الدولار المجمد يوقع العديد من الضحايا في دول عربية. أرشيفية - تعبيرية
الدولار المجمد يوقع العديد من الضحايا في دول عربية. أرشيفية - تعبيرية

"ربح خيالي وسريع" هذا ما تروج له إعلانات على شبكات التواصل الاجتماعي تسوق لبيع ما يعرف بـ"الدولار المجمّد" أو ما يسميه البعض بـ"الدولار الليبي المجمّد".

الصفحات التي تروج لبيع "تلال من الدولارات" تزعم سلامتها من الناحية المالية، ويشير أصحابها إلى أن منع التداول بها يعود لأنها ضمن المبالغ الممنوع تداولها، لأنها كانت في حوزة نظام الرئيس المخلوع، معمر القذافي، قبل أكثر من عقد.

فما حقيقة هذا "الدولار المجمّد"؟

برنامج "الحرة تتحرى" الذي تبثه قناة "الحرة" تتبع رحلة هذا الدولار من مرحلة طباعته وصولا إلى المشترين أو المستهلكين الذين غالبا ما يصبحون ضحية.

يقول أحد مروجي "الدولار المجمد" في إعلان عبر وسائل التواصل الاجتماعي إنها نقود "سليمة 100 في المئة.. مشكلتها أنها لا تدخل البنوك المركزية.. يتم تداولها عبر التحويل لها وعبر التسليم.. من يريدها يتواصل عبر الخاص".

استغلال للأزمة في لبنان

في لبنان وخلال الأزمة المالية التي عصفت بالبلاد فيما يرتبط بأموال مئات الآلاف من المودعين لدى البنوك، ظهرت أولى عمليات الترويج لهذه النقود، إذ أصبح العديد ممن يمتلكون سيولة نقدية يبحثون عن تحقيق "أرباح سريعة وسهلة".

الأكاديمية الباحثة اللبنانية في القوانين المصرفية والمالية، سابين الكيك، تقول إن المروجين يختارون من هم من "بيئة متواضعة تعاني من أزمات اقتصادية أو مالية، مستوى الوعي المالي في هذه البيئة متدني، إن لم نقل معدوم".

وأشارت إلى أن السلطات اللبنانية، خاصة مديرية قوى الأمن الداخلي، أصدرت في لبنان تعميما، في عام 2020، إذ "نبهت بوضوح تام، أن قصة الدولارات الليبية المجمّدة، هي (عمليات احتيال)".

وقالت قوى الأمن اللبناني في بيان حينها إن "الهدف من إطلاق هذه الشائعات، هو لتسهيل عمليات ترويج دولارات مزيفة، وذلك من خلال إيهام الناس بتوفر هذه الدولارات للاستيلاء على أموالهم، بحيث يجري تبديل العملة الصحيحة بالعملة المزيفة في أثناء عملية التسلم والتسليم".

وفي غضون شهرين، خلال ربيع عام 2022، ألقت قوى الأمن القبض على ثلاث مجموعات اتهمت بترويج "الدولار المجمّد" بعد إيقاعهم بأكثر من 60 ضحية.

ولم تجب قوى الأمن الداخلي اللبناني عن استفسارات "الحرة تتحرى".

"الدولار المجمد" و"ليبيا"

من أبرز الروايات التي تلاحق هذه النقود أنها "مليارات تعود لنظام الرئيس الليبي الأسبق، القذافي"، مشيرين إلى أنه يتم "منع تداولها بسبب عقوبات دولية أوسع" والتي فرضت على ذلك النظام.

ويرى مختصون أن هذه الرواية تفتقر للمنطق، بحسب ما توكد الأكاديمية الكيك إذ أن "ما حصل في ليبيا، كان عبارة عن تجميد أصول وحسابات مصرفية، وليس وقف التعامل بأوراق نقدية مباشرة ضمن أرقام متسلسلة".

وأضافت "السؤال الذي نطرحه للإجابة بمنطق أكبر: كيف يمكن لمصرف، أن يحدد أن هذا الحساب أو ذاك الحساب، يمتلك هذه الأوراق النقدية؟ الأوراق النقدية هي أوراق قابلة للتداول. هذه العملة التي يدّعون أنها عملات حقيقية، يتبين في أغلب الأوقات أنها مزيفة".

وتزعم شبكات الترويج لهذه النقود "أن تجميدا فرضته واشنطن حينها طال أوراقا نقدية أميركية بعينها لدى البنك المركزي الليبي"، وهو ما لم يذكره صراحة ما فرضته الولايات المتحدة.

