سعيد سعدي
الرئيس السابق للتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، سعيد سعدي (أرشيف)

لم يستهو الحراك السياسي الذي تعرفه الجزائر، هذه الأيام، تزامنا مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، الكثير من الشخصيات ذات الوزن في المشهد المحلي، حيث فضلت الانزواء والبقاء بعيدا عن مجريات الأحداث.

وتبدو الساحة، الآن، خالية من العديد من الأسماء التي ظلت تحتكر العمل السياسي، وعدة مبادرات تم طرحها في مرحلة ما قبل الحراك الشعبي الذي اندلع في فبراير 2019، بل كانت هذه الشخصيات تمثل بديلا للسلطة في الجزائر، في عهد نظام الرئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة.

ويعتبر رئيس الحكومة الأسبق، علي بن فليس، أحد أهم الفاعلين في المشهد المحلي خلال السنوات الأخيرة، لكنه قرر الانسحاب من العمل السياسي في أعقاب نتائج انتخابات 19 أبريل 2019.

بن فليس.. بن بيتور.. وآخرون

ونفس الأمر ينطبق كذلك على أحمد بن بيتور، رئيس أول حكومة في عهد بوتفليقة، وأحد أشد معارضيه في فترات لاحقة، ومن المؤيدين أيضا لمطالب الحراك الشعبي.

وخلت الساحة السياسية أيضا، من أسماء ثقيلة محسوبة على التيار العلماني، كما هو الحال بالنسبة للرئيس السابق للتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، سعيد سعدي، إضافة إلى عمارة بن يونس، الذي تحالف مع نظام بوتفليقة لسنوات طويلة.

أشخاص يحملون لافتة وأعلاما جزائرية خلال مسيرة لإحياء ذكرى القمع الوحشي لمظاهرة 17 أكتوبر 1961
"إهانة لبلد وشعبه".. تغريدة موجهة للجزائر تفجّر الجدل في فرنسا
أثارت تغريدة للحزب الجمهوري في فرنسا تعليقا على تقديم الجزائر لباريس قائمة بالممتلكات منذ الحقبة الاستعمارية من أجل استعادتها في إطار عمل لجنة مشتركة للذاكرة، جدلا كبير في البلاد وصداما على وسائل التواصل الاجتماعي مع اليسار الحاكم.

وفي معسكر الإسلاميين، تراجع حضور رئيس جبهة العدالة والتنمية عبد الله جاب الله، في المشهد السياسي، وهو الذي شارك في أغلب المحطات والمواعيد الانتخابية بهذا البلد المغاربي.

وقبل أكثر من عام، أعلن الناشط السياسي، رشيد نكاز، اعتزال النشاط السياسي بشكل نهائي في الجزائر، قصد التفرغ لمشاكله الصحية ولأسرته التي قال إنه لم يرها منذ 3 سنوات. 

وتطرح ظاهرة "الكسوف السياسي" لبعض الشخصيات السياسية تساؤلات كبيرة في الجزائر، بين من يعتبرها "استقالة أبدية" من طرف هؤلاء، وآخرين يعتقدون بأنها مجرد "انسحاب مؤقت" تمليه معطيات ومتغيرات تمر بها البلاد في الوقت الراهن.

عوامل وأسباب

وتحدث أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، فاروق طيفور،  عن جملة من الأسباب والبواعث التي تقف وراء ظاهرة اختفاء هذه الشخصيات.

وقال طيفور في تصريح لـ"أصوات مغاربية"، "العديد من الحالات تتعلق بقرارات شخصية أملت على أصحابها الانسحاب من الساحة بعدما وصلوا إلى حالة يأس حقيقية من الواقع، فشعروا بعدم قدرتهم على إحداث أي تغيير في البلاد".

وتابع: "لابد ألا ننسى بأن العديد من هؤلاء ظل يناضل لسنوات طويلة، سواء تعلق الأمر بالمسؤولين الذين تقلدوا مهاما كبيرة داخل السلطة قبل أن يتحولوا إلى معارضين، أو بالنسبة للفريق الذي انتهج المعارضة منذ بداية مسيرته ولم يحذ عنها".

