يوم غضب عارم شهده لبنان منذ ساعات الصباح الأولى، بعدما استفاق أهله على ارتفاع قياسي جديد لسعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار، في سياق انهيار مالي يأخذ طابعا أكثر حدة منذ مطلع العام الجديد.
كان سعر صرف الدولار قد ارتفع إلى 40 ألف ليرة مطلع الشهر الأول من العام 2023، نتيجة 3 سنوات من عمر الأزمة الاقتصادية، لكنه عاود اليوم ارتفاعه إلى أكثر من 80 ألفا، بفارق شهر واحد فقط، ما يشير إلى حجم التدهور الحاصل، الذي تنعكس آثاره الكارثية على معيشة اللبنانيين.
من بين أبرز الأسباب التي ساهمت في هذا الارتفاع الكبير مؤخرا، إضراب المصارف عن العمل منذ نحو 10 أيام، اعتراضا على قرارات قضائية صادرة توجب إعادة أموال عدد من المودعين المتقدمين بشكاوى قضائية، فضلا عن ملاحقات قضائية لمصارف أخرى وقرارات تقضي برفع السرية المصرفية عن رؤساء المصارف وكبار موظفيها، في سياق شبهات تبييض أموال.
إضراب المصارف وعدم انصياعها للقرارات القضائية، اعتبره المودعون والجمعيات المناصرة لحقوقهم، انقلابا على القضاء وخروجا عن القانون الذي نصرهم، ودعوا لتحركات شعبية اعتراضية ضد المصارف، وصلت إلى أوجها الخميس، مع إحراق وتحطيم واجهات فروع للمصارف في العاصمة بيروت، إضافة إلى مهاجمة منزل رئيس جمعية المصارف وإحراق مدخله، فضلا عن احتجاجات وقطع طرق وإشعال إطارات في مناطق لبنانية عدة.
وتحتجز المصارف اللبنانية أموال المودعين لديها منذ العام 2019، حيث تفرض قيودا مشددة على عمليات السحب، دون وجود مبررات قانونية لها، على أثر الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلاد وما تبعها من تهريب أموال للخارج، وإقبال شعبي على سحب الودائع من المصارف التي أقفلت أبوابها، معلنة عجزها عن تسديد أموال الناس.
إحراق وتحطيم
تحركات المودعين اليوم، الخميس، في بيروت، والتي جاءت بدعوة من جمعية "صرخة المودعين"، كانت قد انطلقت من ساحة الشهداء في وسط المدينة، بعد اعتصام أمام مسجد الأمين، توجه بعده المحتجون إلى شارع "بدارو"، الذي يضم أفرع عدة لمعظم المصارف اللبنانية، حيث عمدوا إلى قطع الطريق الرئيسية ومهاجمة عدد من المصارف، فحطموا واجهاتها، وأشعلوا النيران على مداخلها.
وتضررت 5 مصارف بهذه الاحتجاجات وهي: "فرنسا بنك - بنك عودة- بيبلوس بنك - الاعتماد المصرفي - بنك بيروت والبلاد العربية". وفيما حضرت القوى الأمنية ومكافحة الشغب والجيش اللبناني إلى المكان لإبعاد المودعين، فرق الإطفاء على إخماد الحرائق دون إعلان تسجيل أي إصابات.
وسرعان ما انتقل المودعون إلى أمام منزل رئيس جمعية المصارف سليم صفير في منطقة سن الفيل، حيث هاجموه برشق البيض والحجارة، وحاولوا اقتحام مدخله، دون أن يتمكنوا من ذلك، ليعمدوا بعدها إلى إشعال النيران في مدخل المنزل وأسواره، حيث وصلت القوى الأمنية وعملت على إبعادهم من جديد وحماية المنزل.
ومن أمام منزل صفير كان لرئيس جمعية "صرخة المودعين" تصريح أعلن فيه انتهاء تحرك اليوم، "وسط غضب المودعين العارم في وجه أصحاب المصارف و"جمعية المصارف"، والذي أتى كرسالة دعم للقضاء اللبناني مرفقة بحثّه على تنفيذ القرارات القضائية لا سيما قراري محكمة التمييز المبرمين بوجه مصرف "فرنسا بنك"، باعتبار أن القرارين مبرمان ولا يقبلا الطعن".
ودعا رئيس جمعية "صرخة المودعين" المصارف لاحترام سلطة القضاء و"عدم التمادي في التسبب بمزيد من التهويل والعرقلة عبر التعسف في طلبات نقل للدعوى من هنا، ودعاوى مخاصمة من هناك، في سيناريو يضرب ما تبقى من سمعة القضاء".
