رئيسا الجزائر وفرنسا في لقاء سابق - فرانس برس

في مكالمة وصفت بـ"المطوّلة والصريحة"، أجرى الرئيسان الجزائري والفرنسي، مباحثات، مساء الاثنين، تناولت مستقبل العلاقات الثنائية وسبل تجاوز الخلافات المتصاعدة بين البلدين، في الآونة الأخيرة.

وتأتي هذه المكالمة بعد ثمانية أشهر من التوترات المتصاعدة، بدأت مع اعتراف باريس بسيادة المغرب على الصحراء الغربية في يوليو الماضي، ثم تفاقمت مع توقيف الكاتب بوعلام صنصال، تزامناً مع الخلافات المتراكمة بشأن ملفات الهجرة وإعادة قبول المهاجرين المطرودين.

وطبع  أشهُرُ الأزمة تراشقات إعلامية حادة بين مسؤولي البلدين، وتصريحات متبادلة عكست تدهور مستوى الثقة بين العاصمتين، إضافة إلى دعوات متزايدة من أوساط سياسية ودبلوماسية من الجانبين لاتخاذ إجراءات تصعيدية لإعادة النظر في أطر التعاون القائمة منذ عقود.

وأسفرت "مكالمة عيد الفطر"، عن اتفاق بين تبون وماكرون، على استئناف التعاون في عدة مجالات محورية، تشمل التعاون الأمني، وإعادة تفعيل اللجنة المشتركة للمؤرخين، على أن تقدم نتائجها قبل صيف 2025.

علاوة على تفاهمات لاستئناف التعاون في مجال الهجرة، وتعزيز العلاقات الاقتصادية مع دعم فرنسي لمراجعة اتفاق الشراكة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي، فضلا عن التعاون القضائي. 

وكخطوة عملية أولى، سيزور وزير الخارجية الفرنسي الجزائر في 6 أبريل المقبل لرسم خارطة طريق تفصيلية، على أن يعقب ذلك لقاء مرتقب بين الرئيسين في المستقبل القريب، وفقا للبيان الذي نشرته الرئاسة الجزائرية.

"بارقة أمل بعد العاصفة"

واعتبرت جريدة "لوموند" الفرنسية، المكالمة بأنها إعادة للاتصال بعد "واحدة من أخطر الأزمات التي شهدتها العلاقات الثنائية منذ 1962"، واستمرت 8 أشهر.

ووصفت الجريدة الفرنسية، في عددها الصادر أمس، بأن هذه المكالمة تُظهر "بارقة أمل بعد العاصفة".

وأوضحت لوموند، أن هناك تغييرا في النهج الفرنسي تجاه الجزائر، بالتخلي عن مقاربة "موازين القوى" التي كان يدفع بها وزير الداخلية برونو ريتايو، لصالح نهج أكثر دبلوماسية.

وتشير إلى أن لغة البيان المشترك، تؤكد هذا التغيير باستخدام مصطلحات مثل "حوار متكافئ" و"علاقة تحترم مصالح كل طرف".

المحلل السياسي الجزائري، توفيق بوقاعدة، يرى أن المكالمة الهاتفية بين الرئيسين تُمثّل "إشارة انطلاق للمباحثات الثنائية"، بعد أشهر من "الجفاء والمشاحنات الدبلوماسية والإعلامية".

لكنه يؤكد في تصريح لموقع "الحرة"، أن هذا الاتصال "لا يعني بالضرورة انتهاء الأزمة"، وإنما تم طرحها على طاولة التفاوض بين الجانبين.

ويشدد بوقاعدة على أن الزيارة المرتقبة لوزير العدل الفرنسي وكيفية تفعيل اتفاقية تبادل المطلوبين ستكون "الترمومتر الرئيسي" الذي سيحدد مسار العلاقات نحو "الانفراج أو البقاء على حالة الأزمة مع تسكين الخطاب العدائي" مؤقتاً.

من جهته، يرى المحلل الجزائري إسماعيل دبش، أن الخلافات الفرنسية الجزائرية "قائمة" في ملفات عديدة مثل الأرشيف الوطني والذاكرة، موضحاً أن المقاربة الجديدة تكمن في رؤية الرئيس تبون بأن "المنفعة متبادلة وليس كما كانت فرنسا تريدها قبل ستة أو سبع سنوات".

غير أن دبش، يؤكد أن "العلاقات الفرنسية الجزائرية لا يمكن أبداً أن تقطع بسهولة بسبب التواجد الجزائري في فرنسا والعلاقات المكثفة بين البلدين، سواء فيما يتعلق بالاتفاقات الموجودة أو المصالح الاقتصادية"، بالتالي يتم العمل على احتواء الأزمة.

