بينما وصفت بكين سنة 2023 بـ"عام الاستثمار في الصين"، تعاني عدة مناطق في البلاد من شح الاستثمارات، ولا سيما الغربية منها، بسبب سياسة الرئيس شي جين بينغ، التي تضيق على المستثمرين الغربيين.
وفي الوقت الذي يسعى مسؤولون محليون صينيون، لجلب الاستثمرارت من خلال جولات ترويجية في الخارج لجذب اهتمام رجال الأعمال، تضيق آليات وضعها الرئيس على عمل المستثمرين الغربيين.
التضييق الذي يعاني منه المستثمرون الأجانب، سببه، وفق صحيفة "وول ستريت جورنال" أجندة الأمن القومي الصينية، والتي تهدف لدرء التهديدات الخارجية، لكنها "تجعل من الصين حقل ألغام محتمل للشركات الأجنبية".
وهذا العام، تسببت الحملة التي يقودها شي، بعدة مداهمات لشركات أجنبية، وتحقيقات وحتى اعتقالات طالت مستثمرين ومستشارين إداريين غربيين ومراجعين لشركات أجنبية.
وزاد قانون مكافحة التجسس من قلق المديرين التنفيذيين الأجانب الذين أصبحوا يتخوفون من اتخاذ أي إجراء روتيني مرتبط بأنشطتهم التجارية في الصين، مثل أبحاث السوق، التي يمكن أن تفسر على أنها تجسس.
هذا الوضع، يؤكد تقرير الصحيفة، خنق تدفق رأس المال في اقتصاد يعاني أصلا من ضعف الاستثمار الخاص والاستهلاك، فضلاً عن ارتفاع معدل البطالة بين الشباب.
وانخفض الاستثمار الأجنبي المباشر في الصين إلى 20 مليار دولار في الربع الأول من هذا العام، مقارنة بـ 100 مليار دولار في الربع الأول من العام الماضي، وفقًا لتحليل للأرقام الحكومية أجراه المحلل مارك ويتزكي في شركة الأبحاث Rhodium Group.
ويعتمد نمو الصين، الذي كان مدفوعاً في العقود الأخيرة بانفتاح البلاد على الغرب، على الاستثمار الأجنبي لتعزيز الابتكار والإنتاجية.
وبالنسبة للقادة الصينيين، فإن الضغط على الشركات الأجنبية، بالموازاة مع حثهم على الاستثمار، قد يحرم البلاد من رأس المال والتقنيات والأفكار والمهارات الإدارية التي عززت صعود الصين لعقود.
مدن منكوبة
"لعبة شد الحبل" وفق تعبير "وول ستريت جورنال" تركت المدن والبلدات الصينية في وضع مترنح، حيث غرقت بعضها في الديون ومنها من يكافح مسؤولوها من أجل خلق وظائف بعد ثلاث سنوات من قيود وباء كورونا.
وأنفقت الحكومات المحلية العام الماضي أكثر من العام السابق، وفقا للإحصاءات الرسمية، ويرجع ذلك أساسا إلى قفزة بنسبة 18 ٪ في النفقات الصحية المستخدمة لتغطية اختبارات كورونا والتكاليف ذات الصلة.
وفي الوقت نفسه، انخفض دخل تلك الحكومات، ويرجع ذلك أساسا إلى انخفاض بنسبة 23٪ على أساس سنوي في الإيرادات من مبيعات الأراضي للمطورين، وهو مصدر تمويل اعتمدت عليه السلطات المحلية منذ فترة طويلة.
واقترضت بعض الحكومات المحلية أكثر مما تستطيع تحمله، حيث بلغت الديون المستحقة عليها 120٪ من عائداتها، بينما يقول العديد من المسؤولين إن استراتيجياتهم التقليدية لجذب الاستثمار الأجنبي قد تعثرت.
وشرع مسؤول تجاري في تشنغدو، عاصمة مقاطعة سيتشوان جنوب غرب البلاد، مؤخرًا في رحلة لترويج الاستثمار إلى أوروبا، لكنه عاد خالي الوفاض.
وقال المسؤول: "خلال عشرين عامًا من محاولتي الحصول على استثمارات من أوروبا، كانت هذه هي المرة الأولى التي لم نتمكن فيها من توقيع مذكرة تفاهم واحدة".
وقال مسؤول كبير في إحدى مقاطعات غوانغدونغ الجنوبي، التي حددت في وقت سابق من هذا العام هدفًا لجذب ما يقرب من 300 مليار دولار من الاستثمارات في السنوات الخمس المقبلة، لمجموعة تجارية أميركية زائرة مؤخرًا، إن المقاطعة ستكافئ أي شركة أميركية تقرر الاستثمار بـ 10٪ من قيمة الصفقة الموعودة، بحسب مصادر مطلعة.
وقالت المصادر إن المجموعة التجارية الأميركية رفضت عرض مسؤول المقاطعة، حيث يعتبر ذلك في الولايات المتحدة رشوة غير قانونية.
ولم ترد حكومة غوانغدونغ على طلبات التعليق التي أرسلتها الصحيفة بالخصوص.
توقف العمل
أظهرت دراسات ميدانية أجرتها مجموعات أعمال في الصين، أن الشركات الأميركية والألمانية وغيرها من الشركات الأوروبية توقفت عن التوسع مؤقتا أو قللت من استثماراتها في الصين، بسبب التضييق الذي تمارسه الحكومة المركزية.
