تضع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة الولايات المتحدة والقوى الإقليمية أمام قضيتين أساسيتين بشأن الوضع في الشرق الأوسط، هما قوة الردع وصفقات التطبيع وكيفية الموازنة بينهما.
كتب الخبير، روس هاريسون، تحليلا يقدم رؤية يمكن لواشنطن الاستناد إليها في التعامل مع التصعيد الحاصل في المنطقة، من خلال تفهم مخاطر انهيار الردع، لكن في المقابل، إدراك أهمية الفرص التي يوفرها التطبيع السعودي مع إيران، وصفقة السلام المحتملة بين السعودية وإسرائيل.
هاريسون هو أستاذ في كلية "والش" في جامعة جورج تاون، أستاذ سياسات الشرق الأوسط في جامعة بيتسبرغ، مؤلف كتاب "التفكير الاستراتيجي ثلاثي الأبعاد: دليل للأمن القومي والسياسة الخارجية ومحترفي الأعمال". يعتقد أن ما يجري في غزة الآن منذ هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر هو تهديد للأمن الإقليمي والعالمي.
ومن بين القضايا التي تشغل صناع القرار، هي القلق من فتح جبهات جديدة في الحرب، والتي من المحتمل أن تشمل الضفة الغربية، وحزب الله اللبناني، والحوثيين، وحتى إيران.
"سؤالان مهمان"
ولكن هاريسون يقول، في تحليله الذي نشرته مجلة "ناشونال إنترست" إنه يتعين على صناع القرار السياسي أن يفكروا بشكل أعمق في المستقبل بشأن حقيقة مفادها أن الشرق الأوسط سيتحول، على نحو ما، إلى منطقة مختلفة عندما يهدأ القتال في غزة.
ويطرح الكاتب سؤالين مهمين سيحددان ما إذا كانت المنطقة أقل أمانا أو أكثر أمانا من ذي قبل: كيفية إحياء الردع؟ وبالتالي الحفاظ على الاستقرار بين الجهات الفاعلة الإقليمية الرئيسية، وما يجب فعله بالتقدم المحرز قبل 7 أكتوبر نحو التطبيع بين السعودية وإيران، وبين السعودية وإسرائيل؟
ومن نواح عديدة، ترتبط هاتين القضيتين ارتباطا وثيقا، من وجهة نظر هاريسون، والذي يعتقد أنه يتم إنشاء الردع من خلال التعزيزات العسكرية الكافية لمواجهة خطط العدو، إلى جانب اتفاقيات التطبيع التي تم التوصل إليها من خلال الدبلوماسية، والتي تضيف نوعا من الطمأنينة السياسية التي يفشل الردع العسكري الخالص في توفيرها.
ويؤكد هاريسون أن السباق نحو استعادة قوة الردع بعد حرب غزة قد يشكل تهديدا خطيرا للاستقرار الإقليمي.
"توازن غير مستقر"
ويقول الكاتب إنه قبل هجمات حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر الماضي، كان هناك توازن غير مستقر في الشرق الأوسط، وكان الاعتقاد السائد هو أن شبكة الردع أبقت الأعمال العدائية المباشرة بين الدول وحتى غير الدول عند الحد الأدنى، وأن الصراع، بدلا من ذلك، دار بشكل غير مباشر من خلال حروب بالوكالة داخل الدول المحطمة مثل سوريا واليمن والعراق.
وقدر القادة الإسرائيليون، وفق كاتب التحليل، أن قوتهم العسكرية الساحقة ردعت حزب الله على الرغم من ترسانة الجماعة الهائلة من الصواريخ التي تستهدف المدن الإسرائيلية الكبرى. ويعتقد حزب الله أن إسرائيل تم ردعها بالمثل بسبب شبح هذه الصواريخ وخطر نشوب صراع أوسع نطاقا.
