فرنسا - الجزائر - الاستعمار الفرنسي - حرب الذاكرة

في تحرك تشريعي جديد على صلة بـ"ملف الذاكرة" الشائك مع فرنسا، أعلن مجلس النواب الجزائري عن تشكيل لجنة برلمانية خاصة، للشروع "فوراً" في صياغة مشروع قانون لـ"تجريم الاستعمار الفرنسي"، بمشاركة جميع التكتلات السياسية والتيارات الممثلة في البرلمان.

وتتألف اللجنة من 6 أعضاء، يمثلون مختلف المجموعات البرلمانية، بما فيها أحزاب "جبهة التحرير الوطني"، و"التجمع الوطني الديمقراطي"، و"حركة البناء الوطني"، وحركة "مجتمع السلم"، إضافة إلى نواب مستقلين وتكتل غير المنتمين.

وعقب تشكيلها، أعلنت اللجنة عزمها فتح نقاش وطني واسع ومشاورات مع مختلف المؤرخين والقانونيين والفاعلين الوطنيين، بهدف الوصول إلى "صياغة متكاملة للقانون"، قبل مناقشته والمصادقة عليه.

أهداف القانون وتاريخه

ويسعى مشروع قانون تجريم الاستعمار الفرنسي، الذي سبق طرحه مرات عدة في البرلمان الجزائري، إلى كشف جرائم فرنسا خلال الحقبة الاستعمارية التي امتدت لـ 132 عاما (1830-1962)، وإبرازها أمام الرأي العام المحلي والدولي، والمطالبة بالاعتراف بها وتحمل المسؤولية تجاهها.

وأكد رئيس مجلس النواب الجزائري، إبراهيم بوغالي، أن مسألة الذاكرة الوطنية "ليست ورقة ضغط أو مساومة، كما يُروّج لها البعض، وإنما التزام أخلاقي وتاريخي".

وأشار بوغالي في تصريحات نقلتها وسائل إعلام جزائرية، إلى أن "هذه القضية حظيت باهتمام المشرّع الجزائري منذ الفترة التشريعية الرابعة، حيث قُدّمت 5 مقترحات قانونية من مختلف التشكيلات السياسية".

وأضاف المسؤول الجزائري أن الرئيس عبد المجيد تبون شدّد على أن "ملف الذاكرة لا يخضع للتقادم أو التناسي، ولا يقبل التنازل أو المساومة، وسيظل في صميم انشغالات الدولة، حتى تتم معالجته بموضوعية وإنصاف للتاريخ".

وتضمنت مشاريع قوانين تجريم الاستعمار، التي تعاقبت على البرلمان الجزائري على مدار السنوات الماضية، بنودا عديدة، أبرزها النص على تقديم تعويضات لضحايا تلك الانتهاكات.

ومن بين ضحايا الاستعمار الفرنسي، عائلات المقاومين الذين قضوا خلال حرب التحرير، وقبلها، بالإضافة إلى الأشخاص الذين يعانون من تشوهات بسبب التجارب النووية، التي أجرتها السلطات الاستعمارية في مطلع ستينيات القرن الماضي،  إلى جانب أجيال من المنفيين إلى كاليدونيا الجديدة، منذ أوائل القرن 19.

"جرائم لم تسقط بالتقادم"

وعن أبعاد المبادرة التشريعية الجديدة وغاياتها، يرى محللون جزائريون أنها لا تنحصر فقط عند المعالجة التاريخية للحقبة الاستعمارية، بل تتعداها إلى تأسيس أرضية قانونية تؤطر العلاقات المستقبلية بين البلدين وفق منظور جديد.

المحلل السياسي الجزائري، نبيل بن يخلف، يرى أن هذه الخطوة، تبقى "إطاراً قانونيا للتعامل مع الفترة الاستعمارية الفرنسية كجريمة لم تسقط بالتقادم مما تترتب عنها أحكام وإجراءات مثل أي جريمة راهنة".

ويوضح في تصريح لموقع الحرة، أن التحرك التشريعي، يبتغي كذلك "الاعتراف التاريخي بالاستعمار، الذي يتضمن إعادة بناء سردية مشتركة للمرحلة والتعويض عن الضرر".

