مع أولى خيوط الفجر يستقبل أبوبكر محمد نورالدين المعصوم يوما جديدا، متجولا في ساحة وبهو المجمع الديني لضريح سيدي بومدين الإشبيلي، الذي يرقد في أعالي مدينة تلمسان، غربي الجزائر.
ورث نور الدين مهمة وكيل الضريح (المقدم) عن والده، ضمن تقاليد تمتد إلى نحو 3 قرون، اعتادت فيها العائلة خدمة الزوار والمريدين، ويقول لـ"الحرة" إنها مهمة "نبيلة تتشرف عائلتي بالقيام بها، أبا عن جد، في هذا المكان الذي يرقد فيه قطب التصوف سيدي بومدين".
وأبو مدين شعيب بن الحسين الأنصاري الأندلسي (1115 / 1198)، واحد من أبرز علماء الفقه والتصوف في العالم الإسلامي، ولد في الأندلس وتوفي في تلمسان (عاصمة الدولة الزيانية)، وعرف بترحاله لطلب العلم من الأندلس إلى المغرب، والجزائر، والمشرق العربي، وفلسطين، وتحول ضريحه في تلمسان إلى مزار رئيسي.
يشير نورالدين إلى أن أبي مدين شعيب "اكتسب احترام الجميع من خلال علمه الذي مزج فيه بين الديني والدنيوي وتصوفه وسعيه الدائم لإحلال المحبة والسلام في محيطه"، مضيفا أن شخصية سيدي بومدين "اكتسبت حضورا قويا في الأندلس مرورا بالمشرق العربي ثم الجزائر".
وفي هذه الأثناء، يحرص نور الدين على دعوة الزوار، صباح الجمعة، للبقاء لتناول الكسكسي (الطعام) التلمساني المزين بخلطة من البصل والزبيب والعسل والقرفة.
ويقول المتحدث إن عائلته "تحرص كل جمعة على تقديم أطباق الطعام للقادمين إلى الضريح والمريدين الذين يأتون من غالبية ولايات الجزائر، يزورن الضريح ويشعلون الشموع في بهوه ويقرأون الفاتحة"، وهي من أهم طقوس الزيارة.
رؤساء وقادة
يعرف ضريح سيدي بومدين في تلمسان بكونه مقصدا للعامة من الناس، فضلا عن مشايخ الزوايا، خصوصا القادمين من جنوب البلاد، كما يعتبر مزارا للسياسيين والقادة والرؤساء.
ويتذكر جمال حمليلي، وهو أحد القاطنين في الحي العتيق سيدي بومدين، يوم زيارة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند للضريح خلال مرافقة الرئيس بوتفليقة له ضمن برنامج زيارته التي استهلها للجزائر في 19 ديسمبر 2012.
ويقول جمال لـ"الحرة" إن الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، كان يزور دوما ضريح سيدي بومدين على هامش زياراته المتعددة لتلمسان، كما تردد الرئيس الأسبق أحمد بن بلة على الضريح مرات عدة، منذ عودته للجزائر من منفاه الاختياري في سويسرا عام 1990.
ويتذكر المتحدث أن شخصيات سياسية، ورؤساء أحزاب، زاروا الضريح خلال المناسبات الانتخابية التي قادتهم للمدينة، على مدار العقود الماضية.
ويعتبر ضريح سيدي بومدين عينة من عدة أضرحة تستقطب الزوار من كل جهات الجزائر، بما في ذلك كبار المسؤولين.
وفي أعلى هضبة بضواحي بلدة سيدي الجيلالي، التي تبعد بنحو 80 كلم عن عاصمة الولاية تلمسان، يرقد سيدي يحيى بن صفية، وهو جد إحدى القبائل المعروفة باسم "أولاد انهار" غربي الجزائر.
وبمرور الوقت أقام أحفاد سيدي يحيى من أبنائه موسما (وعدة)، تحولت إلى عرف يقام مطلع خريف كل سنة، يجتمع فيه الناس من كل الجهات، يقيمون الحفلات وينظمون ركوب الخيل وإطلاق البارود (الفنتازيا)، و بالتزامن مع تلك الاحتفالات تحول ضريحه إلى مزار ورمز ديني، كما تم إنشاء زاوية حملت اسم "الزاوية العلمية سيدي يحى بن صفية"، يدين لها الكثير من أتباعها بالولاء الروحي، وتحظى بدعم مالي ومعنوي من الحكومة.
