محمد بن زايد يلتقي رئيس الوزراء التركي حينها رجب طيب إردوغان عام 2012. أرشيف
محمد بن زايد يلتقي رئيس الوزراء التركي حينها رجب طيب إردوغان عام 2012. أرشيف

 تُقبل العلاقة بين تركيا والإمارات على "نقطة تحول مفاجئة"، بحسب المعطيات التي أوردتها وسائل إعلام غربية وتركية، حيث كشفت، الاثنين، عن زيارة مخطط لها لولي عهد أبو ظبي، الشيخ محمد بن زايد، إلى العاصمة التركية أنقرة، للقاء الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان.

وفي الوقت الذي لم يتحدد فيه موعد الزيارة بدقة، وغابت التأكيدات الرسمية من البلدين، تشير وكالة "رويترز"، نقلا عن مسؤولين أتراك، إلى أن اللقاء سيكون في الرابع والعشرين من نوفمبر الحالي.

وأضاف أحد المسؤولين للوكالة أن إردوغان ومحمد بن زايد "سيناقشان العلاقات الثنائية والتجارة الإقليمية والاستثمارات"، دون إعطاء مزيد من التفاصيل.

وإن صحت أنباء الزيارة بالفعل، ستكون الأولى من نوعها منذ عشر سنوات، وستشكل أيضا علامة فارقة وذات أهمية كبيرة على صعيد العلاقة بين أبوظبي وأنقرة من جهة، وعلى صعيد المحاور المنقسمة التي اصطفت بها دول الإقليم خلال السنوات الأخيرة، من جهة أخرى.

وأبوظبي وأنقرة تقفان على طرفي نقيض منذ سنوات طويلة، ليس فقط على صعيد أحاديث السياسيين، بل تعدّى ذلك إلى ملفات إقليمية وداخلية وإيديولوجية في جزء آخر.

وهذا التغير، على الرغم من أن التمهيد له ينطلق من بوابة الاقتصاد، إلا أنه سينسحب للسياسة بشكل أو بآخر، والتي طالما أعطت تفاصيلها المتواترة شرارة الوصول إلى حالة العداء.

"تمهيد ومغازلة حذرة"

رغم أن الزيارة المرتقبة ستكون حدثا مفاجئا، إلا أن عدة مؤشرات كانت قد مهدت لها خلال الأشهر الماضية، أبرزها الاجتماع النادر الذي جمع إردوغان مع مستشار الأمن القومي الإماراتي، طحنون بن زايد آل نهيان، بعد زيارة غير مسبوقة للأخير إلى أنقرة، وذلك أغسطس الماضي.

وهذا ما يؤكد عليه المحلل الإماراتي،  عبد الخالق عبد الله، في حديث لموقع "الحرة"، حيث اعتبر أن اللقاء المرتقب "تتويج لزيارات سابقة ومحادثات عميقة حصلت وتمت على مستويات مختلفة".

ويعتقد عبد الله أن "إقدام ولي عهد أبوظبي على تتويج اللقاءات السابقة بزيارة شخصية له إلى تركيا، يعني أن فرص النجاح كبيرة".

وفي أغسطس الماضي، أعلنت أبوظبي وأنقرة عن اتصال بين إردوغان ومحمد بن زايد، وحينها أشار الأول، عقب المكالمة، إلى أن النقاشات تمحورت حول الاستثمارات الإماراتية في تركيا، وأن لدى الإماراتيين خططا استثمارية جادة للغاية.

وبحسب وكالة الأنباء الإماراتية "وام"، بحث الجانبان خلال اللقاء "سبل تعزيز العلاقات الثنائية بين الإمارات وتركيا، خاصة التعاون الاقتصادي والتجاري، والفرص الاستثمارية في مجالات النقل والصحة والطاقة، بما يحقق المصالح المشتركة".

وأُضيف إلى ما سبق، تطور آخر في مطلع نوفمبر الحالي، حين أعلنت الإمارات عن تقديم 10 ملايين دولار لتركيا، "للمساهمة في دعم مراحل إعادة التأهيل لبعض المناطق التركية التي تضررت من حرائق الغابات والفيضانات التي اجتاحت هذه المناطق"، في خطوة قد تصب أيضا في سياق المؤشرات التمهيدية لما هو مقبل.

