من جبال جرجرة "القبائلية" شرق الجزائر، مروراً بأوراس "الشاوية"، إلى هقار "الطوارق" جنوباً، ينبض إرث الأمازيغ الثقافي والحضاري العريق بروح التحدي التي تسكن رجاله المحاربين المنحدرين من شمال أفريقيا منذ آلاف السنين.
نقش الأمازيغ (الاسم الذي يعني الأحرار) هويتهم بحروف تيفيناغ (اللغة الأمازيغية) على صخور الجبال، حفاظاً على لغتهم وثقافتهم رغم ثقل التاريخ والتحديات، والحروب التي خاضوها ضد الطامعين والغزاة.
وقصة الأمازيغ ليست مجرد صفحات من التاريخ، بل هي نبض الحياة الذي يتجلى في أغانيهم ورقصاتهم وأزيائهم التقليدية.
وبالتقويم الأمازيغي، نحن في سنة 2975، العام الجديد الذي يحتفل به الأمازيغ في الثاني عشر من يناير الجاري. وهي دعوة مفتوحة لاستكشاف عالمهم المليء بالسحر والتحدي والكبرياء.
القبائل.. أيقونة أمازيغية
لم تكن منطقة القبائل مجرد جبال شاهقة، بل مدارس حقيقية صقلت شخصيات الأمازيغ على مر العصور. ففي صراعهم الدائم مع الطبيعة والغزاة، تعلموا الصبر والقوة والشجاعة.
من الماضي إلى الحاضر، ظلت منطقة القبائل (شرق الجزائر) في قلب الأحداث. فهي تمتد عبر عدة ولايات، أبرزها تيزي وزو، سطيف، بجاية، البويرة، بومرداس، وبرج بوعريريج، والتي تُعرف اختصاراً بمنطقة القبائل.
يشكل القبائل جزءاً هاماً من النسيج الاجتماعي والثقافي في الجزائر. وبمرور الزمن، تحولت المنطقة إلى أيقونة بارزة. ويفسر المؤرخ المتخصص في الشأن الأمازيغي، محمد أرزقي فراد، ذلك في حديثه لموقع "الحرة" بـ"الوعي التاريخي والثقافي والسياسي السائد منذ القدم في المنطقة".
ويقول أرزقي فراد إن المنطقة "كانت جزءاً من المقاومة الأمازيغية للأطماع الرومانية التي قادها يوغرطة الماسيلي ما بين 112 و105 قبل الميلاد، وتواصلت بالتصدي لكل الغزاة".
يُعتبر التراث القبائلي، بما يشمله من عادات وتقاليد وأزياء وأغاني وشعر، الركيزة الأساسية التي تقوم عليها الهوية. فهو الذاكرة الجماعية التي تروي القصص، إلا أن "تمازيغت" (اللغة الأمازيغية) تعد أهم مكوناته. ولهذا السبب، ظلت محور نضالهم إلى أن تم الاعتراف بها كعنصر أساسي للهوية في الدستور الجزائري ابتداءً من عام 2002.
رسخت أسماء كثيرة في تاريخ القبائل الحديث، بدءاً من لالة فاطمة نسومر، القائدة الأمازيغية التي حاربت الاستعمار الفرنسي، مروراً بالشيخ المقراني، وبوبغلة، والشيخ الحداد. وبين ثنايا جبال المنطقة ترقد روح المطرب معطوب الوناس (1958-1998)، الذي قاد النضال من أجل الهوية منذ الثمانينيات إلى أن سكنت قلبه رصاصة غادرة. رحل معطوب، إلا أن إرثه ظل خالداً، حيث يذكّر صوته الجميع بثمن الحرية.
أوراس الشاوية.. مهد الثورة
قمة جبلية أخرى شامخة ترسم خريطة الأمازيغ، وهذه المرة بين جبال أوراس الشاوية في أقصى الشرق الجزائري، الذين اقترن اسمهم بالشجاعة ومحاربة الغزاة، من الرومان إلى الفرنسيين.
وإضافةً إلى ولاية باتنة، يتواجد الشاوية بشكل أساسي في مناطق أخرى، وهي: تبسة، سوق أهراس، قالمة، خنشلة، أم البواقي، وبسكرة.
وتشكل قبيلة "هوارة"، التي تضم عشائر كثيرة أبرزها النمامشة، الحراكتة، وآث داود، أحد مكونات الشاوية، إلى جانب قبائل أخرى مثل "الزناتة"، وآيت سعادة، وآيت عبدي.
