لبنان يعتبر أكثر تساهلاً مع المثليين مقارنة بدول عربية أخرى

يشمل مجتمع "الميم عين+" المثليين ومزدوجي التوجه الجنسي وعابري النوع الاجتماعي، وفق منظمة هيومن رايتس ووتش. وتقول الأمم المتحدة إن التمييز والعنف بدافع الكراهية ضد الأشخاص من هذا المجتمع "منتشر ووحشي، وغالبا ما يتم ارتكابه مع الإفلات من العقاب". 

ويسلط برنامج "الحرة تتحرى" الضوء على أبرز الانتهاكات الحقوقية التي يتعرض لها أفراد مجتمع "ميم عين+" (أو LGBTQ) في المنطقة.

في العراق، وثقت كاميرات المراقبة في منطقة المنصور غرب بغداد لقطات قيل إنها لحادثة مقتل، محمد نور الصفار، المعروف باسم "نور بي إم".

تداول ناشطون ومدونون تفاصيل جديدة عن الحادثة، التي وقعت إثر قيام سائق دراجة توصيل (ديليفيري) بفتح النار على البلوغر المدعو، "نور بي إم"، وهو ما أدى إلى مقتله على الفور.

"نور بي إم"، ابن الثالثة والعشرين، الذي عرف بمنشوراته الجريئة على مواقع التواصل الاجتماعي، وتشبهه بالنساء، سبق أن تعرّض للانتهاك والتعذيب، وحلاقة شعره على يد مجهولين، قبل أن يُقتَل في وضح النهار، بثلاث رصاصات، بعد سنوات من التهديد، وصلته خلالها رسائل، لم يكن يتوقع أن تتحول إلى حقيقة.

وتقول، رشا يونس، الباحثة في منظمة هيومان رايتس ووتش الحقوقية: "للأسف هذا الشيء لم يفاجئنا. منذ عام 2021، وثقنا بتقرير 50 عملية محاولة قتل، أو استهداف على الإنترنت، وعلى أرض الواقع، والتعذيب والتعنيف ضد عراقيين، وأشخاص يعيشون بقلب العراق، ينتمون لمجتمع الميم عين".

ويقول سيف علي، الناشط العراقي متغير الهوية الجنسية، إن "الشخص الذي قتل نور بي إم، أصبحت القضية لدينا هاشتاغ ترند بالعراق. الكل كان يدعمه، حتى أطلقوا عليه وصف أنه هو أبو الديليفيري، قالوا: 'أبو الديليفيري رضي الله عنه'. كل الدعم اللي حصل ممكن أي شخص عنده أفكار ضد LGBTQ، قد تصبح لديه رغبة أقوى أن ينفذ هذه الجرائم".

بعض المحللين أرجعوا كل ذلك إلى حملات قادتها أطراف سياسية ودينية في العراق ضد مجتمع "ميم عين+" من بينها جماعة عصائب أهل الحق المدرجة على قوائم الإرهاب الأميركية.   

ويقول تقرير معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى: "حدثت جريمة القتل السافرة بعد أشهر من الضغط على الحكومة لإصدار قانون يعاقب المثلية الجنسية بالإعدام أو السجن مدى الحياة. وفي هذا الإطار أعلن قيس الخزعلي، زعيم جماعة عصائب أهل الحق، أنه صار لزاما على كل الشرفاء في مجلس النواب تشريع قانون يجرّم الشذوذ الجنسي".

وتقول يونس: "عندما نتكلم عن حقوق مجتمع الميم عين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لا نتكلم عن حقوق مستوردة من الغرب، لا نتكلم عن حقوق غريبة لا نعرفها، نتحدث عن حقوق أساسية، حقوق فردية يصونها الدستور اللبناني، والدستور العراقي والقانون الدولي والتشريعات الدولية، التي وقعت عليها هذه الدول في المنطقة. نتكلم عن الحق بالتعبير، نتكلم عن حق بحرية الرأي، يعني نتكلم عن الحق، بالصحة، بالخصوصية،  الوصول إلى المعلومات، عن حق النشر عن الحق بالحياة، عن المساواة، نتكلم عن حقوق هي أصلا مُرسَّخة بالدستور اللبناني، وبالدستور العراقي".