إضرام النار في فيلا رئيس اللصوص #سليم_صفير في سن الفيل.#مودعون_ومحامون_متحدون#ثورة_المودعين #أموال_المودعين #تحرير_الودائع #١٨٤_عقوبات #ايدك_معنا #رياض_سلامة #الدولار #بيروت #لبنان #جمعية_صرخة_المودعين #متحدون#GameOver #LiberationOfDeposits #BankAudi #Fransabank #BankByblos pic.twitter.com/2kjwAGQulb
— متحدون United For Lebanon (@UnitedForLeb) February 16, 2023
بالتزامن كانت سلسلة احتجاجات تشهدها مدن لبنانية أخرى وعمليات قطع للطرقات استهدفت طرقات رئيسية في البلاد. ففي مدينة طرابلس، نفذ عمال بلدية طرابلس وقفة احتجاجية أمام بنك عودة في تقاطع شارع عزمي في طرابلس، حيث أقدموا على إحراق إطارات مشتعلة أمام المصرف، وإطلاق شعارات وصرخات وجع تحاكي مظلومية العمال الذين رفضوا قبض رواتبهم بالليرة اللبنانية، مطالبين المصرف الإسراع في صرف رواتبهم بالدولار، على أساس سعر منصة "صيرفة" التزاماً بالقرارات الحكومية وأسوة بموظفي القطاع العام.
مجموعة "صرخة المودعين" امام منزل رئيس جمعية المصارف سليم صفير في حرش تابت - سن الفيل pic.twitter.com/WCS1Kpss8u
— Fouad Khreiss (@fouadkhreiss) February 16, 2023
وامتد إضرام النيران أمام المصارف أيضاً إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث عمدت مجموعة من المودعين وشبان من المنطقة إلى إشعال عدد من الإطارات أمام أفرع للمصارف وقطع الطريق المؤدية إلى دوار "المشرفية"، كما تم قطع الطريق المؤدي إلى مطار بيروت، أمام مسجد مطر، احتجاجاً على تدهور الأحوال المعيشية وإجراءات المصارف.
ومن شمال لبنان إلى جنوبه تنقل قطع الطرقات من طرابلس – البداوي، إلى مدينة صور – البرج الشمالي، مرورا ببيروت – قصقص وسليم سلام، والرميلة عند مدخل مدينة صيدا، وبقاعا طريق عام بدنايل – قصرنبا، وصولا إلى منطقة مرجعيون.
واتخذ الجيش اللبناني إجراءات مشددة أمام المصارف في معظم المدن اللبنانية ولاسيما صيدا التي شهدت دعوات للاحتجاج، خوفا من تكرار سيناريو ما حصل في بيروت، وتداعياته على الواقع الأمني في البلاد.
الغضب خارج السيطرة
وفي اتصال مع موقع "الحرة"، يشرح الوكيل القانوني لجمعية "صرخة المودعين"، المحامي رامي عليق، أن الهدف من تحركات اليوم "هو الاحتجاج على تحدي جمعية المصارف وأصحاب المصارف للقرارات القضائية، ولاسيما قراري محكمة التمييز المبرمين بحق مصرف "فرنسا بنك"، وبالتالي فنحن في النهاية عدنا إلى المؤسسات والقضاء، ولكن انقلاب المصارف عليها أجج الغضب لدى المودعين الذين نفذ عدد منهم تحرك اليوم".
ويضيف عليق "لا أخفي أنني حاولت مع عدد من المحامين تهدئة الناس في الشارع والتخفيف عن المباني التي تضم مراكز المصارف ولاسيما المباني السكنية، ولكن كما حذرنا من قبل في مؤتمرنا فالغضب بات خارج السيطرة، ولا نحن قادرون على احتوائه، والكرة أصبحت في ملعب القضاء، الذي عليه واجب التحرك بسرعة وبشكل عادل، فالناس ما عادت تحتمل الانتظار".
يذكر أن القضاء اللبناني كان قد أمر مصرفين لبنانيين بدفع وديعتين تعودان للبنانيين عياد إبراهيم وحنان الحج، نقدا بالدولار، بعدما كان المصرفان قد سددا الودائع بشيكات مصرفية ما عادت قابلة للصرف بعد الأزمة المالية، على اعتبار أن الشيك المصرفي هو وسيلة إيفاء قانونية. أمر رفضه القضاء اللبناني بقرارات مبرمة، وهو ما أثار حفيظة المصارف التي أغلقت أبوابها أمام اللبنانيين اعتراضاً، بكونها كانت تتقاضى الشيكات من زبائنها كوسيلة للدفع، وخوفاً من أن تتحول هذه القرارات إلى سابقة يبنى عليها دعاوى لاحقة من قبل المودعين.