قضية صنصال

وذكر بيان الرئاسة الجزائرية، أن الرئيس الفرنسي، دعا تبون، إلى "لفتة صفح وإنسانية" تجاه الكاتب بوعلام صنصال، نظرا لسنه وحالته الصحية.

وكان ملف الكاتب الجزائري الفرنسي بوعلام صنصال، 75 عاماً، أحد أبرز القضايا التي طفت على سطح التوترات بين باريس والجزائر  على مدار الأشهر الأشهر الأخيرة.

ويقبع صاحب كتاب "2084.. نهاية العالم" في السجن بالجزائر منذ توقيفه في 16 نوفمبر الماضي، بمطار هواري بومدين الدولي، حيث تلاحقه السلطات الجزائرية بموجب المادة 87 مكرر من قانون العقوبات المتعلقة بالجرائم الإرهابية والتخريبية.

وصنصال كاتب جزائري يحمل الجنسية الفرنسية، اشتهر بمواقفه المعارضة والناقدة للنظام، كما عُرف بمناهضته للإسلاميين المتشددين. وهو حاصل على الجائزة الكبرى للرواية مناصفة مع الكاتب الفرنسي التونسي، الهادي قدور، في 29 أكتوبر 2015.

وكان صنصال أثار جدلا بسبب تصريحاته لمجلة "فرونتيير ميديا" الفرنسية، حينما تحدث عن أن فرنسا، خلال فترة الاستعمار، "ضمت أجزاء من المغرب إلى الجزائر، مما أدى إلى توسيع حدود الجزائر الحالية".

كما انتقد النظام الجزائري، مشيراً إلى أن قادته "اخترعوا جبهة البوليساريو لضرب استقرار المغرب". 

وانتقدت أوساط سياسية وجزائرية هذه التصريحات واعتبرتها "مجانبة للصواب"

وأشارت "لوموند" إلى إلى أن "الشائعات انتشرت بإصرار في الأيام الأخيرة بشأن احتمال عفو من جانب تبون" عن صنصال، معتبرة أن هذا السيناريو "يبدو الآن أكثر من مرجح".

وعن إمكانية تحقيق انفراجة في ملف الكاتب، يقول بوقاعدة، إن صنصال "لن يحظى بالعفو الرئاسي المطالب به من طرف الرئيس ماكرون إلا بعد زيارة وزير العدل الفرنسي، وإظهار باريس استعدادها  للتعاون قضائيا مع الجزائر".

ويؤكد أنه لا يتصور أن "صنصال المدان بجرائم من القضاء يتم التنازل عنه دون مقابل من الطرف الآخر"، مشيرا إلى أن "إطلاق صنصال سيكون تتويجاً لمسار تسوية الأزمات بين البلدين وليس شرطا لبداية التفاوض".

أما دبش، فيعتقد أن "باريس لا يهمها صنصال وما هو إلا وسيلة"، مؤكدا أنه "جزائري ويخضع للقوانين الجزائرية، ولا يمكن لفرنسا أن تتدخل في شؤون داخلية".

وارتبطت قضية صنصال بسلسلة من الأحداث المتتالية التي أججت التوتر بين البلدين، بما في ذلك "الإجراءات القضائية ضد شبكة من المؤثرين الجزائريين في فرنسا الذين أطلقوا تهديدات ضد معارضي النظام الجزائري"، ورفض السلطات الجزائرية استعادة مواطنيها المطرودين، بسبب ما اعتبرته "عدم قانونية الإجراءات التي اتبعتها  فرنسا في تدبير عمليات الترحيل.

"صمت" عن "النقطة التي أفاضت الكأس"

وكان لافتا في البيان الرئاسي "الصمت" بشأن ملف الصحراء الغربية، الذي قالت صحيفة "لوموند" إنه المفجر الرئيسي للأزمة بين البلدين.

واندلعت الخلافات الفرنسية الجزائرية بشأن قضية الصحراء الغربية، في أعقاب اعتراف فرنسا بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية، وهو الإقليم المتنازع عليه بين الرباط وجبهة البوليساريو المدعومة جزائرياً.

وتؤكد لوموند أنه "من غير المرجح للغاية أن تتراجع باريس عن هذا الاعتراف"، خاصة أن الرئيس الفرنسي كان أكد على هذا الموقف مجددا خلال زيارته الرسمية للمغرب في أكتوبر 2024.