ويشير تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش الحقوقية إلى توثيق "ثماني حالات اختطاف وثماني حالات محاولة قتل وأربعَ حالات قتل خارج القضاء و27 حالة عنف جنسي بما فيها الاغتصاب الجماعي و45 حالة تهديد بالاغتصاب والقتل"، وكانت الانتهاكات على يد الجماعات المسلحة  والجهات الحكومية.

كما يشير تقرير مرصد أوركاجينا العراقي لحقوق الانسان إلى أن المرصد "عمل على توثيق أعداد المثليين في العاصمة وبقية المحافظات وبلغ نحو 4500 إلى 5000، عدا القاطنين بإقليم كردستان، الذين يُقدّرون بضعف تلك الأعداد، ومن الصعب معرفة أعدادهم بدقة بسبب إخفاء كثرٍ لميولهم الجنسية وتصرفاتهم عن ذويهم خشية من ردود أفعالهم".

وتقول نورا،  وهي عابرة جنسيا من العراق إن "المضايقات تبدأ من أطفال يتحدثون عنك، ويطلقون عليك شتائم كمخنث وكذا. يكبر الموضوع ويبدأ البالغون في الشارع بالإشارة إليك بطريقة غريبة، الموضوع يكبر، تأتيك طلقات في مظروف، يعني مثل ذخيرة سلاح في مظروف، يكبر الموضوع وتُقتُل بالشارع وكأنه أمر عادي".

وتضيف "أنا امرأة عابرة، فالطبيعي أن تتم مخاطبتي بصيغة المؤنث، المرأة العابرة تعريفها علميا، هي امرأة ولدت بجسد رجل، وتشعر بإحساس اسمه اضطراب الهوية الجنسية، هي تشعر أن الجنسانية ليست مطابقة لشخصيتها أو حقيقتها كإنسانة".

نورا، كما تحب أن تُنادى، وُلدت ذكرا، إلا أنها لطالما اعتبرت نفسها امرأة محبوسة بهذا الجسد منذ ولادتها قبل 20 عاما.

وتقول: "في فترة ما كان شعري طويلا وكنت أشتري أغراضا غريبة، تعتبر نسائية، فأهلي، أمي قالت لي حينها: 'إذا عرفت أنك تلبس مثل البنات أو تقوم بهذه الأمور  سأقتلك بالشارع ليست لدي أي مشكلة'، ومنذ ذلك الحين وأنا لا أتكلم معهم في هذا الموضوع وأحاول دائما أن أخفى هويتي".

وتضيف "يوميا في الصباح، أنا شخص آخر تماما، الصراحة هناك ازدواجية كبيرة في حياتي، المكان الذي أكون فيه نفسي هو إنستغرام، حسابي الخاص، وفيه 5 أو 10 أفراد وأحلامي".

ولا يعاقب القانون العراقي على الانتماء لمجتمع "ميم عين+" بنص صريح بل يضعه ضمن الجرائم "المخلة بالأخلاق والآداب العامة". 

ويقول محمد أميري، الخبير في القانون الجنائي العراقي إن القوانين التي تطبق والتي تعاقب المثليين هو قانون العقوبات رقم 111 لسنة 69. بالمادة 393 و394، "إذا أردنا أن نكون صريحين، نرى المادة واضحة، من اغتصب أنثى بدون رضاها، أو لاط بأنثى أو ذكر بدون رضاهم أو برضاهم، فهنا اندرجت المثلية وتكون العقوبة السجن المؤقت أو المؤبد".

وعلى الرغم من ذلك طالب نواب بكتلة دولة القانون في البرلمان العراقي بالإسراع في تقديم تشريعات ومقترحات قوانين لتجريم المثلية الجنسية.

ويقول سيف علي: "كنت أتلقى تهديدات بشكل يومي، أننا سنصل إليك، كان الشخص الذي يهددني يقول: 'أنا اسمي فلان، هلقد عمري، من فلان ميليشيا، رح نسوي فيك هيك، رح نغتصبك، رح نقتلك'، ما أفعله هو أمر غير قانوني بالنسبة للدولة. لكن الخوف الكبير لم يكن من الدولة بتاتا، وإنما من الميليشيات، لأن الدولة قد تسجنني، وقد أعاقب لعدد من السنوات وأخرج بعدها. لكن الميليشيات المسلحة، لا تتعامل بهذا الشكل، وقد لا ترسل تهديدا، وتقتلك مباشرة".

