ليست المرة الأولى التي تكتشف فيها الولايات المتحدة مناطيد صينية فوق الأراضي الأميركية، إلا أنها المرة الأولى التي تأخذ القضية هذه المسارات التي تخللتها أحداث واجتماعات لكبار المسؤولين الأميركيين، كما حملت الحادثة دلالات سياسية ودبلوماسية كبيرة في واشنطن وبكين.
وكشفت شبكة "سي أن أن" في تقرير مطول لها تفاصيل المناقشات التي جرت بين الرئيس، جو بايدن، وكبار مسؤولي إدارته، منذ اكتشاف المنطاد في 28 يناير أول مرة، قبل أن تتطور الأمور ويتم إسقاطه يوم السبت الرابع من فبراير.
كان بايدن يميل إلى إسقاط المنطاد فوق الأرض عندما تم إبلاغه به لأول مرة، يوم الثلاثاء الماضي، لكن مسؤولي وزارة الدفاع (البنتاغون) نصحوا بعدم القيام بذلك، محذرين من أن هناك خطرا محتملا على البشر على الأرض، يفوق تقييم المكاسب الاستخباراتية الصينية المحتملة.
وكان المنطاد يحلق بالفعل داخل وخارج المجال الجوي الأميركي لمدة ثلاثة أيام، قبل أن يثير قلقا داخل المؤسسة العسكرية، وفقا لمسؤولين أميركيين تحدثوا مع "سي أن أن".
وحلق المنطاد دون أن يلاحظه أي شخص باتجاه الشرق فوق ولاية ألاسكا شرقا، حيث تم اكتشافه لأول مرة من قبل قيادة الدفاع الجوي في أميركا الشمالية في 28 يناير وهو يتجه نحو كندا.
وواصلت القيادة الجوية تتبع مساره، لكن دون اكتراث كبير، حيث "لم يشكل في ذلك الوقت خطرا استخباراتيا أو تهديد جسديا" وفق المسؤولين.
لكن مع استمرار المنطاد في التحرك فوق ألاسكا متجها إلى كندا، ثم عودته نحو الولايات المتحدة، ساور القلق كبار المسؤولين، لأنه كان يسير بوضوح نحو الداخل، وأبلغ الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة، بايدن، يوم الثلاثاء 31 يناير، بتحليقه فوق ولاية مونتانا.
وكان الموقع مثيرا للقلق لأنه كان يحلق فوق قاعدة جوية تحتفظ بواحدة من أكبر مخازن الصواريخ الباليستية الأميركية العابرة للقارات.
وكان بايدن يميل في تلك المرحلة إلى إسقاطه، لكن وزير الدفاع لويد أوستن، وميلي، أبلغا بايدن أن مخاطر إسقاط المنطاد عالية لأنه قد يعرض الأرواح والممتلكات للخطر.
وطلب بايدن من ميلي والمسؤولين العسكريين الآخرين وضع خيارات تحطيمه، وفي الوقت ذاته منع المنطاد من جمع أي معلومات استخباراتية، وذلك من خلال تقليص أي نشاط عسكري حساس، أو إجراء اتصالات غير مشفرة في المناطق المجاورة.
ومساء الثلاثاء، اجتمع قادة البنتاغون لمناقشة الخيارات، وشارك فيها افتراضيا أوستن الذي كان في خارج البلاد، وشاركت أيضا وكالة "ناسا" لتحليل وتقييم مجال تحطيم المنطاد. وكان الرأي السائد داخل الإدارة هو أنه يجب أن يُسقط، على الأرجح بعد أن يتحرك فوق المياه المفتوحة.
وعندما عُرضت الخيارات على بايدن، الأربعاء، وجه قيادته العسكرية بإسقاطه بمجرد اعتبار ذلك خيارا قابلا للتطبيق، مع استعادة مكوناته، مما يسمح بإمكانية إلقاء نظرة ثاقبة على قدراته.
في ذلك الوقت كان المسؤولون الأميركيون يتحدثون إلى نظرائهم الصينيين، وأبلغوهم باحتمال ٍإسقاطه، وكان بايدن نفسه يتلقى بانتظام أنباء تطورات الأحداث.
وقال مسؤول للشبكة إنه تم جمع معلومات استخباراتية من المنطاد أثناء تتبع مساره عبر الولايات المتحدة. وقال مسؤول دفاعي كبير إن انتظار تنفيذ العملية سمح للولايات المتحدة بالحصول على معلومات بشأن قدراته وقال إنه "إذا نجحنا في استعادة جوانب الحطام، فسوف نتعلم المزيد".
وتم تقديم خطة أخرى لإسقاطه إلى بايدن ليلة الجمعة أثناء وجوده في ويلمنغتون في نورث كارولاينا، وافق على تنفيذها يوم السبت. وأعطى أوستن موافقته النهائية عليها بعد وقت قصير من ظهر يوم السبت.