وتلفت الصحيفة إلى أن الإشارة الوحيدة في البيان المشترك لقضية الصحراء الغربية جاءت بشكل غير مباشر من خلال التلميح إلى "الشرعية الدولية"، وهي الحجة التي تستخدمها الجزائر بشكل متكرر للمطالبة بإجراء استفتاء لتقرير المصير في المنطقة.

في هذا السياق، يقول بوقاعدة، إن قضية الصحراء الغربية كانت "النقطة التي أفاضت الكأس في علاقات الدولتين".

ويوضح أن "المسكوت عنه في الاتصال هو إحجام فرنسا في المرحلة المقبلة عن أي سلوك يستفز الجزائر، بمعنى اعتراف دون إجراءات على الأرض الصحراوية".

France's President Emmanuel Macron receives a standing ovation after his speech in front of the members of Morocco's Parliament…
من برلمان المغرب.. ماكرون يعد باستثمارات فرنسية في الصحراء الغربية
قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في خطاب أمام البرلمان المغربي الثلاثاء، إنه يؤكد مجددا تأييد بلاده لـ"سيادة المغرب على إقليم الصحراء الغربية"، كاشفا الاتفاق مع الرباط على استثمارات فرنسية في هذه المنطقة.

في المقابل، يقول دبش إن ملف الصحراء ليس السبب الرئيسي في الخلاف الفرنسي الجزائري، موضحاً أن "موقف فرنسا (بالاعتراف بمغربية الصحراء) ليس جديداً إنما قامت بتزكيته فقط من خلال إعلان دعم المغرب".

ويورد أن "المشكلة في العلاقات مع الجزائر ترتبط أساساً بسعي الجزائر لإعادة التوازن والند بالند للعلاقات بين البلدين، على مختلف الأصعدة".

ويضيف دبش أن "هدف فرنسا الأساسي" مواجهة حقيقة أن "الجزائر بدأت تخوض تغييرات جذرية في السياسات الخارجية في التعامل مع الدول، خاصة فرنسا"، حيث أصبحت العلاقات "تبنى على المعاملة بالمثل على المصلحة المتبادلة"، في حين أن "فرنسا تريد أن تستحوذ على الاستثمارات والتجارة وهذا غير مقبول".

بينما يؤكد بوقاعدة على وجود "قناعة الجانبين بأهمية كل طرف للآخر، وأن المقامرة بالقطيعة كما ذهبت بعض الأطراف غير وارد في أجندة الرئيسين، نظرا لكثافة التأثيرات التي ستحدثها، والضريبة الضخمة التي ستجنيها الأبعاد الإنسانية والاجتماعية في العلاقات الجزائرية الفرنسية".

في السياق ذاته، تقول الصحيفة الفرنسية إن المكالمة وحدها "لا تكفي لإحكام المصالحة" بعد التوترات المتراكمة، مشيرة إلى أن "التجربة أثبتت أن العلاقة الشخصية الجيدة بين رئيسي الدولتين فشلت في منع الأزمات الثنائية الثلاث التي اندلعت في 2021 و2023 و2024".

الجماعات المسلحة تنشط في دول الساحل الأفريقي الخمس
الجماعات المسلحة تنشط في دول الساحل الأفريقي الخمس (أرشيف)

تفاقمت حدة الخلافات بين الجزائر ودول تحالف الساحل (مالي، النيجر وبوركينافاسو)، بقرار هذه الدول سحب سفرائها على خلفية اسقاط الجزائر لطائرة درون حربية مالية، اخترقت مجالها الجوي، بينما نفت بماكو ذلك، ولاحقا أغلقت الجزائر مجالها أمام الطيران المالي. 

ونتيجة احتدام الخلاف والاتهامات المتبادلة بين طرفي النزاع، تُطرح قضايا مستقبل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل التي تنشط بها جماعات إرهابية محسوبة على القاعدة وداعش، وكيانات ذات صلة بتهريب السلاح والبشر والمخدرات.

وتواصلت الأزمة بقرار مالي الانسحاب من لجنة رؤساء الأركان المشتركة، وهو تحالف اختص في مكافحة الإرهاب، ويضم دول الساحل بالإضافة للجزائر، كما قررت رفع شكوى أمام الهيئات الدولية الجزائر بتهمة ارتكاب ما وصفته بعمل "عدواني".

ولجنة أركان العمليات المشتركة هي هيئة عسكرية تضم كلا من الجزائر ومالي وموريتانيا والنيجر، تأسست سنة 2010 بمدينة تمنراست جنوب البلاد، لتكون بديلا للتدخلات العسكرية الأجنبية في المنطقة.