لبنان كان وجهة سيف ابن الخامسةِ والعشرين، فهو بلد قريب والدخول إليه من العراق لا يحتاج إلى تأشيرة. "لبنان نرى فيه حرية أكثر من باقي المناطق، ونرى أن كثيرا من المنظمات والناشطين لديهم صوت قوي للغاية، وصوت مسموع. نحن لا نقول إن الحرية في لبنان perfect (لا شائبة فيها) لكن أكيد هي الأحسن في الشرق الاوسط"، يقول سيف.

لبنان

لكن ما جذب سيف إلى لبنان تبدل في الآونة الأخيرة فهل تحول لبنان إلى مكان غير آمن لمجتمع "الميم عين"؟

يقول تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش الحقوقية إن "أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، وصف العلاقات المثلية بالثقافة المنحرفة، ودعا صراحة إلى العنف ضد المثليين، إذ دعا إلى قتلهم، وحث الناس على وصفهم بألفاظ مهينة". 

وهكذا دشن الأمين العام لحزب الله حملة الكراهية ضد مجتمع "الميم عين" في لبنان، والتي تصاعدت بعد أقل من عام على وصول سيف علي إلى بيروت، الذي هرب من بلاده، العراق، خوفا من ممارسات مماثلة. 

"أول ما جيت لبنان حسيت هذا الشعور بالحرية. بلشت أكتب مقالات، بلشت أحس عندي حرية، بلشت أعبر أكثر. بس من ورا الحملة، اللي عم تصير، بطلت أكتب مقالات، صرت أحس أن الوضع أشبه بالوضع تقريبا اللي بالعراق"، يقول سيف. 

وبعد شهر من خطاب نصرالله هاجمت جماعة مسيحية تطلق على نفسها اسم "جنود الرب" حانة في بيروت  تقدم عرضا ارتدى فيه رجال ملابس نسائية ويعرف بالإنكليزية باسم "Drag show".

وتقول يونس إن "خطاب الكراهية ضد أفراد مجتمع الميم عين يزداد خطورة، ويطبق على أرض الواقع. يتم استهداف الأشخاص من قبل أفراد عاديين، من قبل جماعات، مثل حزب الله، وغيرها من الجماعات بلبنان، والتي هي مسلحة، وأيضا موجودة بقلب الدولة".

والهجوم لاقى تأييدا من البعض في الشارع اللبناني، ويقول ميشال شمعون، الناشط على مواقع التواصل الاجتماعي، واحد من هؤلاء "ما عندي مشكل معهن، شو بيعملوا بتختُن ببيتن. عندي مشكل معُهن بنشر الموضوع، ويعتبروه طبيعي، وبدن يانا (يودون أن) نعتبره شيئا طبيعيا. ما فيني (لا يمكنني) أنا أخلي بنتي وعائلتي وأولادي، يشوفوا هذا الشيء أنه شيء طبيعي، لا هذا شيء مش طبيعي أبدا بتاتا. أنا مني من جنود الرب. صارت العالم، إسلام ومسيحيين، صاروا مع جنود الرب".

في خريف عام 2023، نظمت جمعيات ومؤسسات إعلامية وحقوقية مسيرة للحريات في وسط بيروت، لكن وأمام أعين قوات الأمن قامت مجموعات تقود دراجات نارية بالاعتداء على المسيرة بدعوى أنها تروّج للمثلية الجنسية. 

هذا الواقع بدّل ما اعتاد عليه خلدون جابر، الصحافي اللبناني، الذي لم يسبق له أن تعرض لأي مضايقات بسبب هويته الجنسية، ويقول: "لبنان البلد الذي كان لفترة طويلة وجهة للعديد من الأشخاص بالمجتمعات العربية، كانوا مرفوضين فقط بسبب ميولهم الجنسية، كانوا يعتبروا أن لبنان هو مساحة آمنة، ومكان جيد أن يكون يعبر فيه عن حالهم. اليوم للأسف، وصلنا لمكان بشع للغاية، بموضوع عدم تقبل الآخر، وخوف الأشخاص من إعلان ميولهم الجنسية".

وتقول، رشا يونس: "هناك صورة مغلوطة عن لبنان أنه كان ملاذا، وكان ملجأ لأفراد مجتمع ميم عين بالمنطقة. وثقنا 50 حالة كمان بلبنان بالتمييز والعنف والاعتقال التعسفي ضد النساء 'الترانس' (العابرات جنسيا)، بـ 2018 و2019. هذا التمييز وهذا النوع من الاستهداف لم يتغير، بالعكس يزداد. كثير من النساء الترانس، ليس لديهن وصول للعلاج الهرموني، ليس بوسعهن الوصول للخدمات الصحية، ممكن تؤكد الهوية الجندرية، ولذلك يتم التعامل معهم كأنهم رجال مثليون".