ونص القرار التنفيذي الأميركي "رقم 13566" بشأن ليبيا بتجميد "جميع الممتلكات وفوائدها المتواجدة في الولايات المتحدة، والتي تدخل فيما بعد إليها أو التي تصبح لاحقا في حوزة أو سيطرة أي شخص أميركي، بما في ذلك أي فروع خارجية للحكومة الليبية، ووكالاتها وأجهزتها والكيانات الخاضعة لها ومصرف ليبيا المركزي".

كبير الباحثين بجامعة جونز هوبكنز الأميركية، حافظ الغويل، يقول إن "ليبيا كانت لديها أموال تتبع جهتين في ليبيا، واحدة منهم هي الأموال الليبية المجمّدة التي تتبع البنك المركزي".

وذكر الغويل ،الذي كان مستشارا لنائب رئيس البنك الدولي لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أن المبالغ المجمّدة "كانت حوالي 120 مليار دولار في ذلك الوقت. وكان هناك حوالي 68 مليار تتبع شركة الاستثمارات الليبية. المجتمع الدولي جمّد كل هذه الأموال".

وأضاف أنه "عندما سقط النظام السابق، وتولى المسؤولية نظام جديد. رفعوا الحظر على أموال البنك المركزي، والبنك المركزي من ذلك اليوم، له كامل الحرية في استعمال الأموال التي تتبعه حول العالم، ولكن العقوبات الدولية لم تتطرق إلى أوراق نقدية بعينها، يعني من الصعب في أي مكان في العالم أن تستهدف نقودا أو أوراق مالية".

مهمة مستحيلة

مدير معهد السياسات الدولية في واشنطن، باولو فون شيراك، قال إن "وزارة الخزانة الأميركية، وجهاز الخدمة السرية والسلطات الأخرى تحرص على جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات التفصيلية، لكن الأمر معقد.. فكيف يمكنك مراقبة كل ما يحدث في أي جزء من العالم؟ وأي وقت؟ وحتى الوصول لفهم واضح حول كل شيء؟".

وأضاف "يبدو ذلك مستحيلا"، ومؤكدا أنه من الصعوبة "تجميد أوراق نقدية بعينها، إذ يستحيل تتبعها".

وأوضح شيراك "ما أن يبدأ تداول الأوراق النقدية الأميركية، لا أتصور أن هناك إمكانية لتعقبها فما أن أخرج ورقة 'البنكنوت' من جيبي لأدفع لك مقابل شيء ما، ثم تستخدم أنت نفس الورقة النقدية لتدفع مقابل الحصول على شيء لشخص آخر، فمن يمكنه ملاحقة هذه الورقة تحديدا؟ هذا مستحيل!".

"الدولار المجمد" والعراق

ورغم ربط هذا الدولار بعقوبات فرضت على ليبيا، إلا أن الحديث عن "الدولار المجمّد" ظهر أول مرة، في عام 2003، بعد حرب العراق، عندما خسرت البنوك العراقية مليارات الدولارات، وقدمت بغداد حينها طلبا رسميا بأن تجمّد واشنطن "جميع الأوراق النقدية التي اختفت".

المستشار في البنك المركزي العراقي، إحسان الشمري، نفى هذه الرواية وقال: "لا، هذا في الحقيقة ليس صحيحا. نعم، تمت سرقة بعض الأموال من المصارف في العراق، ولكن البنك المركزي فورا قام باستبدال الأوراق النقدية العراقية".

واستطرد "خلال أقل من سنة، والدولارات التي كانت بالعراق، كانت قليلة جدا، لأنها استنفدت أصلا من قبل الحكومة وأجهزتها، سرقت بعض الدولارات، ولكن هذا لم يؤثر على الوضع الاقتصادي، ولا دفع بأميركا ولا العراق إلى تبيان أرقامها وتسلسلها، فهذا كلام حقيقةً غير صحيح".

ومع عودة الترويج لـ"الدولار المجمّد"، في عام 2020، "تصدى البنك المركزي العراقي حينها، ونوّرنا الجمهور أنه لا يتواجد شيء اسمه 'ورقة الدولار الليبي'، أو 'دولار عراقي'، أو 'دولار ألماني' إلى آخره. الإصدار النقدي في البنك المركزي الأميركي الفيدرالي هو إصدار اعتيادي. المطبعة تطبع الأوراق ونظام حاسوبي كامل هو الذي ينتج الرموز وتسلسلها"، بحسب الشمري.

ورغم هذه الجهود، وجدت مجموعات الترويج لهذه النقود المزيفة طريقها للإيقاع بضحاياها.

ومع استمرار الحملات الأمنية، واصلت شبكات البيع الترويج لها باعتبارها دولارات ليبيا المجمدة، ما دفع البنك المركزي العراقي، في عام 2022، إلى إصدار بيان ثان.

