قوات الكوماندوز التابعة للجيش المالي
الجزائر رعت اتفاق "سلم ومصالحة" بين الحكومة المالية والحركات المسلحة

وصلت العلاقات بين الجزائر ومالي إلى مستوى من التصعيد الجديد في اللهجة الدبلوماسية على إثر الاتهامات التي كالتها باماكو لجارتها، واستهلتها بـ "دعم الجماعات الإرهابية، والتدخل في الشؤون الداخلية"، وذلك في إشارة إلى دعمها لحركة "الأزواد" التي تسعى لانفصال عن شمال مالي.

ورعت الجزائر اتفاق "سلم ومصالحة" بين الحكومة المالية والحركات المسلحة (الطوارق) سنة 2015 وتضمن 68 بندا، أهمها اعتراف باماكو بخصوصية الإقليم الشمالي في إطار الدولة الموحدة.

إلا أن المجلس العسكري في مالي أعلن في يناير 2024 إنهاء الاتفاق، مرجعا ذلك إلى "التغير في مواقف بعض الجماعات الموقعة والأعمال العدائية" من جانب الجزائر.

والطوارق جماعة عرقية بمنطقة الصحراء الكبرى، ومنها أجزاء من شمال مالي. ويشعر العديد منهم بالتهميش من حكومة بلادهم، ويطالبون باستقلال منطقة أزواد عن باماكو.

وانتقدت مالي، في بيان لها الأربعاء الماضي، تصريحات وزير الخارجية الجزائري، أحمد عطاف، التي "علق فيها على الاستراتيجية المالية لمكافحة الإرهاب"، منددة "بشدة بهذا التدخل الجديد للجزائر في شؤونها الداخلية"، وفق البيان.

وذكّرت الوزارة بإدانتها السابقة لـ"قرب الجزائر وتواطؤها مع المجموعات الإرهابية التي تزعزع استقرار مالي".

وأضاف المصدر أن "الخيارات الاستراتيجية لمكافحة المجموعات الإرهابية المسلحة المدعومة من دول أجنبية، تندرج فقط في إطار سيادة مالي..".

ودعت بماكو الجزائر إلى "توجيه جهودها نحو معالجة أزماتها وتناقضاتها الداخلية، بما في ذلك قضية القبائل والكف عن جعل مالي رافعة لتموضعها الدولي".

والحديث عن منطقة القبائل (شمال شرق) بهذا التلميح من القضايا التي تثير حساسية بالغة لدى الجزائر التي تصنف تنظيم "حركة تقرير مصير القبائل (الماك)" ضمن "التنظيمات الإرهابية المحظورة".

وكان وزير الخارجية، أحمد عطاف تحدث في مؤتمر صحفي، الإثنين الماضي، ردا على سؤال يتعلق بموقف بلاده من تواجد قوات فاغنر بمالي: "قلنا للأصدقاء الروس لن نسمح ولن نقبل لكوننا جزائريين بأن تُحول حركات سياسية (الأزواد) كانت طرفاً موقعاً على اتفاق الجزائر للسلم في مالي، بين ليلة وضحاها إلى عصابات إرهابية".

وأضاف عطاف أنّ بلاده "أرادت إقناع الصديق الروسي بالبديهيات التي عالجت بها الجزائر، من خلال تجربتها الطويلة للملفات في منطقة ‎الساحل، على مدى عقود، وأن الحل العسكري (في شمال مالي) غير ممكن، وجُرب ثلاث مرات وفشل".

الوضع في مالي وأمن الجزائر

وتعليقا على هذه التطورات، استغرب الدبلوماسي الجزائري السابق، مصطفى زغلاش، "الحدة التي تضمنها البيان المالي بألفاظ غير لائقة دبلوماسيا"، مشيرا إلى وجود "إيعاز خارجي من بلدان أفريقية أو من خارج القارة".

وشدد السفير الجزائري السابق لدى حديثه لـ "الحرة" على أن "عدم الاستقرار في مالي وباقي دول الجوار في الساحل ومنطقة الصحراء يؤثر على الأمن الداخلي للجزائر".

وتباعا لذلك أشار المتحدث إلى أن ذلك "يمنح بلاده الحق في التدخل لحماية البعد الأمني لها"، مضيفا أن الجزائر "تدفع ثمن تدهور الأوضاع في مالي عبر تدفق موجات بشرية من المالين منذ الانقلاب الأخير".