تلك المشكلة تعيشها "ليا" كما تسمّي نفسها، وهي عابرة جنسيا لم تستطع حتى الآن وهي في العقد الرابع من عمرها إتمام المسار الطبي لعملية إعادة تحديد الجنس.

وتقول: "بتنعمل بلبنان بس صعبة. يعني أول شيء غالية، ثانيا الدكتور اللي بدو يعمل العملية يمكن مش شاطر، الأطباء اللي عنا عم يختبروا بالعالم (بالناس)، أكثر من انو هني عم يعملوا اشيا (أكثر من كونهم ينجزون أمورا) متأكدين منها. فبالتالي كتير عالم (كثير من الناس) عم تضطر تسافر لبرا (للخارج)، وهالعمليات مكلفة. ومع الأسف، إذا هالعمليات ما انعملت، الأشخاص الترانس أو العابرين والعابرات، ما بيتغيروا هوياتهم".

ظلت ليا ذكرا أمام الدولة اللبنانية، لأنها لم تتمكن من تغيير هويتها الجنسية طبيا، ما قد يعرضها لمشكلات قانونية.

ويلاحق شبح التحريض والقتل أفراد مجتمع "الميم العين" في لبنان والعراق على الرغم من توقيعهما على مواثيق الحقوق الدولية، إضافة الى ضمانات دستورية تكفل حق المواطنين في الخصوصية وحرية التعبير، ما يضع البلدين أمام تحد للحفاظ على أبسط حقوق الإنسان: الحق بالحياة.

كورماشيفا كانت في زيارة سريعة لمسقط رأسها العام الماضي
كورماشيفا كانت في زيارة سريعة لمسقط رأسها قبل اعتقالها من السلطات الروسية. أرشيفية

تعد روسيا رابع أسوأ دولة في العالم سجنا للصحفيين، حيث وثقت أحدث تقارير لجنة حماية الصحفيين الدولية، وجود ما لا يقل عن 22 صحفيا في السجون الروسية.

في صيف عام 2023 ألقت السلطات الروسية القبض على الصحفية الأميركية، ألسو كورماشيفا، في مطار قازان، عاصمة تترستان، إحدى جمهوريات الاتحاد الروسي، واتهمتها بالفشل في التسجيل كمراسلة أجنبية إضافة إلى نشر معلومات كاذبة عن الجيش الروسي.

الحرة تتحرى تلقي الضوء على ملف حرية الصحافة في روسيا، وتكشف مدى تراجع مساحة التعبير منذ تولي فلاديمير بوتين الرئاسة، وكيف تصاعدت الضغوط على المؤسسات، والأفراد، خلال العقدين الماضيين.

ويستعرض التحقيق الأدوات والقوانين، التي يستخدمها الكرملين لقمع الأصوات المعارضة، وكيف أثرت تلك التشريعات على عمل الصحفيين والمؤسسات داخل روسيا.

المستشار في معهد الولايات المتحدة للسلام، دونالد جنسن قال "الوضع سيء للغاية، يمكنك إما محاولة القيام بعملك، كما يحدث في الغرب، وفي هذه الحالة قد يتعرض البعض للقتل، أو السجن، أو التهديد، أما إذا أردت الحفاظ على وظيفتك، فعليك إذاعة ما يمليه الكرملين، هذه هي الخيارات".

الخبير في الشؤون الروسية، بافيل فيلجينهاور يوضح أنه خلال الفترة الماضية "توقفت صحيفة نورويا غازيت، واختفت إذاعة صدى موسكو نهائيا، وبالتالي لا توجد حاليا أي خدمة إخبارية مستقلة، سواء كانت مرئية أو مسموعة أو مكتوبة، ومن يحاول نشر أي شيء، لا يعجب السلطات على الإنترنت، يتعرض للملاحقة القضائية، وقد يعاقب بغرامات باهظة، أو بالسجن".

مطلع تسعينيات القرن الماضي، وفي السنوات التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي، بدأت موسكو في هيكلة نظامها الجديد، فأصدرت آنذاك، أول قانون لتنظيم الإعلام.