ويرى الباحث المختص بالشأن التركي، محمود علوش، في تصريحات لموقع "الحرة"، أن اللقاء المرتقب بين القائدين سيكون "بمثابة إعلان رسمي عن انتهاء القطيعة بين البلدين، وهي مؤشر على أن مساعي إعادة التطبيع وصلت إلى مراحلها النهائية".

وعلى مدى الأشهر الماضية عُقدت اجتماعات مكثّفة بين الجانبين، أثمرت عن تهدئة في الخطاب السياسي وتراجعاً في حدة المواجهة بالوكالة بينهما في ليبيا.

ويوافق عبد الله على أن "لا عودة إلى الوراء، وأن كلا من تركيا والإمارات ينظران إلى المستقبل"، معتبرا أن "أهم ما سيتم تناوله في اللقاء هو العلاقات الثنائية بين البلدين، التي تحتاج إلى المزيد من التفعيل والتطوير".

وأوضح المحلل الإماراتي أن "الهدف الأساس من هذه الزيارة إعادة العلاقات مع تركيا إلى طبيعتها بعد انقطاع طويل، لاسيما بشأن الجوانب السياسية والدبلوماسية منها".

وعن توقيت هذا اللقاء، يقول علوش، إن "الديناميكية الجديدة التي تسير بها السياسات الإقليمية منذ مطلع العام ساعدت على دفع قطار تطبيع العلاقات بين تركيا والإمارات".

كما أن ظروف التنافس الحاد، الذي أوصل الخلافات بين البلدين إلى مستوى قياسي، تراجعت. 

ووفق علوش: "المصالحة التركية الإماراتية والمصالحات الأخرى في المنطقة تُشير إلى أن المنطقة باتت أكثر استعدادا لطي صفحة الاضطرابات في العلاقات الإقليمية بعد الربيع العربي".

بينما يتمسك عبد الله بأن "هناك ملفات إقليمية عدة لا تزال عالقة، ولكن الإمارات لديها الرغبة في وضع الاقتصاد على قائمة اهتماماتها في المرحلة المقبلة، وذلك لتعزيز دورها الإقليمي وخدمة مصالحها الوطنية"، لافتا إلى أنه حان الوقت لـ"تعزيز العلاقات الاقتصادية والاستثمارية بين البلدين".

ماذا عن الملفات الخلافية؟

وفي غضون ذلك، وبينما تطغى لغة الاقتصاد والاستثمارات على المشهد العام الحالي، ومعها تكثر أحاديث التقارب، تغيب تفاصيل الآلية التي سيسير من خلالها الطرفان من أجل حل الخلافات العالقة بينهما، والتي كانت الأساس في "حالة العداوة والخصومة" التي خرجت إلى العلن قبل سنوات.

ويعود تأزم العلاقات التركية- الإماراتية بشكل كبير، إلى عام 2016، وحينها اتهمت أنقرة أبوظبي بدعم محاولة الانقلاب الفاشلة، الأمر الذي نفته الإمارات بشدة.

وتصاعد الخلاف بين البلدين لأسباب جيو استراتيجية، وما رافق ذلك من تعارض بالأهداف في ملفات الشرق الأوسط، وخاصة ملفي سوريا وليبيا، وصولا إلى شهر مايو عام 2020 لتصدر أبوظبي بيانا أدانت خلاله دور أنقرة في طرابلس الليبية، وتحركاتها في منطقة الشرق الأوسط.

وتتهم الإمارات تركيا بدعم "الإخوان المسلمين" والجماعات المتشددة في إطار سعيها لفرض نفوذها في دول المنطقة، وهو ما تنفيه أيضا أنقرة بشدة.

وبوجهة نظر الباحث التركي، فراس رضوان أوغلو، وبعيدا عن الأثر الذي أحدثته وتحدثه الملفات الخلافية "كان لا بد من تغيير في المسار الاستراتيجي بين تركيا والإمارات. على الأقل في العلاقات الثنائية وفق تغيرات إقليمية تشهدها المنطقة في الوقت الحالي".

ومن بين التغيرات دور الولايات المتحدة وتوجهها نحو الشرق وروسيا والصين، بالإضافة إلى التحوّلات الحاصلة في سوريا والعراق وأفغانستان واليمن.