وشهدت مالي انقلابين في عامي 2020 و2021، أوصلا المجلس العسكري إلى السلطة في البلاد، الذي وثق صلاته بروسيا عن طريق مجموعة فاغنر التي تشارك قواته أعمالا عسكرية ضد الطوارق شمالا.

وفي هذا الصدد، يتساءل زغلاش عن أسباب "تجاهل المجلس العسكري لسيادة مالي، عندما استعان بقوات أجنبية (فاغنر الروسية) لمواجهة جزء من مواطنيه، عوضا عن الحلول السلمية".

مضيفا أن بلاده ظلت "حريصة على سيادة واستقرار مالي بأدوات سلمية، رعتها باتفاق السلم والمصالحة الذي أخل به العسكر".

"علاقة ندية" مع الجزائر

ومن العاصمة المالية باماكو، قال المحلل السياسي، مصطفى سنكاريه، لـ"الحرة" إن هذا التطور يأتي في سياق "تكريس السيادة المالية التي بدأها المجلس العسكري منذ وصوله السلطة بإجلاء القوات الفرنسية ثم الأممية"، معتبرا "بيان الخارجية شأن سيادي بحت".

وأضاف المتحدث أن مالي لها من "الإمكانيات العسكرية والسياسية، ما يجعلها قادرة على رعاية أي مبادرة بعيدا عن الوصاية الأجنبية بما في ذلك الجزائر"، مشيرا إلى أن بماكو تريد أن يكون التعامل بين البلدين في إطار "علاقة ندية بعيدا عن الوصاية السياسية".

وتوقع سنكاريه استمرار المناكفات السياسية بين البلدين "مادامت الجزائر تسمح بتسلل المسلحين من ترابها نحو الحدود مع مالي وترعى نشاط هذه المجموعات"، وفق قوله.

وكان المتحدث باسم الحكومة المالية، عبد الله مايغا، اتهم في سبتمبر 2024، الجزائر "بإيواء الإرهابيين"، في كلمة ألقاها خلال الدورة الـ 79 للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، ونفت الجزائر تلك الاتهامات في حينها، وأكد وزير خارجيتها خلال كلمته بنفس المناسبة أن "الأمن والاستقرار في الساحل جزأ لا يتجزأ من أمن واستقرار الجزائر".

"قطيعة نهائية"

وبالنسبة للباحث في الشؤون الأفريقية، المالي محمد ويس المهري، فإن العلاقات بين البلدين تتجه "نحو المزيد من التوتر"، منذ تخلي باماكو عن اتفاق الجزائر، و"رغبتها في التوصل لحل دون وسيط خارجي"، مشيرا إلى أن عودة الاشتباكات بين الحكومة والمسلحين جعل الجزائر "تنحاز إلى جانب تلك المجموعات، ومحاولة الضغط على الحكومة للعودة إلى الاتفاق".

وتوقع المهري في حديثه لـ"الحرة" أن يتجه مسار العلاقات نحو "المزيد من التوتر بشكل كبير"، مشيرا إلى أنه "لا وجود لمؤشر" على إمكانية التواصل إلى تفاهمات بين العاصمتين.

وأكد المتحدث أن باماكو "ترفض التدخل في علاقاتها سواء مع الجماعات المسلحة، أو في تعاونها مع مجموعة فاغنر"، موضحا أنه يتعين على الجزائر التوقف عن التدخل في الشأن المالي، والتعاون عبر القنوات الرسمية، لأن الاستمرار في هذا المسار سيؤدي إلي القطيعة النهائية معها".

"لا حدث"

وبعكس ذلك، يشير المحلل السياسي الجزائري، فاتح بن حمو إلى أن الجزائر "حريصة" على استقرار علاقاتها الدبلوماسية مع مالي"، منتقدا البيان الذي "انزلق نحو الحديث عن شأن جزائري داخلي (القبائل) غالبا ما تفتعله قوى معادية للجزائر"، مضيفا أن العالم "يدرك مسبقا أن العنصر الأمازيغي جزء لا يتجزأ من الدولة الجزائرية وعناصر هويتها".