وأكد البنك المركزي في بيانه أنه "يحتفظ بحقه في اتخاذ الإجراءات القانونية بحق كل من يتداول مثل هذه الأوراق المزيفة أو يروج لها، وبالتنسيق مع الأجهزة المختصة".

الإحجام عن الشكوى

وتواصل فريق "الحرة تتحرى" مع بعض من تعرضوا للاحتيال، ولكنهم آثروا عدم الحديث مثلما عزفوا عن إبلاغ الشرطة، خوفا من أن يجدوا أنفسهم متهمين أمام القانون.

علي سلوم، وهو قاض أول مكتب التحقيق في الكاظمية ببغداد، أكد أنه لا مسؤولية جزائية بحق المشتكي، إذ "تباشر المحكمة بإجراءاتها التحقيقية العاجلة، ومن خلال متابعة الجناة ومحاولة ضبطهم بالجرم المشهود".

وأشار إلى أن المواطن قد يصبح "تحت طائلة المساءلة القانونية لعدة أوجه، من أهمها إذا حاول المواطن مستقبلا الترويج وبيع هذه العملات، مع علمه بتزويرها".

فيما يسرد الضحايا أسبابا أخرى لعدم إبلاغهم عمن تلاعبوا بهم، منها أن أعضاء هذه الشبكات عادة ما يخفون هوياتهم الحقيقية ، خاصة وأنهم يضللونهم باستخدام ما يعرف بـ"أرقام الهواتف الافتراضية والمتاحة للشراء ببضعة دولارات عبر الإنترنت".

وتقول الخبيرة اللبنانية في مجال جرائم المعلومات، جنان خوري، أن استخدام "رموز اتصال لبلد ثان، تتيح للمحتال أن يرتكب جرائمه أكثر وأكثر، لأنه أولا سيكون هو خارج تغطية الدولة".

شبكات دولية

رغم التحريات الرسمية في العراق حسب تصريحات قاضي التحقيق العراقي سلوم، لم تُكشَف حتى الآن شبكات عابرة للحدود، إلا أنه يشير إلى تدفق الدولارات المزورة من دول مجاورة.

وأشار إلى أن "التحقيقات لم تتوصل إلى ارتباط هذه المجموعات، التي تم التحقيق بها وإكمال التحقيق وإحالتهم للمحاكم المختصة، لم يتبين من خلال هذه الدعاوى، تواجد أي ارتباط لها بالخارج. ذكرنا آنفا أنه لا يمكن إدخال أي نوع من أنواع العملات المزيفة أو المجمّدة إلى أي بلد عن طريق الحوالات المصرفية والمعاملات البنكية الأصولية، وإنما يعمدون إلى إدخالها عن طريق شبكات التهريب عبر الحدود".

وتفيد شهادة لأحد المتهمين نشرتها مديرية مكافحة إجرام بغداد إلى تواجد شبكات تمتد إلى خارج العراق.

"طفرة تزييف الدولار"

ولضعف قصة الربط بين هذه النقود والعقوبات على ليبيا، يربط محللون انتشار ما أسموه بـ"حيلة الدولار المجمّد" بطفرة شهدتها دول كتركيا في أنشطة تزييف النقد الأميركي خلال السنوات الأخيرة.

وتكشف البيانات، التي تتيحها شبكة فيسبوك عبر ما يعرف بخاصية شفافية الصفحات، أن بعض القائمين على حسابات بيع الدولارات المزوّرة "موزّعون بين العراق وتركيا".

وقال المحلل في شؤون الأمن القومي التركي، عمر أوزكيريلجيك، إن السلطات في إسطنبول "صادرت أكبر ضبطية مسجلة حتى الآن من الدولارات المزورة، قيمتها مليار دولار كانت ستُشحَن إلى أفريقيا".

وأضاف أن "الأمن التركي نفذ عمليات أخرى ضبط خلالها ما مجموعه 15 مليون دولار مزورة قبل ضخّها في السوق التركية أو تهريبها لسوريا والعراق".

ويوضح أوزكيريلجيك أنه "عادة عندما ننظر إلى تقارير الشرطة التركية، نجد أن ما يقرب من 80 في المئة من الأموال المزيّفة التي تمت مُصادرتها كانت بالليرة التركية على سبيل المثال في العام الماضي، لكنني أتوقع أن ترتفع نسبة الدولار الأميركي في التقرير القادم عن هذا العام".

وتشير بيانات رسمية وتقارير صحفية إلى ملايين الدولارات المزورة تم ضبطها فيما كان طابعوها يحضّرون لتهريبها إلى الخارج.