وفي 2017 أسست فرنسا تحالفاً عسكرياً موازياً خاصاً بمكافحة الإرهاب، ضم بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر، قبل أن تسحب قواتها العسكرية من المنطقة.

"زيادة" في نشاط الجماعات الإرهابية

وتعليقا على هذه التطورات، رأى المحلل من دولة مالي، محمد ويس المهري، أن الخلاف بدأ منذ إنهاء باماكو، قبل سنة، العمل باتفاق السلام الموقع عام 2015 في الجزائر بين الحركات المسلحة المعارضة والحكومة المالية.

هذا الخلاف وفق ويس المهري "أثر على مكافحة الإرهاب وتبادل المعلومات والتنسيق العسكري ضمن لجنة الأركان المشتركة"، وأدى ذلك إلى "تسجيل هجمات كبرى من قبل جماعات جهادية على مطار باماكو، وبعض الأهداف العسكرية في العاصمة منذ أشهر".

وأشار المحلل الأمني والسياسي ويس المهري، في حديثه لموقع "الحرة"، إلى تسجيل "هجمات على الجيش المالي واتساع نطاق نشاط الجماعات الجهادية في النيجر وفي بوركينافاسو، و"زيادة نشاط" التنظيمات الإرهابية الموالية لداعش والقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بدولة النيجر وبوركينافاسو "بوتيرة كبيرة جدا".

كما نبه المتحدث إلى عمليات نزوح للمهاجرين من دول أفريقية تعرفها المنطقة نحو الجزائر، بسبب تجدد الاشتباكات منذ إعلان "انهيار" اتفاق السلام بين مالي والجماعات المسلحة المعارضة، كما أشار إلى "عودة عمليات الاختطاف التي تطال أجانب".

وكان سائح إسباني تعرض للاختطاف بتاريخ 14 يناير الماضي على الحدود الجزائرية المالية، ضمن نطاق الناحية العسكرية السادسة، من قبل عصابة مسلحة تتكون من خمسة أفراد، قبل أن تحرره وحدة عسكرية تابعة للجيش الجزائري وتعيد تسليمه لبلاده.

وكشف محمد ويس المهري عن محاولات متكررة، قامت بها جماعات إرهابية في الفترة الأخيرة، "لاستهداف أو اختطاف أجانب، بسبب توقف التنسيق الأمني الذي كان قائما بين مالي والجزائر"، مضيفا أن التداعيات امتدت إلى "زعزعة" الاستقرار في شمال مالي.

ووصف المتحدث الوضع الحالي بـ "الخطير جدا"، بعد توقف "الدعم العسكري والأمني الذي كانت تقدمه الجزائر لدول المنطقة، بما في ذلك شحنات عسكرية لمواجهة التهديدات الإرهابية"، مرجعا الوضع الحالي إلى انهيار اتفاق السلام، باعتباره"النقطة الخلافية الرئيسية بين البلدين".

الجزائر "تكرس تواجدها"

وتعرضت منطقة الساحل الصحراوي خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2024 لأكثر من 3.200 هجوم إرهابي، أودى بحياة أكثر من 13.000 شخص"، وفق إحصائيات قدمها وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف في جلسة لمجلس الأمن الدولي حول المنطقة في يناير الماضي.

كما تحولت منطقة دول الساحل إلى "بؤرة للإرهاب العالمي، وأصبحت تتركز فيها أكثر من 48 بالمئة من الوفيات المرتبطة بالإرهاب في العالم"، وفق المصدر نفسه.

ورأى الإعلامي الجزائري، محمد إيوانوغان، أن التطورات الحاصلة بمنطقة الساحل تتجاوز البعد الأمني، وهي تعكس "تحولا سياسيا إيجابيا يكرس التواجد الفعلي للجزائر بالمنطقة"، دون التخلي عن باقي المهام، ويوضح المتحدث قائلا: إن الجزائر ولأول مرة "تتحول من موقف ودور المتفرج إلى دور الفاعل".

وأضاف إيوانوغان، لموقع "الحرة"، أن الجزائر وهي ماضية في لعب دورها، بما في ذلك محاربة الإرهاب، قررت منع تحليق الطيران المالي فوق أجوائها وهي من "ستحمي الأزواد"، بعد تخلي باماكو عن اتفاق السلام معهم، مما يؤدي لاحتواء أي انزلاق أمني.

وأشار المتحدث إلى أن القرارات الأخيرة للجزائر تعني أن "كل الأطراف يجب أن تعيد حساباتها، بما يحفظ مصالح الجزائر"، فيما تواصل مختلف وحدات الجيش الجزائري عمليات مكافحة الإرهاب، وحماية أمن الحدود.