهما الطوعية، و لاجئين اضطروا مكرهين أن يغادروا ديارهم التي قطعا هي الأحب إلى قلوبهم بين ديار العالم جميعا .

 في ذلك المساء الربيعي الدافئ، كانت المنتجة سلام وأبطال الفيلم يحطون الرحال في جامعة "جورج تاون" بواشنطن لتقديم الرحلة إلى الشرق التي تحولت الى فيلم "سلام يا جار"، بعد أن عرض في أكثر من 50 مدينة أميركية، ووجدوا ترحيبا واسعا بين آلاف الأميركيين، وحرك الكثير من المشاعر والمبادرات لأجل تقديم المزيد من المساعدات لهؤلاء الذين يعيشون في المخيمات.

في ذلك المساء أسال زاك، وهو يرتدي بدلته الزاهية ويستعد في الغرفة الخلفية لقاعة الحفلات في جامعة جورج تاون، بعد أن تخلص من لباس المخيم ولحيته التي طالت كثيرا وأطلقها خلال أيام الحياة وسط أصدقائه، هكذا يصفهم. أسأله ماذا سيقول للجمهور الذي كان ينتظر الإطلالة في القاعة المجاورة هذا المساء من طلاب الجامعة وباحثيها وهذا العدد الهائل من الحضور لمشاهدة الفيلم.

 في هدوء يقول إنه هنا ليقول لهم عن تلك المشاعر الخاصة التي عاشها هناك، ويقول لهم أيضا للجمهور الأميركي كافة وفي كل مدينة أميركية سيعبرها مقدما فيلمه عن اللاجئين السوريين في عمان، إن هؤلاء يشكلون إضافة لأي مجتمع سيعيشون بينه وهم حل وليسوا مشكلة، كما يعتقد كثيرون.

 يوضح الشاب العشريني فكرته بالاستناد إلى تلك النماذج التي أوردها في فيلمه لنساء ورجال قرروا بدء الحياة الجديدة بكل تقلباتها، وعدم الاستسلام لليأس والإحباط، وابتكار أدوات جديدة لتحصيل أرزاقهم في هذه الظروف الطارئة في حياتهم، خاصة وأن بين هؤلاء كفاءات مهنية عالية جدا من أطباء وأساتذة ومدرسين ومترجمين وأصحاب حرف يدوية عديدة. وبالتالي فجميع هؤلاء من وجهة نظر الشاب الأميركي يمثلون طاقات إنسانية جادة وجاهزة للعمل والإنتاج. وبالتالي لن يكون هؤلاء عالة على حساب أحد، بل إنهم سيحملون معهم حلولا وإضافة اقتصادية لأي مكان سيتقرر لهم الحياة فيه.

انتهى عرض فيلم "سلام يا جار"، الذي استمر لساعة من الزمن وقليل، وازدحم المكان بالمشاعر المكثفة بين الشابين الأميركيين وأصدقائهما هناك في المخيم، ليستغرق الجمهور في لحظات من المشاعر الممزوجة بأكثر من دمعة واحدة تسللت في صمت وظلمة المكان لتضاء القاعة على عيون زاك وكريس المتوقدة فرحا بوصول رسالة أرادا لها أن تصل إلى أميركا وكل العالم عن حقيقة الحياة في مخيمات للاجئين. وذلك أفضل ما كانا يطمحان إليه حتى لو كلفهم ذلك انقلابا كاملا في نمط حياتهم اليومية.