مدير الأخبار في شبكة "سي إن إن تورك" في إسطنبول، نهاد أولوداغ، يقول إن التحريات كشفت "مطبعة رقمية كاملة للنقود المزيفة، في قبو مركز تجاري بمنطقة الفاتح في إسطنبول. تم ضبط 12 مليون دولار في هذا الموقع من فئتي 50 و100 دولار، وكان المزورون يتهيؤون لطباعة دفعات جديدة على أن يوزّعوها في تركيا وسوريا والعراق".

وأشارت تقارير صحفية تركية إلى أن هذه الشحنات المزوّرة كانت ستُطرح في سوريا والعراق بنصف قيمة الدولار الحقيقي، وهي آلية عرض ما يعرف بالدولارات المجمّدة.

وهو ما يؤكده أيضا المحلل أوزكيزيلجيك، بقوله: "نعلم أن بعض الأموال المزيفة قد تم إرسالها من تركيا إلى العراق، لكننا نعلم أيضا أن بعض المواد الأولية والعاملين في التزوير جاؤوا من العراق إلى تركيا، لذلك ليس من الجيد إلقاء اللوم على جانب واحد، ولكن ما يجب التركيز عليه هو أن هذه الأنشطة تعدّ مجالات تهديد مشتركة ويجب أن تشهد تعاونا مشتركا لمواجهتها".

الخبير الاقتصادي الغويل يرجح بدوره أن هذه "الأرقام متوفرة لدى جهاز الخدمة السرية الأميركي".

ولم يجب جهاز الخدمة السرية الأميركي عن استفسارات "الحرة تتحرى".

ويؤكد مدير معهد السياسات الدولية في واشنطن، شيراك، أنه عادة "ما يتم الربط بين الخدمة السرية بحماية كبار الشخصيات وخاصة رئيس الولايات المتحدة، هذا هو واجبهم الأبرز حماية الشخصيات المهمة وأيضا حماية السفارات الأجنبية".

واستدرك بقوله "لكن مهمتهم الأولى كانت ولا تزال مراقبة الأموال، والبحث عن المزورين وملاحقتهم".

وتسفر جهود جهاز الخدمة السرية حول العالم عن ضبط عشرات الملايين من الدولارات المزيفة سنويا، كما تنشر إحصاءاتها في تقرير دوري.

وكشف التقرير السنوي لجهاز الخدمة السرية الأميركي، لعام 2022، عن مصادرة أكثر من 41 مليون دولار من العملة المزوّرة" دون تحديد الدول التي تمت مصادرتها منها.

وتحذر الأكاديمية الكيك، من مخاطر "الدولار المجمّد" وأثره على مستوى الاقتصاد الكلي، مؤكدة أن تداعياته هي "الأخطر على المستوى الشخصي بخسارة المدّخرات".

جرف الصخر تتحول لقاعدة عسكرية إيرانية في العراق. أرشيفية
الحرة تتحرى تفتح ملف جرف الصخر العراقية وأهميتها العسكرية

في برنامج "الحرة تتحرى" استعرض الجزء الأول من تحقيق "جرف الصخر العراقية... العودة الممنوعة " قصة أهالي جرف الصخر في العراق، الذين أصبحوا نازحين في بلدهم، ورغم مرور 10 سنوات على تحرير المنطقة من داعش تعتبر العودة لبلداتهم محرَّمة عليهم.

وفي الجزء الثاني القصة، يستعرض برنامج "الحرة تتحرى" الأهمية العسكرية للمنطقة باعتبارها مركزا للتصنيع الحربي أكان في عهد النظام السابق، أو بعدما أصبحت خاضعة لسيطرة الميليشيات الموالية لطهران، والتي يصفها البعض بأنها أصبحت "قاعدة عسكرية إيرانية" داخل العراق.

جرف الصخر هي واحدة من خمس نواحٍ في قضاء المسيب في العراق، تتبع إداريا محافظة بابل، وتقع على بعد نحو 60 كلم جنوب غرب بغداد. تضم عدة قرى وبلدات، من بينها واحدة تحمل اسمها، وتعد المركز الإداري للناحية.

في أواخر أكتوبر من عام 2014، أصبحت جرف الصخر ضمن قائمة المناطق العراقية المحررة من تنظيم داعش، لكن تزامن ذلك مع إخلاء لسكان الناحية على يد قوات الحشد الشعبي.

مايكل نايتس، زميل بمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، قال لـ"الحرة" إنه في عام "في 2014 ولموقعها الاستراتيجي جنوب بغداد، استولت قوات الحشد الشعبي على جرف الصخر، واتخذتها قاعدة عسكرية ومنذ ذلك الحين بقيت المنطقة تحت سيطرة الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، وتعد واحدة من أضخم ثلاث قواعد لتلك الميليشيات في العراق".