وأشار المتحدث إلى عامل ثان يتعلق بـ"فشل الحراك الشعبي في إنتاج نخبة من السياسيين تقود البلاد على أرضية توافقية تشارك فيها جميع الأطياف السياسية، مما شكّل صدمة كبيرة عند العديد من السياسيين".

أما العامل الثالث، فأرجعه طيفور إلى "البيئة الديمقراطية في الجزائر، خاصة ما تعلق بالعزوف الشعبي عن الانتخابات والفعل السياسي، وهو سبب زعزع ثقة العديد من الشخصيات التي كانت تحمل مشاريع تغيير تحتاج بالأساس إلى حاضنة شعبية لتطبيقها على أرض الواقع".

"نضال" أم "زبونية"

أما الناشط السياسي والحقوقي، عامر رخيلة، فأشار إلى أن "فهم ما يجري في الساحة السياسية يستلزم القيام بمراجعة وتقييم الأحداث التي شهدتها الجزائر، منذ مرحلة الانفتاح السياسي في أعقاب أحداث أكتوبر 1988 حتى الآن".

وأكد في تصريح لـ"أصوات مغاربية"، أن "العديد من الأحزاب التي تأسست في الجزائر لم تقم على برامج وأفكار تنافسية من أجل الوصول إلى السلطة، بل إن العديد منها كان عبارة عن دكاكين سياسية موظفة لصالح أجنحة عن السلطة".

وتابع: "هذا الوضع سمح بظهور شخصيات سياسية كانت تؤدي بعض الأدوار والأجندات التي تضبطها الأجهزة الفاعلة في نظام الحكم، واختفاؤها حاليا يفسر بانتهاء المهام التي كانت مسؤولة عن القيام بها في الساحة".

وقال رخيلة: "النظام السياسي في الجزائر عمل منذ بداية الانفتاح الديمقراطي على تدجين الأحزاب من خلال عمليات اختراق ظلت متواصلة عبر مراحل مختلفة".

الجزائر- فرنسا- تعبيرية
التوتر بين باريس والجزائر أثار قلق المغتربين وخوفهم من التضييق على حقوقهم

"أطلق النار يا شنقريحة. يا تبون، أطلق النار على من يخرج إلى الشارع هناك. أنا أعطيكم هذا الحق. من له الشجاعة فليخرج. تبون، هذه من عندي. اقتل".

الدعوة أعلاه، أطلقها "مؤثر" جزائري مقيم في فرنسا، موجّهة إلى رئيس أركان الجيش الجزائري، سعيد شنقريحة، والرئيس عبد المجيد تبون.

كانت الدعوة، تحسبا لاحتجاجات دعا إليها معارضون جزائريون مقيمون في فرنسا.

الشاب، المعروف باسم "زازو يوسف" على منصة "تيك توك"، صار رهن الاعتقال بعد توقيفه من قبل الشرطة الفرنسية.

اعتقل إثر شكوى رفعها مواطن جزائري كان من بين الداعين إلى الخروج في احتجاجات بفرنسا ضد سلطات بلاده، في الأول من يناير الجاري.

دعوة الخروج في احتجاجات مناوئة للسلطات الجزائرية، جاءت بعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا بأيام قليلة.

"جهل بالقوانين"

قال المحلل الفرنسي فرانسواز جيري إن "خطاب المؤثرين الجزائريين الذين تم توقيفهم، هو مزيج من الجهل بالقوانين وشحنة من العنف وُلدت خلال مرحلة العشرية السوداء التي عاشتها الجزائر".

قال أيضا خلال مقابلة مع موقع "الحرة": "ما يعتبره المسؤولون خطابا تحريضيا، ينظر إليه بعض الشباب، ولا سيما ذوو المستويات التعليمية المتدنية، أنغاما قوية ومؤثرة فقط". 

كان يقصد أولئك الذين يسعون إلى حشد المتابعين على المنصات الاجتماعية.

واستنكر المحلل الفرنسي "التحامل" الذي حاولت بعض وسائل الإعلام الفرنسية، إضافته على ظهر العلاقات المتوترة أصلا بين الجزائر وباريس.