الرئيس بوريس يلتسين وقع قانون الإعلام الروسي لعام 1991، والذي يضمن حرية الصحافة، مع وجود استثناءات محددة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تنص المادة الرابعة على حظر الدعوة إلى تغيير النظام الدستوري القائم بالقوة، وحظر إثارة الكراهية الاجتماعية أو الطبقية أو الوطنية، بحسب تقرير مركز القانون بجامعة تورو الأميركية.

ويشرح جنسن أنه "خلال التسعينيات، كان يقال دائما إن الصحافة في روسيا حرة، لم تكن حرة بالمعنى الذي نفهمه في الغرب، لكنها كانت على الأقل، أكثر حرية وتعددية من اليوم، تواجدت مؤسسات إعلامية، أشهرها NTV، وهي شبكة تلفزيون مستقلة، مولها أحد الاثرياء الروس، المرتبطين ببوريس يلتسين، لكن عندما تولى بوتين السلطة، استولى على هذه الشبكة، ووضعها تحت سيطرة الكرملين".

ومع تولي فلاديمير بوتين الرئاسة مطلع الألفية الثالثة، تراجعت حرية الإعلام الروسي بشكل مطرد، وتقلصت حتى، المساحة المحدودة، التي كانت متاحة.

ويشير تقرير لمنظمة مراسلون بلا حدود إلى أن هيئة تنظيم وسائل الإعلام الروسية وضعت رقابة على معظم المواقع الإخبارية المستقلة، وتم تصنيف المواقع الأكثر شعبية، مثل ميدوزا، وTV Rain، بكونها منظمات غير مرغوب فيها، ما يعني أن ذكرها أو الاقتباس عنها، قد يؤدي إلى مسؤولية جنائية. اما وسائل الإعلام المتبقية فمملوكة للدولة أو لحلفاء الكرملين، ويجب على موظفيها اتباع الأوامر الصادرة من مكتب الرئيس بشأن المواضيع التي يتم تجنبها، كما يجب عليهم ممارسة الرقابة الذاتية بدقة.

وقال جنسن إنه "لا ضرورة لسجن الناس، بل يمكن زرع الخوف، وإملاء ما يجب إذاعته على الإعلاميين الحكوميين، هذا ما سنبثه اليوم، وهكذا سنغطي حرب أوكرانيا، إضافة لإجراءات أخرى، مثل زيارة المحطات الاهلية والمستقلة، وإخبارهم بانتهاء تراخيصهم الصادرة في فترة يلتسين، أو وجود مخالفات في العقد، يترتب عليها إغلاق المحطة".

حملة بوتين القمعية لم تتوقف، ففي صيف عام 2012، صادق الرئيس الروسي على قانون جديد يشدد الرقابة، على، جماعات الحقوق المدنية الممولة من الخارج، ويسميها، العملاء الأجانب.

واستهدف قانون العملاء الأجانب المنظمات غير الحكومية التي تتلقى منحا من الخارج. ومن وقتها تم تعديل التشريع بحيث لا يستهدف المنظمات الإعلامية فحسب، بل الصحفيين وناشطي اليوتيوب وأي شخص يتلقى أموالا من الخارج، ويعبر عن رأي سياسي، بحسب تقرير لمحطة NPR الأميركية.

وبدخول قانون العملاء الأجانب حيز التنفيذ أواخر 2012، تعرضت مئات المنظمات لتقلص في التمويل، وتشويه للسمعة.

ونقلت قناة PBS الأميركية عن منظمات حقوق الإنسان قولهم إن مصطلح "العميل الأجنبي" في روسيا يشبه وصف "الجاسوس" أو "الخائن". ولا توجد طريقة للطعن في هذا التصنيف أمام المحكمة مسبقا. كما يُحظر على من يسمون "عملاء أجانب" ممارسة العديد من أنشطة الحياة العامة، كالخدمة المدنية، والتبرع للحملات الانتخابية، وتعليم الأطفال.

ويشرح الخبير في شؤون الدفاع الروسية، فيلجينهاور أن "تصنف كعميل أجنبي" يتبعها اتهامات "بنشر معلومات مضللة أو أخبار كاذبة، وقد تصل العقوبة إلى السجن لمدة لا تقل عن سبع سنوات، والأسوأ، أن تعمل مع منظمة غير مرغوب فيها، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى عقوبات تصل للسجن عشر سنوات، الجميع يدرك العواقب، لذا يرحل الكثيرون قبل أن يتم اعتقالهم".