مقربون من الحشد الشعبي أكدوا دخول الحشد الشعبي جرف الصخر، وقال المحلل السياسي العراقي، مفيد السعيدي: "دخلت قيادات الحشد الشعبي، وألوية الحشد الشعبي، بعد أن ذهب أكثر من ثلث مساحة العراق في يد عصابة داعش الإجرامية. القوات الأمنية بصورة عامة، والمنظومة السياسية، وحتى منظومة الحشد الشعبي، هي دفعت الدماء وضحت، ولازالت تضحي، من أجل لملمة شتات الوضع العراقي، ودحر العصابات الإجرامية بصورة عامة".

سبع سنوات مرت على إعلان الحكومة العراقية الانتصار على تنظيم داعش، وانتفى السبب وراء دخول قوات الحشد الشعبي إلى جرف الصخر ، ولكن إلى اليوم لا يزال المكان تحت سيطرة كاملة للفصائل المسلحة، وسكانه مهجرين بعيدا عن منازلهم، وقد يعود ذلك إلى المكانة العسكرية والاستراتيجية لهذه المنطقة.

سامي الجارالله، عالم فيزياء عراقي يقول لـ"الحرة" إن "جرف الصخر تقع عليه ثلاث منشآت مهمة وهذه مجهزة أبنية كاملة جاهزة، وهي مخصصة للأمور العسكرية. هي كانت مبنية بناء جيدا جدا، ومسيَّجة، من ناحية الخدمات، كلها جاهزة، ككهرباء، كمياه المجاري (الصرف الصحي)، كل شيء فيها، كل الخدمات، التي يتم احتياجها هي موجودة، وممكن أن تكون معسكرا كاملا".

المدير التنفيذي لمركز جنيف الدولي للعدالة، ناجي حرج، يقول: "المعلومات لدينا هي أنه استخدمت بعض المصانع القديمة، التي كانت تابعة للدولة قبل عام 2003، وأنه يجري التعاون مع الحرس الثوري الإيراني في كل هذه القضايا. عندما لا يسمح لأي مسؤول عراقي بالذهاب إلى جرف الصخر، والتجول في جرف الصخر، وعندما لا يسمح للأهالي بالعودة، إذاً هنالك أمر خطير جدا يجري إخفاؤه".

النائب العراقي السابق، محمد سلمان الطائي، يشير من جانبه إلى انتهاء عمليات التحرير "ولم يسمح للسكان بالعودة إلى مزارعهم، وإلى بيوتهم، وإلى مساكنهم، مثلما سمح لمئات الآلاف من النازحين، من العمليات العسكرية في باقي المحافظات".

رئيسة لجنة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي المعنية بالاختفاء القسري، باربرا لوشبيهلر، ذكرت أنه "أحيانا يخرج الأشخاص الذين يتحكمون في المنطقة لنقل ميليشيات معينة، ويهددون علنا أي مسؤول عراقي 'إذا اقتربت من المكان ستندم'، وهذا يعني أن الناس خائفون جدا من الذهاب إلى جرف الصخر، أو حتى التعامل مع هذا الملف".

توجهت "الحرة" بسؤال للمحل السياسي، السعيدي، عن أسماء الفصائل الموجودة في جرف الصخر، لكنه رفض تسمية أي منها، ولفت إلى أنه "في تلك المنطقة، ألوية حشد شعبي، لا أريد أن أسميها".

متابعون للملف أكدوا أن أكثر الميليشيات سيطرة على المنطقة هي: كتائب حزب الله، المدرجة منذ عام 2009 على القوائم الأميركية للمنظمات الإرهابية العالمية.

ويقول نايتس: "تأسست كتائب حزب الله على يد أبو مهدي المهندس، الحليف الأكثر ولاء لإيران داخل العراق، والذي عمل بشكل مباشر مع الجنرال قاسم سليماني، وعندما دخلت قوات الحشد الشعبي جرف الصخر، عام 2014، شكلت هذه الكتائب قوة القتال الرئيسية، فحصلت على هذه المنطقة القيّمة جنوب بغداد، لأنها كانت أهم ميليشيا عراقية مدعومة من طهران".

واحتفاءً للميليشيات بالسيطرة الكاملة، غيرت قوات الحشد الشعبي اسم الناحية إلى جرف النصر وأعلنتها منطقة مغلقة يُمنع دخولها.

ويلفت تقرير معهد دراسات الحرب الأميركي إلى أن "جرف الصخر، كانت في السابق، منطقة ذات غالبية سنية لتصبح اليوم ذات أغلبية شيعية، تهيمن عليها كتائب حزب الله وتمنع السكان السنة من العودة، وتبعد قوات الأمن العراقية الأخرى عن المنطقة، لإخفاء أنشطتها عن حكومة بغداد".