ويضيف رضوان أوغلو لموقع "الحرة": "هذه المنطقة بحاجة لرعاية من قبل الحلفاء، وبالتالي فإن الصدام بين البلدين سيزيد من الخسائر الاقتصادية علاوة على الخسائر بسبب كورونا".

ويرى الباحث التركي أن عودة العلاقات كاملة قد تقف ورائها أسباب اقتصادية بجزء كبير، لاسيما أن حجم تبادل الإمارات التجاري مع تركيا يبلغ 15 مليار دولار، وهي الثانية بعد العراق.

ويلفت إلى أن "العجلة الاقتصادية هي ما تحرك العجلة السياسية، وهو ما يتضح من مسار العلاقة الحالي بين الطرفين".

وفي هذا الصدد يؤكد عبد الخالف عبد الله إلى أن الجانب الاقتصادي مهم، ولكن اللقاء يحمل أبعادا وأهدافا سياسية عدة، لاسيما لأن "تركيا والإمارات كانا على خلاف في ملفات عدة، حيث أقحمت أنقرة نفسها في الخلاف الخليجي، كما تواجدت عسكريا في ليبيا وسوريا".

وكانت السعودية والإمارات ومصر والبحرين قد أعلنت في يونيو 2017 قطع العلاقات مع قطر، واتهمتها آنذاك بالتقرب من إيران ودعم مجموعات إسلامية متطرفة، قبل التوصل إلى مصالحة في قمة العلا،  في الخامس من يناير الماضي.

وتقدمت الدول الأربع، آنذاك (2017)، بلائحة من 13 مطلبا كشرط لإعادة علاقاتها مع الدوحة، تضمنت إغلاق القاعدة العسكرية التركية الموجودة على الأراضي القطرية، وخفض العلاقات مع إيران، وإغلاق قناة الجزيرة.

وحول الأسباب التي دفعت تركيا لهكذا نوع من التقارب، يوضح الباحث رضوان أوغلو: "كان لابد أن تغير أنقرة تكتيكاتها على صعيد السياسة الخارجية، لأن رقعة الصدام باتت على محور كبير. مع السعودية والإمارات واليونان وفرنسا".

ويتابع: "ما يحصل هو نتائج التكتيك وننتظر الأيام المقبلة، وربما باتجاه مصر والسعودية".

ويعتبر عبد الله أن "تركيا تهدف إلى إعادة علاقاتها مع الإمارات بسبب وضعها الاقتصادي والمالي الصعب".

وكشف أن "للإمارات رغبة في مساعدة أنقرة بحل بعض أزماتها مقابل مواقف محددة عليها اتخاذها في الملفين السوري والليبي".

"نهج تصالحي"

من جانبه، استعرض الباحث علوش، عدة محددات أسست لطبيعة العلاقة الحالية بين أنقرة وأبوظبي، من بينها تراجع الدور الأميركي في الشرق الأوسط وتداعيات أزمة كورونا على اقتصادات المنطقة، إلى جانب عوامل أخرى.

ويوضح الباحث: "كل ذلك دفع باللاعبين الإقليميين إلى تبني نهج تصالحي والبحث عن سبل لإدارة الصراعات. دوافع الجانبين مختلفة في المصالحة وكل طرف يسعى لتحقيق حاجته من الآخر".

وحسب علوش "يأمل إردوغان في عودة الاستثمارات الخليجية لدفع الاقتصاد المتعثر مع اقتراب الانتخابات، كما أن إنجاز المصالحة مع الإمارات سينعكس بشكل إيجابي على مساعي أنقرة لدفع عملية إعادة تطبيع العلاقات مع مصر والسعودية".

ويضيف: "الإماراتيون أيضا وصلوا إلى قناعة بأن الانفتاح على تركيا قد يساعدهم على تجنب مأزق في دورهم الإقليمي مع تراجع الدور الأمريكي، كما أنّهم متهمون بصناعات الدفاع التركية بعد النجاحات التي حققتها في ميادين القتال، ويبدو أنّهم يرغبون في اقتنائها لتنويع إمكاناتهم العسكرية".

وفي المقابل، يرى عبد الله أن "الإمارات تريد التقارب من تركيا ومساعدتها في أزمتها المالية، لقاء اتخاذها مواقف جديدة تجاه تواجدها العسكري في سوريا وليبيا"، مشيرا إلى أن "اللقاء بهدف تعزيز التعاون الثنائي بكافة المجالات".