وبعد غزو أوكرانيا، نهايات فبراير 2022، أصدر الكرملين حزمة من التشريعات، أصبح معها المشهد الإعلامي الروسي أشد قسوة.

وفي السنوات الأخيرة، خاصة بعد بدء الحرب في أوكرانيا، تم تعديل وتوسيع القوانين المتعلقة بحرية التعبير، بما في ذلك التشهير ونشر الأخبار الكاذبة، أو أي معلومات عن الحرب، قد تعتبرها الحكومة الروسية غير صحيحة، والتي يؤدي نشرها إلى عقوبة السجن لمدة تصل إلى خمس عشرة 15 سنة، وغرامات تصل إلى خمسة ملايين روبل (أي ما يزيد عن 48 ألف دولار)، بحسب تقرير نشره موقع قناة PBS الأميركية.

الخبيرة في شؤون الصحافة الروسية، ماريا أوردزونيكيدزه قالت إن القوانين الجديد "تفرض قواعد معينة على تغطية الحرب في أوكرانيا، ومن لا يلتزم بهذه القواعد، يمكن أن يتعرض للمحاكمة، بتهمة نشر أخبار كاذبة، لذا أصبح من الخطر على الصحفيين نشر أي معلومات، لا تتوافق مع ما تروجه وسائل الإعلام الحكومية الروسية، سواء كانت أخبارا، أو معلومات، أو صورا، أو مقاطع مصورة".

ووفقا لمنظمة مراسلون بلا حدود، تصاعدت أعداد الصحفيين، الذين تعرضوا للاضطهاد في روسيا، بين عامي 2000 و2024، لتصل 162 صحفيا، 41 منهم في عداد القتلى، وما لا يقل عن 111 قيد الاحتجاز، إضافة لعشرة في عداد المفقودين.

وقالت أوردزونيكيدزه لقد "رأينا حالات لاعتقال صحفيين أجانب، كمراسل وول ستريت جورنال، إيفان جيرشكوفيتش، والذي قضى أكثر من عامين في سجن روسي، قبل أن يتم استبداله بجواسيس ومجرمين، كما نشهد حاليا اتهاما لمجموعة من الصحفيين بإنتاج محتوى متطرف، حيث يُزعم أنهم عملوا على مساعدة المعارض الروسي، اليكسي نافالني، في نشر مواد إعلامية".

كانت قوانين العملاء الأجانب، والأخبار الكاذبة، هي أساس الاتهامات الموجهة للصحفية الأميركية، ألسو كورماشيفا، والتي تحولت قضيتها إلى مسألة دبلوماسية، بين واشنطن وموسكو، فما قصة احتجازها، وكيف تم الإفراج عنها.
وفي تقرير وثائقي نشرته "صوت أميركا" قال بافيل بوتورين زوج ألسو كورماشيفا "أنا زوج ألسو كورماشيفا، وأعمل مديرا لقناة Current Time، في محطة راديو أوروبا الحرة / راديو ليبرتي، هنا في براغ، أتولى مسؤوليات كثيرة، مسؤوليتي كأب لفتاتين، كان عليهما أن يكبرا بسرعة، خلال الأشهر القليلة الماضية".

وأضاف "قمنا بحساب الوقت الذي مر دون ألسو بأعياد ميلادنا، لأنها غابت عنها كلها، لا يوجد أي منطق في العقوبة التي تتعرض لها، ومن وجهة نظري حدث ذلك فقط، لأنها عاشت الحلم الأميركي، ومارست حقوقها، التي يكفلها التعديل الأول لدستور الولايات المتحدة".

وقالت بيبي بوتورين، ابنة ألسو "ربما يكون من المستحيل وصف أمي، لأنها تمتلك العديد من الصفات، هي محبة وتهتم بالآخرين، كما أنها خفيفة الدم حقا، ومن أكثر الأشياء التي أحبها فيها، اهتمامها بكل من حولها".

ويشرح بافيل أن زوجته ألسو "تهتم كثيرا بالآخرين، وهو ما دفعها حقا للسفر إلى روسيا، على الرغم من أننا كنا ندرك المخاطر المحتملة، وعندما كانت تستعد للمغادرة، قالت، أخبرني إن كل شيء سيكون على ما يرام، ماذا يمكن للزوج أن يقول لزوجته في مثل هذا الموقف، وأحيانا أتساءل، ماذا لو كنت قد قلت لا".