قال جيري: "هناك عنف لفظي صحيح، لكن المنحى الذي سيقت إليه هذه القضية، ليس بريئا".

تبع توقيف "زازو"، اعتقال مؤثرين جزائريين آخرين في فرنسا، بينهم شخص يُدعى "بوعلام" في مونبلييه بجنوب البلاد، وآخر مشهور باسم "عماد تانتان" في ضواحي غرونوبل.

كما اعتُقلت مؤثرة فرنسية-جزائرية بسبب نشرها مقاطع فيديو على تيك توك، اعتُبرت تحريضا على الكراهية.

وبينما استنكر جزائريون حملة الاعتقالات، دعت وسائل إعلام فرنسية - قريبة من اليمين - إلى فرض عقوبات مشددة على الموقوفين بسبب الخطابات العنيفة التي تابعها عشرات الآلاف من الأشخاص.

في غضون ذلك، يعيش مغتربون جزائريون حالة من القلق حول مصيرهم، إذ يستمر التوتر بين الجزائر وفرنسا.

 "مهدي وطواط" وهو مؤثر جزائري اعتُقل مؤخرا، ظهر في مقطع فيديو نشره على تيك توك قبل اعتقاله قال فيه: "أتمنى لو كنا اليوم مثل زمن الإرهاب. كنت سأضع قنبلة في لا ديفانس، بباريس أو خنشلة بالجزائر. لو أذهب إلى الجزائر كنت سأذبح".

ولا ديفانس هي منطقة أعمال رئيسية في منطقة باريس الكبرى بفرنسا، وتقع على بُعد 3 كيلومترات غرب حدود العاصمة.

اندفاع

"كان الهدف من هذه الخطابات الحادة، زيادة المشاهدات فقط" وفقا لتعبير المحلل الجزائري توفيق بوقعدة.

قال بوقعدة خلال مقابلة مع موقع "الحرة" إن "خطاب من يُنعتون بكونهم مؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي، كان حادا".

وأشار إلى أن "الغرض من الخطاب الحاد، لفت الانتباه ورفع عدد المتابعين، واستغلال فرصة الدعوة للخروج في مسيرات ضد السلطة للتقرب ممن يتصورون استطاعتهم مساعدتهم في الحصول على وثائق إقامة في فرنسا".

وبينما يستنكر "الألفاظ" التي استخدمها الشبان في مقاطعهم التي شوهدت بالآلاف، يرى بوقعدة، أنها تنم عن "مستويات تعليمية متدنية، لا يدرك أصحابها مسؤولية ما يقولونه".

يُذكر أن أغلب المؤثرين المتورطين في هذه القضية، هم قيد الاعتقال، والكثير منهم مهدد بالسجن ثم الترحيل، لأنهم لا يحملون الجنسية الفرنسية أو تصاريح إقامة.

علي بوخلاف، وهو محلل جزائري، يرى بأن هؤلاء المؤثرين كانوا يبحثون عن بعض الامتيازات من السلطات الجزائرية الإدارية أو القنصليات، وفقا لقوله.

قال في مقابلة مع موقع "الحرة" إن "بعض المؤثرين، كانوا يطمحون أيضا، للحصول على إيرادات مادية لقاء وقوفهم إلى جانب السلطة".

توجيهات!

يزعم بوخلاف أيضا، أن هناك "توجيهات" قدمت من بعض الشخصيات الجزائرية في فرنسا لهؤلاء المؤثرين، و"وعودا بمساعدتهم وإعطائهم بعض الامتيازات"، وفقا له.

لكن بوقعدة ينفي أن يكون لهؤلاء المؤثرين أي علاقة بالسلطات الجزائرية.

وقال إن "سعيهم لمواجهة دعوات الاحتجاج ضد السلطة الجزائرية، كان تعبيرا عن تذمرهم من وضعهم المعقد في فرنسا، لعدم تمتعهم بأي صفة قانونية على التراب الفرنسي".