وشملت الخطة فرض منطقة حظر جوي تضمنت حوالي 150 ميلا من ساحل المحيط الأطلسي وذلك في ثلاثة مطارات تجارية: ويلمنغتون في نورث كارولاينا، وميرتل بيتش وتشارلستون في ساوث كارولاينا.
ويوم السبت، وبعد سبعة أيام من دخول المنطاد المجال الجوي الأميركي لأول مرة، أسقطت المقاتلات الأميركية المنطاد بأمان على ارتفاع عال فوق المياه الإقليمية للولايات المتحدة، قبالة سواحل ولاية نورث كارولاينا.
وفي الوقت الحالي، يعمل غواصو البحرية ومحققو مكتب التحقيقات الفيدرالي على استرداد حطام المنطاد، وقال مسؤول عسكري كبير إن الحطام وقع في المياه الضحلة مما "سيجعل الأمر سهلا للغاية".
توقيت هام
وتقول "سي أن أن" إن تأجيل الرد أجج غضب خصوم بايدن السياسيين، وأثار تساؤلات حول سبب عدم إسقاطه مبكرا، وعن المعلومات التي تم جمعها، وأنذرت القضية كذلك بـ"حقبة جديدة من التوتر العسكري المتصاعد بين أكبر اقتصادين في العالم".
وانتقدت بكين، الأحد، قرار البنتاغون إسقاط المنطاد متهمة الولايات المتحدة بـ"المبالغة في رد الفعل وبانتهاك الممارسات الدولية بشكل خطير".
وقالت "سي أن أن" إنه بينما أصرت بكين على أنه كان يجري أبحاثا مدنية وانحرف عن مساره، كانت الإدارة الأميركية واثقة من أنه كان يستخدم للتجسس، حيث كان يحمل معدات مراقبة لا ترتبط عادة بأنشطة الأرصاد الجوية القياسية أو الأبحاث المدنية.
ونقلت الشبكة عن المسؤولين قولهم إن توقيت الحادثة كان "مقصودا" إذا أنه حدث في نفس الأسبوع الذي كان من المقرر أن يغادر فيه بلينكن إلى الصين، وهي زيارة كان يُنظر إليها على أنها تتويج لقمة بايدن ونظيره الصيني شي جينبينغ أواخر العام الماضي.
وجاءت هذه النتائج الإيجابية للقمة بعد وقف معظم الاتصالات في أعقاب زيارة رئيسة مجلس النواب السابقة، نانسي بيلوسي، إلى تايوان.
وقال المسؤولون إن إرسال المنطاد قبل سفر بلينكن "لم يكن منطقيا"، لأنه كان من شأن ذلك "تحطيم" كل جهود تقريب البلدين.
وقالت صحيفة الغارديان إن ما حدث "يثير الكثير من الأسئلة حول أسلوب اتخاذ القرار في بكين. كان من المتوقع تماما أن يتم رصد المنطاد وتعقبه ومن المحتمل إسقاطه. كل هذا حدث في الفترة التي سبقت زيارة بلينكن إلى بكين".
وقالت إن البنتاغون لا يبدوا قلقا للغاية بشأن ما يمكن أن يجمعه المنطاد من معلومات بل يمكن أن يقلب الطاولة بدراسة مكوناته وحمولته، لذلك ربما "كان الهدف مراقبة الرد العسكري، لمعرفة متى سيتم رصد المنطاد، ومدى سرعة تحليق الطائرات المقاتلة.. وقد يكون الرد السياسي أيضا مهما لبكين".
الرد الصيني المحتمل
ونددت الصين، الأحد، بالإسقاط ووصفته بأنه "رد فعل مبالغ فيه"، قائلة إنها تحتفظ بالحق في استخدام الوسائل الضرورية للتعامل مع "مواقف مماثلة".
وتقول رويترز إن بكين قد ترد، لكنها قدر تدرس بدقة أي خطوة لمنع تدهور العلاقات، مشيرة إلى رغبة من الجانبين في استقرار العلاقات مع تخوف إدارة بايدن من حدوث صراع، وتطلع شي إلى تعافي الاقتصاد الصيني من كوفيد.
وقال تشاو تونغ، من مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، الباحث الزائر في جامعة برينستون، إن "مسار إعادة بناء العلاقات بين الولايات المتحدة والصين لا يزال على الأرجح على المسار الصحيح" وفق رويترز.
وأضاف تشاو: "لا يزال الجانبان لديهما مصلحة قوية مشتركة في استقرار العلاقات الثنائية وإدارتها بمسؤولية".
وتوقع كولين كوه، الزميل الأمني في مدرسة أس راجغراتنام للدراسات الدولية في سنغافورة، أن تواصل الصين الرد بقوة على دوريات الاستطلاع العسكرية الأميركية لكنها لن تصل إلى حد المواجهة.
وأشار إلى أنه "بالنسبة للأهداف المأهولة، قد نتوقع أن تمارس الصين ضبط النفس، لكن ضد الطائرات غير المأهولة يصبح الأمر أكثر غموضا".