"إدارة صراع"

منذ مطلع العام الحالي، طرأت عدة تغيرات على صعيد السياسة الخارجية لتركيا، وهو ما أكده مسؤولون رفيعي المستوى، من بينهم وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو، بقوله في أبريل الماضي: "العالم يتغير بسرعة. مجال السياسة الخارجية يتغير بسرعة. في مواجهة هذه التطورات هناك حاجة لتغييرات في السياسة الخارجية".

وأضاف: "يجب أن نكون رواد أعمال، ويجب أن نجد حلولا للنزاعات. يجب أن تكون تركيا وسيطا. تعود نجاحاتنا في الوساطة إلى نهجه الصادق والمتوازن".

ورغم أن التغير في السياسة انعكس لوهلة تجاه بعض الملفات، خاصة باتجاه العلاقة مع مصر والسعودية، إلا أن ذلك لم يتكلل بأي نتائج ملموسة حتى الآن.

وبخلاف السعودية ومصر، تبدو خطوات العلاقة بين الإمارات وتركيا أسرع، وذلك قد يرتبط بحسب المحليين إلى المسار الجديد الذي تسير فيه الأولى أيضا.

وكان مسؤولو أبوظبي قد أجروا زيارات خلال الأشهر الماضية إلى العاصمة القطرية الدوحة، وقبل أيام وصل وزير خارجية الإمارات، عبد الله بن زايد إلى العاصمة السورية دمشق، في خطوة هي الأولى من نوعها أيضا منذ عشر سنوات.

ولا يرى مدير معهد إسطنبول للفكر، باكير أتاجان، أن أبوظبي وأنقرة قد يقدمان أي تنازلات متبادلة في صعيد إعادة العلاقات كما كانت قبل 2012.

ويقول لموقع "الحرة": "سيتجه الطرفان إلى اتفاق بما يخدم مصالحهما في المستقبل والوقت الحاضر".

ويشير الباحث التركي إلى أن "أنقرة لا تريد خلط الأوراق، بل تقسيم الرابحة منها والخاسرة، ومن ثم المناقشة لحل المشكلات مع دول، من بينها الإمارات".

ويضيف أتاجان لموقع "الحرة": "بعد جائحة كورونا أصبحت الدول تدرك أن العلاقات غير الجيدة ستسفر عن تكاليف باهظة، لذلك لا بد من تنسيق".

من جانبه يقول علوش إن "إصلاح العلاقات بين تركيا والإمارات لن يعني بطبيعة الحال أن البلدين وضعا مقاربة مشتركة للقضايا الخلافية بينهما في سوريا وليبيا وغيرها، بل هو اتفاق على إدارة الصراع بطريقة تحد من تداعياته على الطرفين".

وبشأن الخطوات الإماراتية تجاه دمشق يضيف علوش: "الأتراك يتوجسون من الانفتاح الإماراتي على دمشق، لكن رد فعلهم عليه مرهون بأهداف أبوظبي في سوريا".

المهمة الإماراتية في سوريا صعبة
عبدالله بن زايد في دمشق: ما الذي حمله في جعبته؟
أول ما يقفز إلى الأذهان، وأنت تقرأ خبر زيارة وزير خارجية الإمارات عبد الله بن زايد إلى دمشق، أن الرجل وفِدَ إلى العاصمة السورية في مهمة تطبيعية مع إسرائيل.. من يقرأ تعليقات عشرات القراء على الخبر الذي تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي، يجد أن ثمة غالبية ساحقة منها، ذهبت في هذا الاتجاه، فأبوظبي باتت الأكثر حماسةً للتطبيع، ويبدو أنها لن تدّخر جهداً في سبيل تعميمه.

ولكن المحلل الإماراتي يشدد على أن "الملف السوري مهم جدا لجميع الدول العربية بما فيها الإمارات"، مبينا أن "التواجد التركي في سوريا كان مقلقا وهناك بيانات عدة صادرة عن اجتماعات القمة العربية بهذا الخصوص".

وأضاف: "على تركيا وقف دعمها للجماعات المسلحة الإرهابية وانسحابها من سوريا"، معتبرا أن هذه المسألة ستطيل المباحثات بين البلدين نحو الوصول إلى حلحلة كاملة".