ويوضح نايتس "لم تدمر قوات الحشد الشعبي جرف الصخر عندما اقتحمتها، بل على العكس فبعد طرد السكان، هيمنت تماما على المنطقة، لكن مع الحفاظ على البنى التحتية سليمة قدر الإمكان".

وهنا يطرح السؤال: لماذا كان هذا الحرص وسط قتال عنيف ضد عناصر داعش؟

ويقول نايتس إن "المنطقة المجاورة لجرف الصخر كانت مركز المجمع الصناعي العسكري في عهد صدام حسين، وبالتالي كانت موقعا للمنشآت، الخاصة باختبار القذائف والصواريخ".

ويؤكد ذلك الفيزيائي العراقي، الجارالله، الذي كان واحدا من العلماء الذين عملوا في مختبرات جرف الصخر قبل عام 2003، قائلا: "جرف الصخر تقع في شمال محافظة بابل. منطقة غالبيتها، هي منطقة زراعية. المكان الذي كنا فيه بعيد عن المنطقة الزراعية، بعيد عن النهر. كان اسم المشروع '190'، أو 'الأثير'. المنشأة الثانية 'الرحاب;، التي كانت تخص المختبرات البيولوجية، ومختبر ودائرة أخرى أيضا، تابعة لهيئة التصنيع العسكري، التي هي 'منشأة الشهيد'".

ولا تقتصر أهمية المنطقة على وجود المنشآت العسكرية فقط، بل تتضاعف باعتبارها كانت ساحة شاسعة لاختبار الأسلحة.

ويشرح العالم الجارالله "بعد جرف الصخر، داخلين إلى صحراء الأنبار، فمن هذا المنطلق، كانت هي ميدان رمي لفحص المنتج، المقذوفات والأعتدة، التي كانت تُصنع، فهذه المنطقة هي كانت متخصصة لفحص المقذوفات، بكل أنواعها تقريبا، التي (كانت) تنتج آنذاك بالعراق".

جرف الصخر تتضمن قواعد لتدريب المقاتلين . أرشيفية

هذه البنى التحتية الحربية، جعلت من جرف الصخر في نظر مراقبين موقعا جاهزا للاستخدام لمن يملك السيطرة الكاملة على المنطقة.
 
ويرى نايتس أن "المنطقة صالحة للاستخدام، أولا، هي مجهزة بتوصيلات الكهرباء الصناعية على شبكة الطاقة العراقية، وثانيا، بها مصانع كبيرة يمكن تنظيفها وإعادتها للعمل، ثالثا، هي تحتوي على منشآت ضخمة تحت الأرض محصنة ضد الهجمات العسكرية، وبالإمكان إخفاء الكثير داخل تلك الأنفاق الكبيرة كمراكز تصنيع الطائرات المسيرة والصواريخ".

جرف الصخر عبر الأقمار الصناعية

لا عودة لأهالي جرف الصخر. أرشيفية

ودخلت "الحرة تتحرى" جرف الصخر عبر العالم الافتراضي، من خلال صور الأقمار الصناعية بحثا عن أدلة على وجود أنشطة عسكرية بداخلها.

وفي صيف عام 2018 نشرت وكالة رويترز خبرا مفاده نقل إيران صواريخ باليستية لجماعات شيعية تقاتل بالوكالة عنها في العراق.

وأفاد التقرير "تطور إيران قدراتها على صنع المزيد من الصواريخ في العراق، لدرء الهجمات المحتملة على مصالحها في الشرق الأوسط، ولامتلاك وسيلة تمكّنها من ضرب خصومها في المنطقة".

بعدها بثلاث سنوات وفي الذكرى السابعة لتأسيسها استعرضت قوات الحشد الشعبي أسلحتها في عرض عسكري كان الأكبر من نوعه.

الأكاديمي والباحث السياسي الإيراني، حسين رويران، لم ينكر في مقابلة مع "الحرة" تزويد إيران الحشد الشعبي بالعتاد الحربي.

وقال رويران: "إيران ساعدت في بناء الحشد الشعبي، وقامت بتدريبه وتسليحه أيضا، جل السلاح الموجود بأيدي الحشد الشعبي هو إيراني".

لا أحد يستطيع دخول جرف الصخر عير الميلشيات الموالية لإيران. أرشيفية

إيران زودت الحشد الشعبي بالأسلحة الخفيفة، وكذلك بالمسيرات، وكذلك نعم حتى الصواريخ. وهذا ضمن صفقات سلاح بين الطرفين، من هنا هل يمتلك الحشد الشعبي صواريخ؟ نعم هو يمتلك صواريخ.

