رفات الجزائريين في فرنسا لطالما أثار توترا بين البلدين
ملف "جماجم المقاومين الجزائريين" يثير جدلا بين الفرنسيين والجزائر

رفضت السلطات الفرنسية عرض قانون يسمح بإعادة جماجم المقاومين الجزائريين إلى الجزائر رغم أنه حظي بموافقة أغلبية النواب، بسبب حساسية القضية في العلاقات الجزائرية الفرنسية.

وفي السنوات الأخيرة تحولت قضية الجماجم إلى محور "حرب الذاكرة " بين البلدين، في وقت تصر فيه الجزائر على إعادة الجماجم كخطوة رمزية قد تكون بداية لاعتراف رسمي من فرنسا "بجرائم الاستعمار".

ولا تزال مسائل الذاكرة في صلب العلاقات بين الجزائر وفرنسا، في ظل التصور القائل في الجزائر إن فرنسا لا تقوم بما يكفي للاعتذار عن ماضيها الاستعماري.

وفي متحف "التاريخ الطبيعي" تضع فرنسا جماجم الثوار الجزائريين الذين قاتلوا ضدها وضد استعمارها للبلاد.

والجماجم تعود للثوار الذين قطعت رؤوسهم ونقلت إلى فرنسا لأسباب متعددة ومن بينها ثوار قاتلوا إلى جانب المقاوم الجزائري، عبد القادر الجزائري.

يقول الإعلامي الجزائري، حكيم بوغرارة، في حديث لموقع "الحرة" إن الأمر يتعلق بمقاومين في زمن المقاومة الشعبية في النصف الثاني من القرن ال 19، تحتفظ فرنسا بجماجمهم في متحف الإنسان.

الباحث الجزائري في التاريخ وعلم الانسان  (الأنثروبولوجيا)، علي فريد بلقاضي، كان قد كشف أن عدد جماجم  الجزائريين المنحدرين من كل ربوع الجزائر المحفوظة في المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي بباريس، يقدر بـ 536 جمجمة.

وفي حديث سابق لوكالة الأنباء الجزائرية، يقول الباحث إن الجماجم ينحدر أصحابها من كل مناطق الجزائر، من خنشلة ووهران وباتنة وسكيكدة والقالة والجزائر العاصمة.

ونقلت صحيفة "الشروق" عن النائب الفرنسي، كارلوس مارتنيز بيلونغو، صاحب مقترح مشروع قانون إعادة جماجم المقاومين إلى الجزائر، أن السلطات الفرنسية رفضت عرض المشروع على النواب، رغم أنه حظي بموافقة قرابة ثمانين منهم حتى الآن، وذلك لحساسية الملف وتجنبا لإعادة التوتر في علاقاتها مع الجزائر بعد عودة الدفئ إليها.

قضية حساسة

يبقى هدف الجزائر الأسمى من "حرب الذاكرة" مع فرنسا أن تعتذر الأخيرة رسميا عن "جرائم" فترة الاستعمار، لذلك تصر على إعادة جماجم المقاومين لأن ذلك جزء مهم من ذاكرة  تاريخ الاستعمار.

يرى الإعلامي بوغرارة في حديثه لموقع "الحرة" أن "تسليم جثث وجماجم الأجانب لدولهم الأصلية هو عرف".

وتسليم الجماجم يعتبر "حسن نية" من فرنسا لحل ملف التاريخ والذاكرة الذي لا طالما كان سببا في توتر العلاقات بين الجزائر وفرنسا، وفق بوغرارة، الذي يضيف أنه "بحكم مكانة الشهداء،والمقاومين تسعى الجزائر لاستعادتهم ودفنهم فوق أراضيها".

والجماجم موضع الخلاف بين البلدين يعتقد أنها تعود لمقاومين جزائريين من القرن التاسع عشر كانوا يحاربون ضد الاستعمار الفرنسي.

يقول الناشط الجزائري، وليد كبير، إن قضية الجماجم حساسة لدرجة أنها قد تعصف بالعلاقات الفرنسية الجزائرية، وهو ما يفسر رفض السلطات مناقشة القانون المقترح.

ويشير كبير في حديث لموقع "الحرة" إلى أن قضية الجماجم فيها الكثير من الغموض وهو ما ظهر بعد تسليم فرنسا العام الماضي جماجم للجزائر تبين أنها تعود للصوص، وهو ما كشفت عنه "نيويورك تايمز".

والعام الماضي، أعادت فرنسا بعض الجماجم للجزائر، لكن صحيفة "نيويورك تايمز"، كشفت أن الجماجم التي استرجعتها الجزائر من فرنسا عام 2020 لا تعود جميعها لمقاتلي المقاومة، وأن هذه الرفات ظلت جميعها ممتلكات فرنسية حتى بعد تسليمها.

وكشفت وثائق لمتحف الإنسان والحكومة الفرنسية، حصلت عليها الصحيفة الأميركية، أن 18 جمجمة لم يكن أصلها مؤكدا، من بين الجماجم الـ 24 التي استرجعتها الجزائر.

وأعيدت هذه الجماجم بموجب اتفاقية وقعتها الحكومتان يوم 26 يونيو لعام 2020، تضمنت ملحقا من 4 صفحات يوضح بالتفصيل هويات الرفات. 

وأظهرت الوثيقة التي حصلت عليها صحيفة "نيويورك تايمز" أن من الرفات التي استعادتها الجزائر للصوص كانوا مسجونين، وثلاثة جنود مشاة جزائريين خدموا في الجيش الفرنسي.

وقتل في حرب الجزائر 23196 جنديا قضى منهم أكثر من 15 ألفا في المعارك والاعتداءات، وأصيب نحو 60 ألفا.