البابا فرنسيس

في صباح مشمس من مارس 2021، وقف طفل ملوحا بعلم عراقي صغير، على حافة الرصيف في مدينة النجف، يتأمل موكبا رسميا لم يَعْهد له مثيلا من قبل. 

وسط الجموع، لمح الطفل الثوب الأبيض للزائر الغريب وهو يخطو على مهل داخل أزقة المدينة المقدسة لدى المسلمين الشيعة.  لم يكن ذلك الطفل يعلم على الغالب أنه كان شاهدا على واحدة من الزيارات البابوية التي ستسجل في كتب التاريخ باعتبارها لحظة نادرة ومفصلية في علاقة الأديان في الشرق الأوسط. 

في تلك الزيارة التي وقّتها البابا مع بدء تعافي الكوكب من فايروس كورونا، وبدء تعافي العراق من "داعش"، زار البابا الراحل المناطق التي دمرها داعش في أور والموصل، وحمل معه للعراق عموماً وللمسيحيين خصوصاً رسالة أمل رمزية لكنها شديدة العمق: "السلام ممكن، حتى من قلب الألم". 

خلال لقائه بالمرجع الشيعي الأعلى، علي السيستاني، في المدينة الشيعية المقدسة، بحث رأس الكنيسة الكاثوليكية مع رأس الحوزة "التحديات الكبيرة التي تواجهها الإنسانية"، وقد شكل ذلك اللقاء "فرصة للبابا ليشكر آية الله السيستاني لأنه رفع صوته ضد العنف والصعوبات الكبيرة التي شهدتها السنوات الأخيرة، دفاعاً عن الضعفاء والمضطهدين، بحسب بيان وزعه المكتب الصحفي للكرسي الرسولي بعد اللقاء.

منذ حمله لقب "صاحب القداسة" في العام ٢٠١٣، أولى البابا فرنسيس أهمية كبيرة للبقعة الجغرافية التي تتنازعها الحروب والنيران على طول خريطة الشرق الأوسط. والتفت البابا بعين دامعة، الى البشر الذين يُدفعون بسبب الحروب والمآسي إلى البحار هرباً من الموت على اليابسة. 

خرج صوت البابا من أروقة الفاتيكان، بخشوع وألم، ليعبر بنبرة أب قلق على أبنائه وبناته في تلك البقعة من العالم، من تمييز بينهم على أساس أديانهم أو طوائفهم. 

رفع البابا صوته وصلواته لضحايا الهجرة، ووقف على شاطئ المتوسط منادياً العالم: "أولئك الذين غرقوا في البحر لا يبحثون عن الرفاه، بل عن الحياة". وفي لقائه بلاجئين سوريين خلال زيارته إلى اليونان، طلب "ألا يتعامل العالم مع المهاجرين كأرقام، بل كوجوه وأرواح". 

لا يمكن الفصل بين رؤية البابا فرنسيس لقضايا الشرق الأوسط وبين خلفيته الآتية من أميركا اللاتينية، كما يشرح الباحث في العلاقات الإسلامية المسيحية روجيه أصفر لموقع "الحرة". 

يقول أصفر إن "المنطقة التي أتى منها البابا وشهدت صعود لاهوت التحرير وتعيش فيها الفئات المسحوقة والديكتاتوريات، لابد أن تخلق لديه حساسية تجاه قضايا شعوب الشرق الأوسط التي تعاني من نموذج مشابه من الديكتاتوريات". 

وايضاً يجب الأخذ بعين الاعتبار، بحسب أصفر، المعرفة العميقة لدى البابا بالإسلام، "ومع كل الاستقطاب الديني الذي نشهده في العالم، وصعود الإسلاموفوبيا، تمكن البابا من نسج علاقات جيدة بالعالم العربي والمرجعيات الدينية فيه وخصوصاً مع الأزهر وتوقيعه وثيقة الأخوة الإنسانية التي تعتبر متقدمة جداً في مجال الحوار بين الأديان".