وقال بافيل إن "أصعب اللحظات عندما أكون بمفردي، لذا أستمد القوة من أطفالي، إنهم دعم كبير لي، كانوا رائعين، وأعتقد أنني تعودت على أن أبقي متماسكا مهما حدث، لكن وبالتأكيد أثر هذا الأمر علينا عاطفيا، عادة ما أستيقظ مبكرا لممارسة رياضة الصباح، لذا، ومن أجل الحفاظ على أي نوع من الطبيعية أو العقلانية، يتعين علي حقا أن أتوقف عن التفكير".

مدير الخدمة التترية في راديو أوروبا الحرة / راديو ليبرتي، ريم جيلفانوف قالت إنها "التقطت صورة بمناسبة الذكرى الستين لبدء الخدمة، وقررنا الاحتفال بهذه الطريقة، التقطنا صورة بالزي التتري التقليدي، ألسو شخصية جادة، لا شك في ذلك، ومع ذلك، فالصفة الرئيسية التي تتبادر إلى ذهني، عندما أفكر فيها، هي الحماس الدائم، والاستعداد لمساعدة كل من حولها".

رئيس محطة راديو أوروبا الحرة / راديو ليبرتي، ستيفن كابوس قال إن الأمر "تطور تدريجيا، ذهبت ألسو لزيارة والدتها، ولم تكن هناك للعمل الصحفي، وعندما حاولت المغادرة، منعت من السفر، بدأت الامور تسوء تدريجيا من تلك اللحظة، وشيئا فشيئا، أصبح واضحا أنهم لن يسمحوا لها بالمغادرة، بعدها، لم يتم سجنها إلا في أكتوبر".

وذكر بافيل أن "ألسو امرأة قوية وصامدة، لكن عندما أراها في جلسات المحكمة، أستطيع أن أرى التأثير العاطفي والجسدي، الذي تركه هذا الاحتجاز الظالم عليها، مكانها ليس في زنزانة السجن، بل مع أسرتها هنا".

وفي 19 يوليو 2024 حكم على ألسو كورماشيفا بالسجن لست سنوات ونصف، فيما انتقد مراقبون محاكمتها السرية ووصفوها بالصورية.

وقال بافيل "صدمت بعد سماع خبر هذا الحكم المروع، ولكنه كان متوقعا، فمعدلات الإدانة في روسيا مرتفعة بشكل لا يصدق، وتصل إلى 100 في المئة تقريبا، وخاصة في القضايا السياسية، مثل قضية ألسو".

من حضن عائلتها إلى زنزانة باردة.. ماذا حدث للصحفية الأميركية كورماشيفا في روسيا؟
بعد نحو 10 أشهر من السجن والضغط لانتزاع اعترفات، أصدرت محكمة روسية حكما بالسجن على صحفية روسية أميركية كانت في زيارة سريعة لمسقط رأسها، العام الماضي، ليضاف إلى سلسلة أحكام روسية صدت بحق مواطنين أميركيين يعتبرها البعض ذات أغراض سياسية.

واستطاعت إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن التوصل لتبادل تاريخي للسجناء مع روسيا، والتي كانت أكبر عملية تبادل منذ الحقبة السوفيتية بين روسيا والدول الغربية، ليشمل ثلاثة مواطنين أميركيين، وحامل إقامة دائمة.

وقال الرئيس الأميركي، جو بايدن حينها "نعيد إلى الوطن، بول وإيفان وألسو وفلاديمير، ثلاثة مواطنين أميركيين، إضافة لحامل بطاقة خضراء، والأربعة سُجنوا ظلما في روسيا".

وفي أواخر أغسطس بعد نحو شهر على إطلاق سراحها ووصولها للولايات المتحدة قالت الصحفية ألسو كورماشيفا إنها "تستمتع بالحرية، وبكل لحظة فيها، بمذاق الطعام والماء، وبالتحدث إلى الناس".

وأضافت "أنا سعيدة بلقاء عائلتي، ولكنني أفكر أيضا في أولئك الذين ما زالوا في السجن، وخاصة الصحفيين، وتحديدا ثلاثة من زملائي في راديو أوروبا الحرة، أشعر بآلامهم، وآلام عائلاتهم".