بين عامي 2011 و2022 تغيّرت سوريا كثيرا ولم يبق فيها أي شيء على حاله، سياسيا وعسكريا وإنسانيا واقتصاديا، وبينما طغت لغة السلاح و"الحل السياسي التائه" تحول المشهد شيئا فشيئا إلى حالة من "الشلل الكامل" في عموم المحافظات. وهي التي يراها مراقبون أنها ستكون "طويلة وبعيدة عن المدى المنظور".
لكن وقبل أسبوع، كسرت محافظة السويداء قليلا من هذه الحالة بشكل مفاجئ باحتجاجات شعبية كان المحرك الأول لها القرار الذي أصدره النظام السوري بـ"رفع الدعم الحكومي"، الأمر الذي حوّل الأنظار إليها، وهي الواقعة في أقصى الجنوب السوري.
ولم تهدأ المحافظة، منذ الخميس الفائت، سواء مركز مدينتها أو القرى والبلدات الواقعة في أريافها، وضمن تجمعات شعبية شارك فيها المئات، ردد محتجون غاضبون شعارات وهتافات طالبت بتحسين الأوضاع المعيشية، ورفضت السياسيات الخدمية والاقتصادية الخاصة بالنظام الحاكم في دمشق.
وفي الوقت الذي غاب فيه أي تعليق رسمي من جانب هذا النظام، تحدث صحفيون لموقع "الحرة"، بينهم ريان معروف عن وصول تعزيزات أمنية وعسكرية إلى محيط المقار الحكومية، والساحات التي تشهد تواجدا لقوات الأسد، كقيادة الشرطة وغيرها.
وانتشرت هذه التعزيزات "غير المسبوقة" صباح الجمعة، بالتزامن مع خروج المئات من المحتجين بمظاهرات أمام مقام "عين الزمان"، والذي يتميز بمكانة ورمزية كبيرة في مجتمع المحافظة، ذات الغالبية الدرزية.
"من العفوية إلى مطالب البدايات"
وتحظى السويداء برمزية وموقع حساس في سوريا، وتسمى بـ"حاضرة بني معروف"، وعلى الرغم من أن ما تشهده اليوم من احتجاجات ليس جديدا، إلا أنه ما يميزها الشعارات التي ترددت.
ويقول مدير تحرير شبكة "السويداء 24"، ريان معروف لموقع "الحرة": "هذه الشعارات تحولت من العفوية في الأيام الماضية إلى المطالبة بالدولة المدنية الديمقراطية، وإعادة توزيع الثروة الوطنية، وتطبيق القرار الأممي 2254 الخاص بالانتقال السياسي".
وتعتبر "السويداء 24" من أبرز الشبكات الإخبارية المحلية في السويداء، ويقودها ناشطون من المحافظة، وكانت قد نشرت، في الأيام الماضية، صورا وتسجيلات مصورة للاحتجاجات والشعارات التي رفعت فيها، عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
ومن بين هذه الشعارات التي اتضح مضمونها بشكل أكبر صباح الجمعة: "دولة مدنية ديمقراطية"، "الدين لله والوطن للجميع"، "نطالب بتطبيق القرار الأممي 2254"، "هنا السويداء.. هنا سوريا".
حمزة المختار صحفي كان ضمن المحتجين الذين تجمعوا أمام مقام "عين الزمان" في السويداء يقول لموقع "الحرة": "الي عم نعيشه حاليا هو إعادة لمطالب الثورة السورية في عام 2011".
ويضيف الصحفي: "في بداية الثورة طالبنا بالحياة والعيش الكريم. اليوم نخرج على نفس هذه المبادئ. المظاهرات أحييت فينا نفس 2011".
واعتبر المختار أن "المحتج وعندما يطالب بالحياة المعيشية التي لا يتمكن النظام السوري من تحقيقها، فهو يطالب بشمل مبطن وبصورة غير مباشرة بإسقاط النظام السوري".
ويتابع: "في الاحتجاجات رفعت لافتات تطالب بإخراج المعتقلين وتطبيق القرار الأممي. ما يحصل ليس آنيا بل له خلفيات، والنقطة الأهم أن التنظيم لم يقتصر على أناس معينين دون غيرهم، فهناك شيوخ محتجون وناشطون وسياسيون ومواطنون".
"حالة مفصلية"
لا يعرف بالتحديد ما سيكون عليه الشارع في المحافظة، خلال الأيام المقبلة، وبينما تتواصل دعوات المنظمّين للخروج بالاحتجاجات، لم يرد أي تعليق رسمي من جانب النظام السوري.
واقتصر موقف النظام، قبل يومين بصورة غير مباشرة، على لسان المستشارة الرئاسية، بثينة شعبان، حيث كتبت مقالة في صحيفة "الوطن" شبه الرسمية جاء فيها أن الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية التي اندلعت عام 2011، وسحقتها قوات الأمن وتطورت إلى الصراع المستمر منذ أكثر من عشر سنوات، كانت "بإيحاء من الخارج لتدمير البلاد".
وذلك ما دفع محتجين الجمعة للرد على ذلك، وبحسب تسجيل مصور نشره ناشطون عبر موقع التواصل "تويتر" وجه أحد المحتجين كلمات لشعبان، بقوله: "لا أحد يشكك بوطنيتنا"، مهاجما موقفها بكلمات يعتذر موقع "الحرة" عن عدم ذكرها.
وترى السياسية والنسوية، أليس مفرج أن الحراك ليس بجديد، بل "هو استمرار لحراكات مستمرة بمقاومات مدنية منذ عام 2011".