يشرح عليق أن المصارف تقدمت بدعوتي نقل للقضية من أمام القضاة الناظرين بها، "وذلك بهدف العرقلة والتأخير، كذلك تقدما بدعوتي مخاصمة للدولة اللبنانية، ونحن نتابع هذه الدعاوى بشكل حثيث مع القضاة المختصين، ولكن العرقلة قائمة، بالآليات القانونية نفسها التي استخدمت لعرقلة تحقيقات انفجار مرفأ بيروت، وعلى القضاء أن يتحرك سريعاً للجم هذه العرقلة وتنفيذ قراراته، ما من شأنه أن يخفف الاحتقان الشعبي".
ويلفت علّيق إلى أن "قضية فرنسا بنك التي تتخذ منها المصارف ذريعة لإضرابها، لا تتعدى قيمة الودائع الصادر بشأنها القرار القضائي، المئة ألف دولار، وما من قرارات جاهزة لتنفذ الآن، لكن لو كان هناك حسن نية لدى المصارف، لنفذوا القرار بهدوء، ولكن هناك سوء نية وتعنت وتواطؤ بين أصحاب المصارف ومافيا الدولة العميقة، وهو ما أدى اليوم إلى هذه المواجهة حيث لا يمكن أن تستمر الأمور بهذا الشكل".
المصارف ترد: ضمن القانون
من جهته، يؤكد وكيل جمعية المصارف المحامي مارك حبقة أنه "من حق المصارف متابعة الدعاوى القانونية المرفوعة بحقها وفق ما يعطيها القانون، كذلك لديها الحق في إبداء رأيها والتعبير عنه، وخطوة الإضراب نفسها لا تخالف القانون، بغض النظر عن الموقف من الإضراب نفسه إن كان صحيحاً أم لا".
يرفض حبقة في حديثه لموقع "الحرة" اعتبار خطوات المصارف عرقلة للمسار القضائي، داعياً الحكومة اللبنانية لإبداء رأي في هذا الموضوع، والفصل فيه، "فتعطي المودعين حقوقهم دون السماح بالتعدي على المصارف بالوتيرة اليومية التي تحصل".
وسرت انتقادات لخطوة المودعين اليوم على اعتبار أن أعمال العنف ستبرر للمصارف استمرارها في الإضراب، وتصعيده إلى وقف كافة الخدمات المصرفية بما فيها عمل الصرافات الآلية، وهو أمر سبق للمصارف أن هددت به خلال الفترة الماضية.
إلا أن علّيق يرد هذا الكلام على أصحابه معتبراً أن المصارف لم تحتج لذريعة كي تقدم على كل ما فعلته منذ 3 سنوات، ويضيف "لو فرضنا جدلاً أن ذلك صحيح، فلتغلق المصارف أبوابها نهائياً وتوقف صرافاتها الآلية ولتنتهي بالكامل، فالمصارف نفسها غير صادقة بإضرابها، حيث أن العاملين فيها يحضرون يومياً إلى دواماتهم فيما تغلق الأبواب بوجه الناس، ويقومون في الداخل بعمليات مشبوهة لإخفاء الأموال أو تهريبها إلى الخارج".
ويضيف "ما يفعلونه اليوم بالإضراب تتمة لما كانوا قد قاموا به قبل سنوات حين أغلقت المصارف عقب ثورة ١٧ تشرين (أكتوبر)، ولدينا معلومات مؤكدة تقول إن المصارف منذ نحو عام وبسبب دعاوى المودعين وقرارات الحجز على الأملاك احتياطيا، فإنهم يتصرفون بأصولهم وأموالهم بلا حسيب ولا رقيب، في هدر واضح لأموال المودعين".
من ناحيته يتوقع الوكيل القانوني لجمعية المصارف أن يكون هناك رد فعل من ناحية المصارف على الاعتداءات التي حصلت اليوم، ويرجح أن تكون تشدداً في الإضراب وصولاً إلى الإضراب الشامل مع وقف كافة الأعمال المصرفية والصرافات الآلية ضمناً.
ويضيف "حتى الآن لم يتخذ قرار من هذا النوع، ولكن يفترض خلال الـ 24 ساعة المقبلة أن يكون هناك قرار من هذا النوع، فاليوم شهد اعتداء على منزل رئيس جمعية المصارف ويبدو أن هذه التحركات مستمرة"، نافياً أن تكون المصارف تتابع عملها، "قد يكون هناك قسم الإدارة يحضر إلى المصارف، ولكن ليس هناك فتح للفروع".
اجتماع طارئ
وعلى أثر هذه التطورات، دعا رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي إلى اجتماع طارئ في السرايا الحكومية مع وزير المال يوسف خليل ووزير الاقتصاد والتجارة أمين سلام، وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة مع وفد من المجلس المركزي للمصرف، إضافة إلى المدير العام لوزارة المالية جورج معراوي، والمدير العام لوزارة الاقتصاد والتجارة محمد ابو حيدر.