وأشار بن حمو في تصريحه لـ"الحرة إلى أن الجزائر بمؤسساتها المنتخبة "تعمل جاهدة على تفادي النزاعات المسلحة في الساحل ومنطقة الصحراء التي تعتبرها جزءا من أمنها القومي".

كما ذكر المتحدث أن بلاده تملك "رصيدا في مكافحة الإرهاب"، وأن دعمها لحركة الأزواد يأتي من منطلق أن هذا الكيان "عنصر أساسي من عناصر استقرار مالي والمنطقة"، وتوقع بن حمو عدم رد الجزائر على البيان باعتباره "لا حدث".

تشهد دول منطقة الساحل هجمات متزايدة للجماعات الإرهابية
تشهد دول منطقة الساحل هجمات متزايدة للجماعات الإرهابية

تجدد الحديث عن خطر الجماعات الإرهابية المسلحة في منطقة الساحل والصحراء الكبرى إلى الواجهة، عقب إعلان الجيش الجزائري عن تحرير سائح إسباني من قبضة جماعة مسلحة، كما جاء ذلك بعد فترة من انسحاب القوات الأميركية من قاعدة رئيسية للطائرات المسيرة قرب مدينة أغاديز الصحراوية، بطلب من حكومة النيجر، مقابل ظهور مرتزقة فاغنر الروسية التي تحاول التمدد في الساحل الأفريقي بتقديم خدماتها لحكومات من دول المنطقة.

وتمكنت المصالح الأمنية للجيش الجزائري، الثلاثاء، من تحرير الرعية الإسباني، نفارو كندا جواكيم، الذي تم اختطافه من قبل مجموعة مسلحة في منطقة الساحل منتصف الشهر الجاري.

وحسب بيان لوزارة الدفاع الجزائرية فإن الرعية الإسباني كان في رحلة سياحية حين تعرض للاختطاف من قبل عصابة مسلحة تتكون من خمسة أفراد بتاريخ 14 يناير الجاري على الحدود الجزائرية المالية، ضمن نطاق الناحية العسكرية السادسة.

ونقل السائح الإسباني على متن طائرة عسكرية من جنوب البلاد إلى القاعدة العسكرية لبوفاريك (شمال) قبل تسليمه لسطات بلاده.

كما شهدت المنطقة الجنوبية للجزائر، مقتل سائحة سويسرية، في 11أكتوبر 2024، بمدينة جانت، عندما هاجمها رجل بسكين خلال وجودها في أحد المقاهي وأقدم على ذبحها أمام أطفالها، وهو يصرخ "الله أكبر"، وفق ما أوردته وكالة فرانس براس.

وتشهد منطقة الساحل توترات أمنية على خلفية عدم الاستقرار الذي أعقب سلسلة من الانقلابات العسكرية، ومقابل انسحاب القوات الفرنسية والأميركية من المنطقة، ظهرت مجموعة فاغنر الروسية في المشهد الأمني لدعم وترسيخ حكم العسكريين في مالي والنيجر وبوركينافاسو.

ويُقصد بالساحل الأفريقي "الحزام الفاصل بين الصحراء والمناطق الجنوبية الخصبة والكثيفة بغابات السافانا، ويُغَطِّي أجزاءً من شمال السنغال، وجنوب موريتانيا، ووسط مالي، وشمال بوركينا فاسو، وأقصى جنوب الجزائر، والنيجر، وأقصى شمال نيجيريا، وأقصى شمال الكاميرون، وجمهورية إفريقيا الوسطى، ووسط تشاد ووسط وجنوب السودان وأقصى شمال جنوب السودان وإريتريا وأقصى شمال إثيوبيا، وفق تعريف للمركز الأفريقي للأبحاث ودراسة السياسات.

وساهم قيام مجموعة فاغنر بقيادة المواجهات بين الجيش المالي وجماعات الطوارق المتمردة على باماكو في موجة من التصعيد الأمني والعسكري بمنطقة "تين زواتين" على الحدود الجزائرية المالية، وتكبدت فاغنر في يوليو 2024 خسائر بشرية ومادية كبيرة أثناء تلك المعارك المسلحة، قبل أن تعاود قوات مالية الهجوم على الطوارق في أغسطس 2024 وتكبدهم خسائر بشرية.