وفقا لتقرير معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، ومن بين أكثر من 60 فصيلا يشكلون الحشد الشعبي، تسيطر كتائب حزب الله على الإدارات الرئيسة، ومن بينها الصواريخ.

ويقول نايتس: "كتائب حزب الله مجموعة موالية جدا لإيران، فيلق القدس في الحرس الثوري بناها وطورها، أفرادها عراقيون، لكنها في الأصل وحدة تابعة لفيلق القدس داخل العراق، وهذا يعني أنها نادرا ما تفعل أي شيء بدون أوامر أو على الأقل موافقة طهران".

وأشار إلى "أن كتائب حزب الله تستخدم بشكل أساسي الطائرات المسيرة والصواريخ وأنظمة الراجمات المقدمة من إيران".

اليوم، وطبقا للخبراء، تفرض كتائب حزب الله سيطرة كاملة على جرف الصخر.

عالم الفيزياء العراقي، الجارالله، رجح تخزين الصواريخ الإيرانية في نفس المنطقة التي كانت قبل عام 2003 مركزا للصناعة الحربية العراقية.

وقال: "الصواريخ البالستية خزْنها، يكون له معايير معينة معين، وهذه المعايير موجودة في المباني، التي كنا فيها، في موقع الأثير، الذي كان يسمى موقع 190. فلذلك، إذا أرادوا البحث عن مكان، لوضع كل أنواع الأسلحة في مكان آمن وأبنية جاهزة، فهو جرف الصخر، وتحديدا موقع الأثير".

الميلشيات الموالية لإيران تسطير على جرف الصخر

بعض المتابعين للملف ربطوا بين ذلك وقرار صدر عن الحكومة العراقية، عام 2018، العام ذاته الذي ظهرت فيه أخبار عن نقل إيران لصواريخ إلى الميليشيات الموالية لها في العراق.

ويشير نايتس إلى أنه "بين عامي 2018 و2019 منعت حكومة عادل عبد المهدي الطائرات الأميركية المسيرة من التحليق فوق جرف الصخر، ما سمح خلال هذه الفترة بإخفاء عدد من شحنات الأسلحة الإيرانية في المنطقة، التي تعتبرها طهران مخزنا آمنا للصواريخ الباليستية في العراق، فهي تحتوي على عدد كبير من المباني الفارغة، ولا يسمح لأي مدني أو وسيلة إعلام بدخولها".

وتواصلت "الحرة" مع مستشارين للحكومة العراقية للتعليق ولكنهم اعتذروا لحساسية الموضوع.

ووسط إغلاق تام، دخلت "الحرة" إلى جرف الصخر عبر تطبيق غوغل إيرث، والذي أتاح فرصة مراقبة ورصد أي تغيير حدث في المنطقة.

حتى يوليو عام 2022، كانت منشآت التصنيع الحربي السابقة في أماكنها على مدى العقدين الماضيين، ما يجعلها وفقا لتحليلات متخصصين، مكانا مناسبا للميليشيات المسلحة.

ويقول نايتس من معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى: "لدى كتائب حزب الله عدد من القواعد داخل جرف الصخر من بينها مقر كبير للقيادة، هذه مبان محصنة فيها قسم للمستشارين الإيرانيين ومرافق اتصالات مؤمنة يمكنها استقبال البث المشفر من إيران، كما توجد عدة مراكز للتدريب بعضها مخصص للقناصة، ومشغلي الأسلحة الثقيلة والقوات الخاصة، فضلا عن مواقع للتدرب على تجميع وتشغيل الطائرات المسيرة".

جرف الصخر لم تعد تحت سيطرة الحكومة العراقية

على الرغم من إخلاء سكان الناحية بالكامل، وإعلان الميليشيات استمرار بقائها في جرف الصخر بحجة حفظ الأمن إلا أنه بالعودة إلى غوغل إيرث لوحظت حركة بناء في المنطقة خلال الأعوام الأخيرة.

إذ تظهر الخرائط موقعا قريبا من محطة توليد الطاقة والذي كان خاليا قبل دخول الحشد الشعبيا في  أكتوبر عام 2014، وبعدها بسنتين بدأ هذا المبنى في الظهور والتوسع.

لكن الدليل على وجود حركة نقل ضخمة من المنطقة وإليها يظهر في أرض خالية، في عام 2014، تحولت، بحلول عام 2018، إلى محطة لتفريغ عشرات الشاحنات ذات الحمولة المجهولة.