جال البابا في زيارات مختلفة توزعت على دول عربية، وحط في العام ٢٠١٧ في مصر، بعد تفجيرات استهدفت الكنائس القبطية، والتقى حينها بشيخ الأزهر، أحمد الطيب، وشارك في مؤتمر للسلام. هناك قال إن "الإيمان الحقيقي هو ذلك الذي يدفعنا إلى محبة الآخرين، لا إلى كراهيتهم". 

بعدها بسنتين، زار الإمارات في زيارة تاريخية لأول بابا يزور شبه الجزيرة العربية، ووقع مع شيخ الأزهر وثيقة "الأخوّة الإنسانية" التاريخية، داعياً من قلب الخليج إلى "نبذ الحرب، والعنصرية، والتمييز الديني". كما ترأس قداساً حضره أكثر من 100 ألف شخص في استاد زايد، ليقول للعالم: "الإيمان يوحّد ولا يُفرّق".

ما فعله البابا هو "كسر الحواجز وتأسيس منطلقات نظرية لاهوتية وشرعية وفقهية مع الجانب المسلم والتعاون لتأسيس للعيش معاً بشكل أفضل"، يقول أصفر. ويتابع: "البابا انطلق في ذلك من سلطته المتأتية من صلاحية قوية جداً على رأس هرم الكنيسة الكاثوليكية التي تضم أكبر جماعة مسيحية في العالم". 

حينما وقع انفجار هائل في مرفأ بيروت في أغسطس من العام ٢٠٢٠، عبّر البابا فرنسيس عن تضامنه العميق مع الشعب اللبناني، ووصف لبنان بأنه "رسالة" في التعايش، داعيًا العالم لعدم التخلي عنه: "لبنان لا يمكن أن يُترك وحيدًا... هو كنزٌ يجب الحفاظ عليه". 

خصص صلوات كاملة لأجل "نهضة لبنان من الرماد"، وكان يخطط لزيارة بيروت قبل أن تؤجل الزيارة بسبب وضعه الصحي. وأبدى اهتماماً كبيراً بأزمة السودان، وتدهورها في السنوات الأخيرة إلى انتهاكات شنيعة لحقوق الإنسان، فرفع الصلوات لسلام السودانيين ودعا إلى حماية المدنيين مما سماه "أسوأ أزمة إنسانية في العالم".

كما عبّر البابا فرنسيس مراراً عن قلقه العميق من تدهور الأوضاع بين الاسرائيليين والفلسطينيين في الشرق الأوسط وانسحاب الصراع إلى دول أخرى مثل لبنان. 

خلال زيارته لبيت لحم عام 2014، آتياً من الأردن، تحدث عن السلام وأهميته وعن حق الفلسطينيين كما الإسرائيليين بالأمان. 

وبعد الهجوم الذي شنّته حركة حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، أدان البابا فرنسيس بوضوح قتل المدنيين واختطاف الأبرياء، مع دعوة لوقف العنف من الجانبين: "أتابع بألم ما يحدث في إسرائيل وفلسطين... أدعو إلى الوقف الفوري للعنف الذي يحصد أرواحًا بريئة. الإرهاب والعنف لا يحققان السلام أبدًا".

ودعا إلى إطلاق سراح الرهائن وفتح ممرات إنسانية لغزة، مؤكدًا أن "كل إنسان له الحق في العيش بكرامة، سواء كان فلسطينياً أو إسرائيلياً".

في العام ٢٠٢٢ شارك في "ملتقى البحرين للحوار"، في زيارة ثانية الى الخليج، كشفت عن اهتمامه بتلك البقعة من العالم، حيث دعا إلى احترام الحريات الدينية، والحوار بين المذاهب والأديان، مؤكدًا أن "الاختلاف لا يجب أن يتحول إلى صراع".

لم يكن البابا الراحل فرنسيس يوماً زائراً غريباً عن المنطقة، وعن الشرق الأوسط، بل كان يحمل في قلبه الحب لجميع شعوب العالم، ويحمل بلسانه لغة الحوار والعدالة التي يفهمها الجميع بمعزل عن اختلاف لغاتهم. 

كان يعرف كيف يقارب الصراعات الحساسة بحسّ إنساني عال وبشجاعة ملحوظة، فيقف إلى جانب المدنيين دائما في الصراعات العسكرية، ويدعو المتحاربين إلى انهاء حروبهم وتجنيب المدنيين قسوة الحروب ومآسي القتل والدمار والتهجير.