مثال على ذلك، شركة "غرين" الأميركية لصناعة آلات البيع مثل الثلاجات التي توضع بالمؤسسات وتقدم عدة بضائع مثل القهوة والشاي وأشياء أخرى، والتي كانت تصنعها في الصين منذ تسعينيات القرن الماضي، والتي قلصت بشكل حاد استثماراتها في البلاد بسبب عدم اليقين المتزايد في السياسة، وفقًا لأشخاص مقربين من الشركة.
ولم ترد الشركة، ومقرها ستامفورد بولاية كونيتيكت، على أسئلة كانت أرسلتها الصحيفة.
قال شون شتاين، رئيس غرفة التجارة الأميركية في شنغهاي والقنصل الأميركي العام السابق في المدينة، إن الضغط الأخير على الشركات الاستشارية الأميركية يهدد وجود الشركات الأجنبية في الصين.
يذكر أن وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، اعترضت على معاملة الصين للشركات الأميركية عندما التقت بكبار المسؤولين في بكين الأسبوع الماضي.
ومن المتوقع أيضا أن تثير وزيرة التجارة، جينا ريموندو، القضية في رحلتها القادمة إلى الصين.
في مدينة نينغبو الساحلية بمقاطعة تشجيانغ، عقد مسؤولون محليون منتدى "الاستثمار في تشجيانغ"، حيث طرحوا قائمة مراجعة بالمبادرات التي يمكنهم تقديمها للمستثمرين الأجانب، من بناء طرق أفضل، إلى تقديم حوافز ضريبية وإعانات للمشتريات ذات الأسعار المرتفعة.
قال كاميرون جونسون، الشريك في TidalWave Solutions ، وهو مستشار أميركي وواحد من عدد من الغربيين الذين حضروا الحدث في مايو: "الرسالة هي أننا منفتحون حقًا للأعمال".
وفي الوقت نفسه، تسبب عدم اليقين بشأن سياسات بكين في حدوث شلل في مجالس إدارة الشركات العالمية، على حد قوله.
"ما هو التركيز الحقيقي للحكومة؟" يتساءل جونسون، وهو أميركي قضى أكثر من عقدين في الصين.
ثم يتابع "هل يمكن أن يكون هناك مزيد من الوضوح أو التوجيه بشأن السياسة حتى تتمكن الشركات الأجنبية من تطوير خارطة طريق للامتثال؟"
رسائل مختلطة
تم الترحيب بـشركة "بيكسل ووركس" الأميركية، المنتجة للرقائق المستخدمة في إنتاج مقاطع الفيديو وأجهزة العرض الإلكترونية الأخرى، بأذرع مفتوحة من قبل المسؤولين المحليين في شنغهاي، حيث يقع مقر عملياتها في الصين.
تود ديبونيس، الرئيس التنفيذي للشركة، قال تعليقا على وضع مؤسسته هناك "إنهم يدعمون بشكل خاص الجهود التي نبذلها لإدراج الشركة الصينية التابعة لمؤسستنا في مجلس إدارة STAR في شنغهاي، وهو ما يعادل مؤشر "ناسداك" في البلاد.
وأضاف أن معظم مواهب "بيكسل ووركس" البحثية والتطويرية موجودة في الصين "وهذا هو المكان الذي تستمد فيه الشركة معظم إيراداتها".
لكن، وعلى الرغم من الدعم المحلي، تواجه الشركة ضغوطًا من الحكومة المركزية في الصين لإعادة تشكيل فرعها الصيني للتأكد من أنها مستقلة عن عمليات الشركة الأم الأميركية.
ويقول مستشارو الأعمال والمحامون الذين يقدمون المشورة للشركات متعددة الجنسيات إن هذا نوع من المتطلبات المفروضة بشكل متزايد على الشركات الأجنبية كجزء من أجندة الأمن القومي لبكين.
واضطرت "بيكسل ووركس" على تقسيم نفسها إلى قسمين، مع فصل عمليتها في الصين عن شركتها الأم في الولايات المتحدة، للحصول على "رضا المنظمين الصينيين" والظفر بموافقتهم على طلب إدراج الشركة في المؤشر.
وطيلة العامين ونصف العام الماضيين، خضعت " بيكسل ووركس " لعملية شاقة تهدف إلى جعل شركتها الفرعية الصينية مستقلة عن الشركة الأم الأميركية.
وكجزء من هذا الجهد، نقلت " بيكسل ووركس" الملكية الفكرية الخاصة بعملياتها في الصين من الشركة الأم الأميركية إلى فرعها الصيني وهي خطوة تهدف إلى ضمان أمن براءات الاختراع والعلامات التجارية ضد أي عقوبات أميركية محتملة قد تجعلها محظورة في أسواق الصين.
وللامتثال للمخاوف الأمنية الصينية أيضا، نقلت "بيكسل ووركس" مؤخرًا 15 موظفًا عملوا في مشاريع أميركية إلى طابق منفصل في برجها.
هؤلاء الموظفون، رغم كونهم مواطنين صينيين، إلا أنه أصبح لديهم مكاتب خاصة منفصلة تمامًا عن عمليات " بيكسل ووركس" في الصين، حيث يقتصر عملهم على المشاريع الأميركية.
رغم كل ذلك، زار العديد من المسؤولين من وزارة التجارة الصينية في بكين في أواخر يونيو، مكاتب بيكسل ووركس "لفهم أفضل" لأعمالها.