جماعات متشددة "تدير أقاليم في أفريقيا"

ومع تزايد المواجهات تستغل الجماعات الإرهابية والمسلحة الناشطة في تهريب السلاح والبشر والمخدرات حالة التصعيد لتوسيع نطاق تواجدها، ويرى وزير الخارجية الجزائري، أحمد عطاف، أن "بؤرة الإرهاب العالمي انتقلت إلى منطقة الساحل الصحراوي، التي أصبحت تتركز فيها أكثر من 48 بالمئة من الوفيات المرتبطة بالإرهاب في العالم".

وأثناء جلسة لمجلس الأمن الدولي الأسبوع الجاري، ترأستها الجزائر، ذكر عطاف أن أفريقيا قد "تعرضت خلال الأشهر التسعة الأولى فقط من عام 2024 لأكثر من 3.200 هجوم إرهابي أودى بحياة أكثر من 13.000 شخص".

وتحدث عطاف عن "جماعات إرهابية تسيطر على مناطق جغرافية شاسعة، تصل إلى أكثر من 60 بالمئة من الأقاليم الوطنية لبعض دول المنطقة وتشرف على إدارتها كسلطات أمر واقع"، مضيفا أن "جماعات إرهابية تستخدم التكنولوجيات الجديدة والابتكارات المالية التي تجعل من شبكات أعمالها معقدة وصعبة الترصد".

وتعليقا على الواقع الجديد الذي تسعى هذه الجماعات لتكريسه، يرى الكاتب والباحث في شؤون الجماعات الإسلامية، عبد القادر حريشان، أن منطقة الساحل تمر "بتحولات عميقة وخطيرة في آن واحد، بسبب التغييرات التي طرأت على بعض أنظمتها بشكل عنيف".

ويشير حريشان في حديثه لـ "الحرة" إلى أن التحولات التي مست أنظمة في العديد من دول الجوار، بما في ذلك التي أعقبت الربيع العربي، "زادت من هشاشة الأوضاع الأمنية، وعززت من تواجد الجماعات المتشددة" التي تنشط بشكل لافت في جنوب الصحراء الكبرى والساحل.

واستدعى ذلك وفق المتحدث "تعزيز" الجزائر لتواجدها الأمني على طول الحدود الجنوبية والشرقية بصفة خاصة، و"تكثيف" التعاون الأمني مع عدة شركاء، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية، "بغرض تشديد الخناق على تلك الجماعات".

ووقعت الجزائر، الأربعاء الماضي، مذكرة تفاهم مع الولايات المتحدة بين نائب وزير الدفاع الجزائري، السعيد شنقريحة، وقائد القيادة الأميركية في أفريقيا، مايكل لانغلي "تركز على التعاون العسكري"، الذي قال في تصريح له إنه وقع رفقة شنقريحة على مذكرة تفاهم "تؤسس لجميع الأهداف الأمنية التي تجمع البلدين".

"انسحاب" القوات الدولية

ومن العاصمة المالية باماكو يؤكد الباحث في الشؤون الأفريقية، محمد ويس المهري، أن الوضع في منطقة الساحل يشهد "تفاقما كبير من الناحية الأمنية وتمدد الجماعات الجهادية المتمثلة في تنظيم القاعدة وداعش"، في ظل تطورات داخلية وخارجية كبيرة في المنطقة.

ويرجع محمد ويس المهري هذه التطورات إلى "انسحاب القوات الدولية في مقدمتها الأميركية التي كانت تستهدف نشاط هذه الجماعات انطلاقا من قاعدتها في النيجر"، مضيفا في حديثه لـ "الحرة" أن الاختطاف والمطالبة بالفدية أصبحت "تجارة رائجة" لدى هذه الجماعات لتمويل عملياتها العسكرية.

ويجدد المتحدث تأكيداته على أن انسحاب القوات الأميركية التي كانت تستخدم الطائرات بدون طيار لمطاردة تلك الجماعات "أثر بشكل مباشر على الوضع الأمني في المنطقة، وفسح المجال لجماعات مسلحة للتحرك بحرية"، مشيرا إلى أنه من الضروري "تركيز الجهود مرة أخرى على مكافحة تمدد المتشددين في بلدان الساحل والصحراء الكبرى".