"هذا الوضع، أحيا لديهم الإحساس بالانتماء للجزائر" وفقا لبوقعدة.

علاقة هؤلاء المؤثرين بالسلطة الجزائرية يلخصها وضع المعروف باسم "بوعلام".

فبعد اعتقاله، أوقفت السلطات الفرنسية تصريح إقامته ثم رحّلته إلى الجزائر، لكن سلطات بلاده أعادته إلى فرنسا في ذات الطائرة التي أقلته إلى مطار هواري بومدين.

وأصدرت وزارة الخارجية الجزائرية بيانا، نددت بما وصفته "قرار الطرد المتسرع والمثير للجدل، الذي يحرمه فرصة الاستفادة من محاكمة قضائية سليمة تحميه من التعسف في استخدام السلطة".

البيان اعتبر ذلك "انتهاكا" للاتفاقية القنصلية الجزائرية-الفرنسية لعام 1974، التي تحتم على باريس إبلاغ الجزائر بمثل هكذا حالات.

أحكام مرتقبة

خلافا لمصير "بوعلام"، فإن أغلب المؤثرين الذين تم اعتقالهم ليس لديهم وضع قانوني في فرنسا، حيث وصلوا إلى التراب الفرنسي عبر الهجرة غير الشرعية على قوارب الموت.

هذه الحيثية، تثير تساؤلات لدى المحلل الفرنسي فرانسواز جيري، الذي أبدى استغرابه لسعي هؤلاء الشباب إلى الاستقرار في فرنسا، ثم الدفاع عن سلطات بلادهم ورهن فرصهم في الحصول على إقامة دائمة في بلد تجاوزوا الصعاب للوصول إليه، وفقا لتعبيره.

يُذكر أن "عماد تانتان"، الذي أثار خطابه الكثير من الجدل على وسائل الإعلام الفرنسية، نشر لاحقا، فيديو يؤكد فيه أنه لم يكن يريد تهديد أحد.

ويرفض الشباب الجزائري، اتهامه بالتحريض على العنف والإرهاب، وقال إن "زواجه من سيدة فرنسية، دليل على رغبته في الاندماج".

"زازو يوسف"، البالغ من العمر 25 عاما، كان لديه أكثر من 400 ألف متابع على تيك توك قبل إغلاق حسابه، اعترف خلال التحقيق بنشر مقاطع فيديو تدعو إلى شن هجمات في فرنسا وأعمال عنف في الجزائر.

ومن المقرر محاكمته في 24 فبراير المقبل، حيث يواجه عقوبة السجن لمدة تصل إلى سبع سنوات وغرامة قدرها 100 ألف يورو في حال إدانته.

أما "عماد تانتان"، البالغ من العمر 31 عاما، فدخل فرنسا في ديسمبر عام 2021، وتقدّم بطلب للحصول على تصريح إقامة في أغسطس عام 2023، بعد زواجه من امرأة فرنسية، لكن طلبه قوبل بالرفض، وأصبح الآن مهددا بالترحيل إلى الجزائر.

هذه الأحكام المرتقبة، قد تكون قاسية، بحسب فرانسواز جيري.

قال جيري: "مصلحة فرنسا تقتضي التريث في إصدار أحكام على شبان لا يفقهون شيئا، لا في السياسة ولا في القانون، ووجدوا أنفسهم في خضم خلاف دبلوماسي".

الجزائر تتهم وفرنسا ترد و"التوتر يتفاقم".. ماذا يحدث بين البلدين؟
أعرب وزير الخارجية الفرنسي جون نويل بارو، الأحد، عن "أسفه" للتطورات الأخيرة في العلاقات مع الجزائر، وذلك على إثر استدعاء سفير بلاده الذي أبلغت الخارجية الجزائرية "تحذيرا شديد اللهجة"، بسبب "الاستفزازات والأعمال العدائية الفرنسية اتجاه الجزائر".

وأكد وزير الخارجية الفرنسية خلال حوار صحفي له مع إذاعة "فرانس أنتير" خبر استدعاء سفير بلاده في الجزائر، ستيفان روماتيه، من قبل الخارجية الجزائرية.