يشكل الشاوية عنصرا هاما من مكونات الهوية في الجزائر، وظل اسمهم مرادفا للشجاعة والإقدام، ونتيجة لذلك ورثوا تقاليد وتعابير اجتماعية حيث السيف والبندقية جزء لا يتجزأ من مظاهر احتفالاتهم بالأعياد والمناسبات الاجتماعية.
تحمل المرأة الشاوية رمزية خاصة في الموروث الشعبي وهي ترتدي "الملحفة" أو "هيملحفت" بالشاوية، وهي قطع قماش ذات فخامة تتضمن عناصر عديدة من الموروث الثقافي بما في ذلك حلي الفضة.
تدرس المقررات التعليمية أن الثورة الجزائرية أطلقت أول رصاصة لها يوم 1 نوفمبر 1954 من جبال الأوراس، وحفل تاريخها بأسماء عكست تعلق الشاوية بالوطن والحرية، أمثال مصطفى بن بولعيد، وقادة ورؤساء بعد الاستقلال (هواري بومدين و ليامين زروال).
الطوارق.. الفرسان الزرق
يعرفون باسم رجال الصحراء الزرق، أولئك الذين يمتطون الجمال والخيول ويحفظون طرق الصحارى عن ظهر قلب.
استمد الطوارق تسميتهم من لباسهم التقليدي، خصوصا العمامة الزرقاء التي يغطون بها رؤوسهم ويخفون وراءها وجوههم، بسبب لهيب شمس الصحراء الحارقة، ويعيشون بشكل رئيسي جنوب الجزائر والصحراء الكبرى.
يمتد تواجد الطوارق إلي دول مجاورة مثل مالي والنيجر وجنوب غرب ليبيا، إلا أنهم في الجزائر تمسكوا باستقرارهم النسبي في أرض قبائلهم التي دافعوا عنها بقوة خلال عقود الاستعمار الفرنسي.
اكتشف الباحثون العديد من النقوش الصخرية في مناطق تواجد الطوارق بالجزائر، التي تصور حياة الناس والحيوانات في تلك الفترة التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ.
يفضل الطوارق تسميتهم بـ (إيموهاغ)، وهي تعني بالعربية " الرجال الشرفاء الأحرار"، وفق ما نشره معهد كارنيغي الأميركي حول "قبائل الطوارق"، و"يتحدث الطوارق اللغة الطارقية، وهي خاصة بهم، لها عدة لهجات مثل التماشق والتماجق والتماهق، يتباين استخدامها من قبيلة إلى أخرى".
يحظى الطوارق في الجزائر باهتمام كبير، نظرا لتاريخهم البارز في الحرب ضد الفرنسين، وأبرزهم الشيخ آمود أغ المختار (1859/ 1928) الذي قاوم "الاحتلال الفرنسي" بشدة، وحاليا يعتبر كبير أعيان الطوارق وعضو مجلس الأمة، بكري غومة بن براهيم، أحد أبرز قادتهم.
سحر الحياة في بني مزاب
يعرفون بالانضباط كما يتميزون بزيهم الأبيض الموحد، ومذهبهم الديني الإباضي السائد بينهم، والمختلف عن المذهب المالكي الغالب في الجزائر.
والمذهب الإباضي هو "أحـد المدارس الإسلامية التي وضع أسسها وشكّل ملامحها الإمام جابر بن زيد، ويقوم على عقيدة المسلمين ولا علاقة له بالجـنس والعـرق والدّم".
تتمركز قبائل المزاب في واحات وادي مزاب في جنوب الجزائر (ولاية غرداية) التي تشتهر بهندستها المعمارية المميزة، وهم أحد "أفرع قبيلة زناتة الأمازيغية التي استوطنت المغرب الأوسط (الجزائر)"، وفق ما يذكر موقع "آت مزاب" المتخصص في تاريخ أمازيغ بني ميزاب.
لا وجود لمظاهر فردية في الحياة بين بني مزاب، فهم قبائل تتميز بالتكافل والاحتفال بالأعراس الجماعية وإحياء المناسبات الاجتماعية والدينية في إطار جماعي بمظاهر تعكس سحرا حقيقيا نادرا ما يوجد في الجزائر، إذ يحتكمون لنظام تسيير خاص بهم وفق عاداتهم وتقاليدهم.
ويعتبر "العرف" في منطقة بني مزاب قانونا نافذا يحتكم إليه الجميع، في اتخاذ القرار عن طريق كبار وأعيان العشائر الذين يجتمعون تحت اسم "العوام" الذين ينسقون شؤون المجتمع الميزابي مع مجلس "العزّابة" وهم رجال الدين.
ويلفت بني مزاب انتباه الرأي العام المحلي وحتى الخارجي بمظاهرهم الاحتفالية المميزة الساحرة التي يسودها الانضباط التام والحضور القوي.