ويضيف بن يخلف أن للقانون المرتقب غايات استراتيجية تتمثّل في إعادة وضع أهم المسائل العالقة بين البلدين على الطاولة، مثل تنظيف النفايات النووية في الصحراء، ونيل الاعتراف الرسمي عن كون الاستعمار قد ارتكب الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وغيرها من المحظورات".

ويشير كذلك إلى أنه بموجبة يمكن "ملاحقة كل من يشيد بالاستعمار والإبادة قضائيا، على غرار تهم الإشادة بالإرهاب"، وذلك من أجل "تحصين السردية الجزائرية تحصينا قانونيا وسياسيا من كل أشكال الابتزاز الأيديولوجي لبعض الدوائر".

تهدئة بعد توترات

وطغت لغة التهدئة على العلاقات الجزائرية الفرنسية هذا الأسبوع، عقب أكثر من 6 أشهر من التصعيد السياسي والدبلوماسي والإعلامي، تخللتها تصريحات مكثفة وقرارات غير مسبوقة استهدفت تنقل الأفراد، كما شملت محاولات لترحيل جزائريين مقيمين بفرنسا.

وصرح الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، في لقاء له السبت الماضي مع وسائل إعلام محلية، أن نظيره الفرنسي ايمانويل ماكرون هو "المرجعية" في العلاقات مع بلاده.

ووصف تبون الخلاف بين البلدين بـ"المفتعل بالكامل"، مشيرا إلى أن ما يحدث "فوضى" و"جلبة"، معتبرا أن الرئيس ماكرون هو "المرجع الوحيد ونحن نعمل سويا".

وكانت العلاقات الفرنسية الجزائرية شهدت خلال الأشهر الأخيرة، توترات متصاعدة، فبعد مسار من المحاولات لفتح صفحة جديدة خلال السنوات الماضية، تدهورت العلاقات بين البلدين بسبب ملفات متعددة؛ من موقف باريس المتغير تجاه قضية الصحراء، إلى أزمة تأشيرات الدخول، مروراً بقضية الكاتب بوعلام صنصال، وصولاً إلى ملف ترحيل المهاجرين الجزائريين غير النظاميين.

وكان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون ونظيره الجزائري، قد اتفقا عام 2022، على إنشاء لجنة مشتركة من المؤرخين لحل المسائل الخلافية المتعلقة بملف الذاكرة، غير أن عملها ظل معلّقا في ظل التوترات الدبلوماسية المتكررة بين البلدين.

الأستاذ في المدرسة الوطنية العليا للعلوم السياسية بالجزائر، محمد سي بشير، يعتبر أن "مشروع القانون لتجريم الاستعمار رد جزائري على المماطلة الفرنسية في ملف تصالح الذاكرة ومسارعتها إلى الاكتفاء بخطوات لا تصل إلى المرغوب والمطلوب جزائريا".

ويشير سي بشير، في تصريح لموقع الحرة"، إلى أنه كانت "هناك استفادة جزائرية من التوتر الحالي مع فرنسا لتوسيع دائرة التفاوض من ملفات بعينها إلى طرح أهم ملف على الطاولة وهو ملف الذاكرة ليكون المؤسّس للعلاقات مستقبلاً،  من خلال تلبية المطالب الجزائرية التاريخية".

أحد مواقع التجارب النووية الفرنسية في الجزائر في منطقة عين إيكر
قصة استخدام فرنسا للأسلحة الكيميائية في حرب الجزائر
أثارت تصريحات مؤرخ فرنسي ووثائقي بثته قناة سويسرية جدلا بشأن خبايا وآثار استعمال الجيش الفرنسي لأسلحة كيميائية ضد مدنيين أثناء حرب التحرير الجزائرية.

وقال المؤرخ كريستوف لافاي، إن فرنسا لجأت إلى هذه الأسلحة في 450 عملية عسكرية، تمت خلال الثورة الجزائرية، في الفترة من 1957 إلى 1959، والتي تركزت بشكل خاص في المناطق الجبلية بأعالي منطقة القبائل وفي الأوراس (شمال شرق)"، وفق ما أورده الموقع الإلكتروني “actu” الذي أجرى حوارا مع المؤرخ الفرنسي.