وبعد الاستقلال، واجه الفرنسيون معلومات تم كشفها حول أعمال تعذيب ارتكبها الجيش الفرنسي سعيا للقضاء على الثورة التي قادتها جبهة التحرير الوطني.

رئيسا الجزائر وفرنسا في لقاء سابق - فرانس برس

طفت لغة التهدئة على العلاقات الجزائرية الفرنسية هذا الأسبوع، عقب أكثر من 6 أشهر من التصعيد السياسي والدبلوماسي والإعلامي، تخللتها تصريحات مكثفة وقرارات غير مسبوقة استهدفت تنقل الأفراد، كما شملت محاولات لترحيل جزائريين مقيمين بفرنسا.

وصرح الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، في لقاء له السبت الماضي مع وسائل إعلام محلية، أن نظيره الفرنسي ايمانويل ماكرون هو "المرجعية" في العلاقات مع بلاده.

ووصف تبون الخلاف بين البلدين بـ"المفتعل بالكامل"، مشيرا إلى أن ما يحدث "فوضى" و"جلبة"، معتبرا أن الرئيس ماكرون هو "المرجع الوحيد ونحن نعمل سويا".

وأحال الرئيس الجزائري ملف الأزمة القائمة بين بلاده وفرنسا على وزير الخارجية، أحمد عطاف قائلا:" فيما يخصني، فإن ملف الخلاف المفتعل بين أياد أمينة، بين يدي شخص كفء جدا يحظى بكامل ثقتي، ألا وهو وزير الشؤون الخارجية، السيد أحمد عطاف".

وخلفت التصريحات الجديدة ارتياحا لدى الأوساط الفرنسية الرسمية، ترجمته المتحدثة باسم الحكومة، صوفي بريماس، التي أعربت، في تعليق لها على ما قاله الرئيس الجزائري، أمس الأحد، عن أملها في استئناف العلاقات "الطبيعية" مع الجزائر.

وهي المرة الأولى التي تشهد مرونة في لغة التخاطب منذ يوليو 2024 تاريخ إعلان إيمانويل ماكرون دعم بلاده لمقترح المغرب الخاص بالحكم الذاتي للصحراء الغربية.

جذور الخلاف "لا زالت قائمة"

لكن الباحث في علم الاجتماع السياسي بالجزائر، أحمد رواجعية، يرى أن هذه الإشارات "المرنة" المتبادلة بين البلدين "مرحلية ولا تعبر عن حقيقة ما يحكم العلاقات بين الجزائر وفرنسا لحد الآن"، معتبرا أن "جذور الخلاف بين البلدين لا زالت قائمة".

وفي حديثه لـ"الحرة" أوضح أحمد رواجعية أن التصريحات المتداولة خلال الأيام القليلة الماضية حتى وإن عكست الجنوح نحو التهدئة، فإن الملفات الأساسية التي تشكل جوهر الخلافات التاريخية بين البلدين "ستظل حجر عثرة أمام أي محاولة للتطبيع مع باريس".

وتشكل قضايا "الذاكرة" بكافة فروعها ذات الصلة بجرائم الفترة الاستعمارية والتجارب النووية وضحاياها والألغام وتجريم الاستعمار وتنقل الأشخاص والهجرة، "أبرز جذور الخلاف الجزائري الفرنسي" وفق المتحدث الذي دعا إلى "مصارحة ومكاشفة تنهي عقودا من التوتر".

من صنصال إلى الهجرة

وشهدت العلاقات بين البلدين تصعيدا غير مسبوق اشتد مع اعتقال السلطات الجزائرية للكاتب بوعلام صنصال، منتصف نوفمبر الماضي، ووجهت له تهم "الإرهاب، والمس بالوحدة الوطنية".

وكان صنصال صرح في أكتوبر الماضي لقناة فرنسية أن أجزاء من الغرب الجزائري تعود تاريخيا للمغرب، وهاجمت الحكومة الجزائرية صنصال، بينما وصفه الرئيس عبد المجيد تبون بـ "المحتال".

وانتقل الخلاف من قضية صنصال إلى الميدان السياسي والدبلوماسي، إذ رفضت الجزائر استقبال مهاجرين مرحلين من باريس، بينما دعا وزراء من الحكومة الفرنسية إلى مراجعة اتفاقية الهجرة الموقعة عام 1968، التي تمنح امتيازات وأفضلية للمهاجرين الجزائريين، إلا أن لغة التهدئة سرعان ما عادت إلى واجهة الخطاب السياسي بين الحكومتين.

"هدوء" العاصفة..

وفي تعليقه على هذه التطورات يشير المحلل السياسي، عبد الرحمان بن شريط إلى أن العديد من المؤشرات توحي بتراجع وتيرة وحدة الخلاف بين البلدين"، مضيفا أن الجزائر "لم تمارس منذ البداية أي تصعيد"، محملا المسؤولية للجانب الفرنسي الذي مارس "استفزازات سياسية بالمنطقة".

وبشأن أسباب التحول في الخطاب بين البلدين، يرى بن شريط في تصريحه لـ"الحرة" أن فرنسا "تراجعت" خلال الفترة الأخيرة عن مسار التصعيد لأنها "شعرت بأنها تسلك مسارا من شأنه أن تفقد فيه الجزائر كشريك، وأن مصالحها أصبحت مهددة".

ووفق المتحدث فإن باريس "لا تريد تكرار الهزائم التي منيت بها في أفريقيا"، بعد فقدانها نفوذها هناك، مضيفا أن فرنسا أدركت "عمق التحول الذي طرأ علي المؤسسات الرسمية في الجزائر، من حيث الحرص على حماية السيادة واتخاذ القرار بدون وصاية"، متوقعا أن "تهدأ العاصفة" بين البلدين خلال المرحلة المقبلة.