وتقول مفرج وهي أيضا عضو "هيئة التفاوض السورية" في حديث لموقع "الحرة": "السويداء ثبّتت موقف مهم في السنوات الماضية بمنع أبنائها في الانخراط بقوات النظام السوري لمحاربة السوريين، واتخذت موقف الحياد الإيجابي".
وتضيف أن "الحراك الحالي يمثل حالة مفصلية ومكمّلة للخارطة وللمطالب السورية في 2011. هو جاء بشعارات مطلبية تؤكد فشل السياسات الاقتصادية للنظام السوري".
وذلك ما يؤكده الناشط السياسي، وسيم حسان بقوله: "أهم نقطة في الحراك شعبيته. هناك حاضنة شعبية أكثر من أي مرة سابقة".
وعلى الرغم من أن المحتجين تقدر أعدادهم بالمئات، إلا أن حسّان يرى في حديث لموقع "الحرة" أن تطور الشعارات ذهب بالمشهد إلى الحراك الأول في عام 2011.
ويتوقع الناشط السياسي أن يستمر هذا الحراك، مستعبدا التعاطي الأمني من جانب النظام السوري، بقوله: "أعتقد أن النظام السوري حساس اتجاه المحافظة. هناك حدود للعنف، ويحاول التعامل مع الوضع بشكل مختلف".
ويتابع: "السويداء مصرة على أن تكون جزء من النسيج السوري. هي من مؤسسي سوريا مثل كل المدن السورية. لا يوجد مشاعر خارجية. انعرض الكثير عليها، وكانت بعيدة عن كل تفكير خارج الإطار السوري".
"ورقة مطالب"
وتُحسب السويداء على مناطق سيطرة النظام السوري، وبذلك فإن ما تشهده من حراك شعبي الآن يعتبر "نقطة فارقة" قياسا بباقي المحافظات، التي قلما تخرج بهكذا احتجاجات، بسبب القبضة الأمنية المفروضة هناك.
ويرى مراقبون أن المحافظة التي تقطنها الأغلبية الدرزية ونظرا لطبيعتها الطائفية "تعمل على تغيير مفهوم الصراع في سوريا من صراع طائفي إلى وطني، وهو صراع السوريين ضد النظام، وبالتالي ترسم أثرا إعلاميا ذا قيمة مختلفة".
وتحدث الصحفي، ريان معروف عن مساعي لـ"تنظيم الحراك، كي يكون هناك ورقة مطالب محددة"، مشيرا إلى أن "الشارع مدرك أنه يجب ألا يقع في أخطاء 2011، أو أي صدام أمني مع النظام السوري".
ويقول معروف: "هناك مشايخ وأعضاء مجموعات محلية تركوا السلاح وخرجوا للتظاهر. الشارع يتحرك بأريحية، وله سقف مطالب عالية".
من جهته يضيف آدم الحناوي أحد الناشطين في الاحتجاجات: "نرى أن النظام ورغم محاولته تشويه صورة المحتجين بأنهم عملاء، إلا أنه لن يستطيع بصبغنا بأننا متطرفون أو إخوان!".
ويقول الحناوي لموقع "الحرة": "من يشارك ليس فقط المعارضة. هناك موالاة وأناس كانوا في صف الحياد. الوضع الاقتصادي السيء الجميع للخروج".
"لبناء الثقة"
على مدى السنوات الماضية لم تتخذ حكومة النظام السوري أي إجراء في المحافظة التي وصفها من تحدث إليهم موقع "الحرة" بـ"المعزولة"، سواء فيما يخص الحالة المعيشية أو حالة الفلتان الأمني التي شهدتها مرارا.
وكذلك الأمر بالنسبة لبقية المحافظات السورية، التي تعيش على وقع أزمة اقتصادية تصنف على أنها الأسوأ منذ عقود.
وتقول حكومة النظام السوري إن التخفيضات في برنامج الدعم الذي كان سخيا في السابق تهدف لتخفيف العبء عن الموارد المالية للدولة المتضررة من العقوبات، وإنها لن تمس سوى الأغنياء.
لكن العديد من المتظاهرين يقولون إن هذه الخطوة أدت إلى تفاقم محنة المواطنين السوريين الذين نجوا من ويلات حرب مدمرة مستمرة منذ عشر سنوات، ويعانون الآن من أجل توفير الغذاء والإمدادات الأساسية في مواجهة استشراء التضخم وتآكل الأجور.
وتقول السياسية السورية، أليس مفرج: "لن نبني آمال كثيرة لإحداث تحولات جذرية من الحراك، لكنه ورغم ذلك أعتبره مفصليا، لأنه يبني الثقة بين السوريين بغض النظر عن الأكثرية والأقلية".
وتضيف مفرج: "جميع السوريين تأذوا من النظام والفصائل المتطرفة، وحراك اليوم تمثل بطابع شعبي ومشاركة واسعة من الأهالي وشعارات محقة وشجاعة".
كما أن الحراك تمثلت فيه المطالب بـ"قضية التغيير السياسي. المحتجون حملوا اللافتات ونادوا بتطبيق القرار الأممي والتغيير السياسي، ورفضوا سياسات النظام وردوا على بثينة شعبان وقالوا: نحن وطنيون ولسنا بعملاء. هم أرسلوا تحيات لكل المحافظات السورية".
واعتبرت مفرج أن "الحراك يلقي بعبء على المجتمع الدولي بأن المناطق التي تقع تحت سيطرة النظام السوري تثور ضده. ربما يؤدي ذلك إلى تحرك يمكن أن يبنى عليه".