وفي شرح للآليات التشريعية والأبعاد العملية لمشروع القانون، يوضح المتحدث أن "القانون سيتضمن نصوصا دقيقة تعمل على تعريف وتوصيف الاستعمار بكل أبعاده مع توثيق ما صاحبه من ممارسات ممنهجة كالقتل الجماعي بمختلف أشكاله".

ويوضح أن من شأن الخطوة أن "يؤسّس لإطار قانوني يتيح إمكانية رفع دعاوى قضائية مستقبلية تهدف إلى تحقيق المبادئ الثلاثة الأساسية: الاعتراف الرسمي بالجرائم، وتقديم الاعتذار العلني، ومنح التعويضات المستحقة للضحايا."

ويضيف أن هذا المشروع القانوني "يسعى إلى تأصيل رواية تاريخية موثقة تعكس واقع الفترة الاستعمارية وطبيعتها المأساوية، إذ قدمت فرنسا إلى الجزائر بمشروع احتلالي استيطاني استهدف تفريغ الأرض من سكانها الأصليين لصالح مستوطنين جدد".

ترحيب 

ورحبت أحزاب جزائرية بالتحرك البرلماني الأخيرة، معتبرة أن الخطوة تعبّر عن موقف عام جزائري شعبي ورسمي يقضي بضرورة اتباع مسار الدفاع عن الذاكرة الوطنية وتجريم كل الأعمال الشنيعة التي قام بها المستعمر الفرنسي.

في هذا الصدد، ثمّن التجمع الوطني الديمقراطي، الخطوة.

كما رحبت حركة البناء الوطني بـ"خطوة تكريس الدور المؤسساتي في الدفاع عن الذاكرة الوطنية الذي يعكسه اليوم تشكيل المجلس الشعبي الوطني للجنة خاصة لصياغة مشروع قانون تجريم الاستعمار، المجرّم إنسانيا وأخلاقيا".

واعتبرت الحركة، هذه الخطوات "انسجاما وتفعيلا للتوجه الأفريقي نحو إدانة الاستعمار والمطالبة بالاعتراف بالجريمة الاستعمارية وما يترتب عنها من استرجاع للحقوق والمظالم، كما هو مكرس في لائحة تجريم الاستعمار والتعويض عن المظالم التاريخية التي تعرضت لها شعوب القارة الأفريقية".

الجماعات المسلحة تنشط في دول الساحل الأفريقي الخمس
الجماعات المسلحة تنشط في دول الساحل الأفريقي الخمس (أرشيف)

تفاقمت حدة الخلافات بين الجزائر ودول تحالف الساحل (مالي، النيجر وبوركينافاسو)، بقرار هذه الدول سحب سفرائها على خلفية اسقاط الجزائر لطائرة درون حربية مالية، اخترقت مجالها الجوي، بينما نفت بماكو ذلك، ولاحقا أغلقت الجزائر مجالها أمام الطيران المالي. 

ونتيجة احتدام الخلاف والاتهامات المتبادلة بين طرفي النزاع، تُطرح قضايا مستقبل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل التي تنشط بها جماعات إرهابية محسوبة على القاعدة وداعش، وكيانات ذات صلة بتهريب السلاح والبشر والمخدرات.

وتواصلت الأزمة بقرار مالي الانسحاب من لجنة رؤساء الأركان المشتركة، وهو تحالف اختص في مكافحة الإرهاب، ويضم دول الساحل بالإضافة للجزائر، كما قررت رفع شكوى أمام الهيئات الدولية الجزائر بتهمة ارتكاب ما وصفته بعمل "عدواني".

ولجنة أركان العمليات المشتركة هي هيئة عسكرية تضم كلا من الجزائر ومالي وموريتانيا والنيجر، تأسست سنة 2010 بمدينة تمنراست جنوب البلاد، لتكون بديلا للتدخلات العسكرية الأجنبية في المنطقة.

وفي 2017 أسست فرنسا تحالفاً عسكرياً موازياً خاصاً بمكافحة الإرهاب، ضم بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر، قبل أن تسحب قواتها العسكرية من المنطقة.

"زيادة" في نشاط الجماعات الإرهابية

وتعليقا على هذه التطورات، رأى المحلل من دولة مالي، محمد ويس المهري، أن الخلاف بدأ منذ إنهاء باماكو، قبل سنة، العمل باتفاق السلام الموقع عام 2015 في الجزائر بين الحركات المسلحة المعارضة والحكومة المالية.