ويقول عالم الفيزياء، الجارالله: "بالإمكان استخدام المواقع الثلاثة، هذه الأثير 100 بالمئة يستغلونها، ساكنين بها. البقية هل هي يستخدموها أم لا؟ لكن كون هذه أبنية فعلا جاهزة، أنا لا أعتقد سيتركها، وإنما تستغل. لماذا؟ لأنها أفضل أبنية مؤثثة وضمن المعايير العسكرية، ولذلك هي تكون مطلوبة لهذا النوع من الخزن، الذي هو خزن الصواريخ البالستية، لأن قاعات ضخمة هي مخصصة لهذا الشيء".

في المقابل، ينفي مقربون من طهران والحشد الشعبي وجود أي قواعد أو قوات إيرانية لا في جرف الصخر ولا في العراق.

ويقول الباحث الإيراني، رويران: "ما يطرح أن إيران موجودة في بعض القواعد في جرف النصر، أو في أي مكان آخر، في تصوري هو يعني اتهام ترفضه إيران. نعم، لإيران حلفاء في العراق، ولكن ليس هناك من تواجد عسكري إيراني في أي قاعدة من قواعد الحشد الشعبي. تلتقي إيران أيديولوجيا مع الكثير من الفصائل في العراق، ولكن هذا لا يعني أن إيران متواجدة ميدانيا، أو تدير عمليات معينة من داخل العراق".

جرف الصخر بلدة تقع جنوب غرب العاصمة بغداد وخضعت لسيطرة تنظيم داعش قبل هزيمته

ربما لا توجد قوات لطهران على أرض العراق، لكن الدلائل تشير إلى أن الصواريخ المستخدمة في الهجمات على قواعد تستضيف قوات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة كانت صواريخ إيرانية.

في ربيع عام 2020، شنت كتائب حزب الله هجوما صاروخيا على قاعدة تستضيف قوات التحالف الدولي في معسكر التاجي شمالي بغداد ما أسفر عن مقتل ثلاثة جنود.

وردت الولايات المتحدة بقصف خمسة مواقع تابعة للميليشيا، من بينها جرف الصخر.

وقال بيان لوزارة الدفاع الأميركية آنذاك: "استخدمت الولايات المتحدة الطائرات لمهاجمة مواقع الأسلحة التابعة لميليشيا كتائب حزب الله المدعومة من إيران، موقعان في جرف الصخر، أحدهما لتخزين الصواريخ الثقيلة المطورة والآخر لإنتاج وقود الدفع وتخزين أسلحة تقليدية متقدمة".

وأضاف "نحن واثقون من أننا دمرنا هذه المنشآت بشكل فعال، ونتوقع أنها لن تكون قادرة بعد الآن على إيواء أنواع الأسلحة المتقدمة التي قدمتها إيران، واستخدمتها الميليشيا في الهجمات على معسكر التاجي".

بالرغم من ذلك استمرت هجمات الميليشيات على قواعد التحالف الدولي لتتصاعد إلى أكثر من 170 هجوم منذ خريف عام 2023.

وفقا لتقارير أميركية، لم تعد جرف الصخر مجرد مخزن للأسلحة الإيرانية، ويقول نايتس: "لدينا عدد من المناسبات التي تم فيها استخدام جرف الصخر كموقع إطلاق متقدم للصواريخ الإيرانية أو أنظمة الطائرات المسيرة، ونمتلك دليلا على ذلك وهو الخريطة التي أصدرتها وزارة الدفاع الأميركية، وتوضح أن الهجوم على قاعدة (تستضيف) التحالف في التنف في سوريا صيف عام 2022 حدث باستخدام مسيرة أطلقت من جرف الصخر".

معسكر الميليشيا في جرف الصخر تعرض للقصف في مارس الماضي

ويقول المدير التنفيذي لمركز جنيف الدولي للعدالة، حرج، إن "الميليشيات سيطرت على المدينة وهجرت الناس من المساكن. جرف الصخر أغلقت تماما بوجه عودة الناس الذين كانوا يسكنون فيها، إذا أنتم حررتم المدينة من الإرهابيين، والآن هنالك قرابة عشر سنوات من سيطرة مطلقة لكم (الميليشيات) على المدينة، ومداخلها ومخارجها، يفترض الآن أن المدينة آمنة جدا، وبالتالي لا بد أن يعود الناس إلى مساكنهم، وإلى قراهم، ويمارسوا حياتهم الطبيعية، بدلا أن يبقوا يعانون الأمرّين، كونهم الآن نازحين في مناطق أخرى".

وبعد عشر سنوات من تهجير أهالي جرف الصخر قد يكون أملهم في العودة بعيد المنال، فالأهمية الاستراتيجية والعسكرية لبلدتهم تحتّم عليهم البقاء نازحين داخل وطنهم ، أما الميليشيات ومن خلفها، إيران، فلا تبدي أي نية للجلاء عن المنطقة.