أسباب انتشارها
يوجد في الجزائر مئات الزوايا التي تلتف حول مرجعية التصوف والاعتدال، وعدم الخوض في المسائل الخلافية الحادة وتفادي التشدد.
ويقول الأمين العام للفيدرالية الوطنية للأئمة وموظفي الشؤون الدينية والأوقاف في الجزائر، جلول حجيمي لـ"الحرة" أن الزوايا "تستمد نفوذها الروحي المطلق على مئات الآلاف من الأتباع والمريدين والمحبين بسبب اعتدالها ووسطيتها وتاريخها المعروف بمحاربة الاستعمار الفرنسي".
ويذكر حجيمي مثالا على ذلك: الزاوية التيجانية، وهي من بين الزوايا الكبرى في العالم، ومقرها في عين ماضي بالأغواط جنوبي البلاد"، وتعرف بنفوذها الواسع وأتباعها الذين ينتشرون في عدد من البلدان الأفريقية وفي أوروبا الغربية، ودول آسيوية.
ويتابع حجمي حديثه منوها بـ"الدور الاجتماعي للزوايا في مساعدة السكان وعقد الصلح بين الأفراد والجماعات، والدور التربوي ممثلا في تدريس اللغة العربية وحفظ القرآن وتعليم الصغار"، مضيفا أن ذلك "أكسبها قربا من المجتمع بمكوناته المعتدلة".
زوايا وطرق صوفية
وتتخذ الزوايا في الجزائر أسماء عدة، تنسب وفق انتمائها لطرق معينة، والطرق بمثابة مذاهب في التصوف، وأبرزها الطريقة القادرية، وتسمى أيضا الطريقة الجيلانية، وتنتسِب إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني، الذي أسسها في القرن الخامس الهجري في بغداد بالعراق.
كما تنتشر الطريقة الرحمانية، التي تنسب إلى مؤسسها محمد بن عبد الرحمان القشتولي الجرجري الأزهري، المولود حوالي سنة 1720 في قبيلة آيت إسماعيل في جبال جرجرة بتيزي وزو بمنطقة القبائل شمال شرق الجزائر، إضافة إلى الطريقة التيجانية واسعة الانتشار والشاذلية، والطريقة البلقايدية التي ظهرت في تلمسان، ولها مقرات في الجزائر العاصمة ووهران (غرب).
"في مواجهة التشدد"
ولا يتوقف تأثير الزوايا على الجانب الاجتماعي التربوي والديني، بل يتعداها إلى الشق السياسي، ورغم ذلك يؤكد الباحث في علم الاجتماع الديني، مصطفى رواجعي، أن الحكومة "حاربت الزوايا في سنة 1962، بعد الاستقلال، ومنعت نشاطها، كما قامت بحجز وتأميم ممتلكاتها وأوقافها ".
وبعد قرابة 18 سنة من استقلال البلاد، بدأت السلطة خلال الثمانينيات، وفق رواجعي، في "فتح أبواب النشاط للزوايا ضمن سياسة الانفتاح على المجتمع التي انتهجها الرئيس الأسبق، الشاذلي بن جديد في تلك الفترة من حكمه".
ويروي مصطفى رواجعي لـ"الحرة" كيف وجدت السلطة نفسها "جنبا إلى جنب الزوايا لمكافحة الخطاب المتشدد عقب دخول الجزائر مرحلة العنف الدموي الذي اندلع بينها وبين الإسلاميين خلال التسعينيات".
ومع مرور الوقت تحولت الزوايا إلى سند قوي للسلطة في مواجهة الخطاب الديني المتشدد، حسب رواجعي، الذي أشار إلى أن الزوايا "تمثل الإسلام التقليدي المعتدل، كما تحولت بعدها إلى وعاء انتخابي لرموز الحكومة في مختلف الاستحقاقات الانتخابية، بحكم نفوذها الروحي الكبير في المجتمع".