هذا الخلاف وفق ويس المهري "أثر على مكافحة الإرهاب وتبادل المعلومات والتنسيق العسكري ضمن لجنة الأركان المشتركة"، وأدى ذلك إلى "تسجيل هجمات كبرى من قبل جماعات جهادية على مطار باماكو، وبعض الأهداف العسكرية في العاصمة منذ أشهر".

وأشار المحلل الأمني والسياسي ويس المهري، في حديثه لموقع "الحرة"، إلى تسجيل "هجمات على الجيش المالي واتساع نطاق نشاط الجماعات الجهادية في النيجر وفي بوركينافاسو، و"زيادة نشاط" التنظيمات الإرهابية الموالية لداعش والقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بدولة النيجر وبوركينافاسو "بوتيرة كبيرة جدا".

كما نبه المتحدث إلى عمليات نزوح للمهاجرين من دول أفريقية تعرفها المنطقة نحو الجزائر، بسبب تجدد الاشتباكات منذ إعلان "انهيار" اتفاق السلام بين مالي والجماعات المسلحة المعارضة، كما أشار إلى "عودة عمليات الاختطاف التي تطال أجانب".

وكان سائح إسباني تعرض للاختطاف بتاريخ 14 يناير الماضي على الحدود الجزائرية المالية، ضمن نطاق الناحية العسكرية السادسة، من قبل عصابة مسلحة تتكون من خمسة أفراد، قبل أن تحرره وحدة عسكرية تابعة للجيش الجزائري وتعيد تسليمه لبلاده.

وكشف محمد ويس المهري عن محاولات متكررة، قامت بها جماعات إرهابية في الفترة الأخيرة، "لاستهداف أو اختطاف أجانب، بسبب توقف التنسيق الأمني الذي كان قائما بين مالي والجزائر"، مضيفا أن التداعيات امتدت إلى "زعزعة" الاستقرار في شمال مالي.

ووصف المتحدث الوضع الحالي بـ "الخطير جدا"، بعد توقف "الدعم العسكري والأمني الذي كانت تقدمه الجزائر لدول المنطقة، بما في ذلك شحنات عسكرية لمواجهة التهديدات الإرهابية"، مرجعا الوضع الحالي إلى انهيار اتفاق السلام، باعتباره"النقطة الخلافية الرئيسية بين البلدين".

الجزائر "تكرس تواجدها"

وتعرضت منطقة الساحل الصحراوي خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2024 لأكثر من 3.200 هجوم إرهابي، أودى بحياة أكثر من 13.000 شخص"، وفق إحصائيات قدمها وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف في جلسة لمجلس الأمن الدولي حول المنطقة في يناير الماضي.

كما تحولت منطقة دول الساحل إلى "بؤرة للإرهاب العالمي، وأصبحت تتركز فيها أكثر من 48 بالمئة من الوفيات المرتبطة بالإرهاب في العالم"، وفق المصدر نفسه.

ورأى الإعلامي الجزائري، محمد إيوانوغان، أن التطورات الحاصلة بمنطقة الساحل تتجاوز البعد الأمني، وهي تعكس "تحولا سياسيا إيجابيا يكرس التواجد الفعلي للجزائر بالمنطقة"، دون التخلي عن باقي المهام، ويوضح المتحدث قائلا: إن الجزائر ولأول مرة "تتحول من موقف ودور المتفرج إلى دور الفاعل".

وأضاف إيوانوغان، لموقع "الحرة"، أن الجزائر وهي ماضية في لعب دورها، بما في ذلك محاربة الإرهاب، قررت منع تحليق الطيران المالي فوق أجوائها وهي من "ستحمي الأزواد"، بعد تخلي باماكو عن اتفاق السلام معهم، مما يؤدي لاحتواء أي انزلاق أمني.

وأشار المتحدث إلى أن القرارات الأخيرة للجزائر تعني أن "كل الأطراف يجب أن تعيد حساباتها، بما يحفظ مصالح الجزائر"، فيما تواصل مختلف وحدات الجيش الجزائري عمليات مكافحة الإرهاب، وحماية أمن الحدود.