وتم خلال الاجتماع البحث في الحلول المطلوبة من أجل معاجلة الأوضاع النقدية، كما جرى الاتفاق على إبقاء الاجتماعات مفتوحة، دون أن يسجل أي قرار جديد على الصعيد المالي والنقدي في البلاد.
تبييض أموال؟!
يذكر أن اعتراض جمعية المصارف لا يقتصر على قضية "فرنسا بنك" وإنما يمتد على قضية أخرى رفعتها مجموعة "الشعب يريد إصلاح النظام" ضد مصرف لبنان وعدد من المصارف وكل من يظهره التحقيق من مصارف وسياسيين بجرائم "النيل من مكانة الدولة المالية وتبييض الأموال والإثراء غير المشروع"، وذلك على خلفية قيام تهريب عدد من النافذين مبلغ 2.3 مليار دولار من الودائع في المصارف اللبنانية إلى حساباتهم الشخصية في سويسرا، عقب الأزمة التي ضربت البلاد.
وفي أحدث تطورات هذه القضية، قررت النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضية غادة عون الادعاء على "بنك عودة" ورئيس مجلس إدارته سمير حنا و رئيس مجموعة بنك عودة تامر غزالة، وكل من يظهره التحقيق بجرم تبييض الأموال، وأحالت الملف إلى قاضي التحقيق الأول في جبل لبنان طالبة إجراء التحقيق وإصدار مذكرات التوقيف اللازمة.
هذا التطور جاء بعدما أصدرت عون قراراً قضى بتكليف مصارف "سوسيته جنرال، بيروت، عودة، البحر المتوسط سرادار، لبنان والمهجر والاعتماد المصرفي"، برفع السرية المصرفية عن حسابات رؤساء وأعضاء مجالس إدارات والمديرين التنفيذيين ومدققي الحسابات السابقين والحاليين في هذه المصارف وذلك اعتباراً من تاريخ 1/1/2016.
وفيما ينتظر أن تتابع القاضية عون للملف يوم غد الجمعة، أشارت مجموعة "الشعب يريد إصلاح النظام" إلى أن مصرفي لبنان والمهجر والاعتماد المصرفي "ابديا التعاون المطلوب حتى الآن خلافاً لقرار جمعية المصارف".
من جهتها كانت جمعية المصارف قد أصدرت بيانا وصفت فيه قرارات عون بالتعسفية التي من شأنها أن تضرب القطاع المصرفي، "إن عبر الادعاء جزافا على أكبر المصارف العاملة في لبنان، أو عن طريق تهديد مصارف أخرى بتدابير مماثلة، إن لم تنفذ أوامرها وتمنحها معلومات مصرفية بصورة رجعية خلافا للقانون مما يعرضها عندئذ للمسؤولية الجزائية".
وتساءلت الجمعية في بيانها "أي ادعاء هو ادعاء تبييض أموال عندما يكون مصدر هذه الأموال هو مصرف لبنان؟ قرارات منتفية الحد الأدنى من الجدية وإلى أبعد الحدود، إلا أن المؤسف هو أنه بصرف النظر عن عدم جديته الواضحة، فإن هذا الادعاء يلحق الأذى البالغ بعلاقة المصرف المعني بالمصارف المراسلة ويهدد مصالح المودعين. فالمصارف المراسلة لا تعرف أن الغاية هي انتقامية بحتة ولا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بتطبيق القانون".
ولفت البيان إلى "أن هذا القرار، إذا تم تعميمه على مصارف أخرى كما يعد به التهديد الذي وصلها، قد يدفع بالمصارف الكبرى العالمية إلى وقف تعاملاتها بشكل تام مع لبنان عبر إقفال حسابات المصارف اللبنانية لديها. عندها لن ينفع الندم إذا ما تم عزل لبنان ماليا عن العالم وتوقفت التجارة الخارجية وفقدت المواد الأساسية التي ما زالت تستورد حاليا عبر القطاع المصرفي. الا إذا كان هذا هو الهدف من هكذا قرار؟".
وتواجه المصارف اللبنانية دعوات جماعية من المودعين الذين يسعون لاسترداد أموالهم، فيما لم تصل حتى الآن أي تحقيقات قضائية لتحميل المسؤوليات في وصول لبنان إلى أزمة صنفها البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم منذ عام 1850، حيث خسرت العملة اللبنانية أكثر من 95 في المئة من قيمتها، وهو ما انعكس في أزمة معيشية خانقة، وتدهوراً غير مسبوق في قدرات السلطات اللبنانية المالية.