ويقول هاريسون إن إسرائيل اعتقدت بأن القيادة في غزة لا تريد حقا حربا شاملة، واعتقدت إسرائيل أيضا أن أسلحتها النووية وجيشها المتفوق من شأنه أن يردع طهران، واعتقدت إيران أن شبكتها من الميليشيات المنتشرة في جميع أنحاء المنطقة ستثني إسرائيل والولايات المتحدة عن الهجوم.
وبينما كان القادة في كل من هذه الحالات يعلمون أن أعداءهم يمتلكون القدرة على إلحاق ضرر كبير، فقد اعتقدوا أن الردع يثبط استخدام تلك القدرة.
"انهيار الردع"
يقول هاريسون إن هجمات 7 أكتوبر تمثل "انهيارا للردع" بالنسبة لإسرائيل، وربما أبعد من ذلك، وعندما يتوقف القتال، سيكافح جميع الأطراف من أجل مراجعة مبادئهم الأمنية، وإعادة تأسيس الردع، وإيصال الخطوط الحمراء إلى الأصدقاء والأعداء، وإلى أن يتم إنشاء توازن ردع جديد، فإن خطر نشوب صراع إقليمي سيظل مرتفعا.
ويرى الكاتب أن الخطر مرتفع بشكل استثنائي مع إسرائيل وإيران، نظرا لعلاقات طهران مع حماس. واعتمادا على درجة النجاح في تحقيق أهدافها في غزة، ستضطر إسرائيل إلى مضاعفة جهودها لتعزيز الردع في مواجهة إيران وحزب الله.
ويقول هاريسون إنه وبعد فشل إسرائيل في الكشف عن نوايا حماس أو تفسيرها على النحو الصحيح قبل السابع من أكتوبر، فإن الخطر يكمن في اعتقاد القادة الإسرائيليين بأنه لا يمكن ضمان الردع ضد حزب الله من دون إلحاق أضرار عقابية بأصول الجماعة في لبنان.
ويعتقد الكاتب أن هذا الاتجاه في التفكير سيكون صحيحا بشكل خاص إذا استمرت المناوشات على الحدود اللبنانية التي اندلعت بعد 7 أكتوبر، وإذا كان حزب الله يعتقد أن إسرائيل تعتزم تحويل آلتها العسكرية ضدها بعد غزة، فإن هناك أيضا خطر اتخاذ إجراءات وقائية من جانبها.
ويكمن الخطر في أن كلا الطرفين، إسرائيل وحزب الله، يعتقدان أن الضربة الاستباقية هي طريق أقل خطورة من ضبط النفس، وفق هاريسون.
ويقول إن المخاوف من أن تصبح إسرائيل الغاضبة والانتقامية أكثر عدوانية قد تعطي إيران حافزا إضافيا للسباق نحو بناء سلاح نووي، كما يمكن للسياسة الداخلية أن تدخل الصورة هنا.
ويضف أن الأمر لا يتطلب كثيرا من من الخيال للاعتقاد بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، يمكن أن يثير مزيدا من التوترات الإقليمية مع إيران للتشبث بالسلطة أو البقاء خارج السجن.
ولكن حتى من دون أي استفزاز متعمد، فإن أزمة الردع الإقليمية في مرحلة ما بعد غزة يمكن أن تؤدي إلى تصعيد عرضي.
ويمكن لأي جهة فاعلة أن تطلق إجراءات حركية محدودة كبالونات اختبار الخطوط الحمراء وأنظمة الردع الخاصة بخصومها. ويكمن الخطر في إساءة فهم هذه التحقيقات أو تجاوزها عن غير قصد الخطوط الحمراء للجهات الفاعلة الأخرى، وفق الكاتب.
الفرصة للدبلوماسية
يعتقد هاريسون أن من الممكن التخفيف من مخاطر انهيار الردع من خلال المبادرات الدبلوماسية التي كانت جارية بالفعل قبل السابع من أكتوبر، وتحديدا تلك التي بين إيران والسعودية، وإسرائيل والسعودية.
السعودية وإيران
واستعادت إيران والسعودية العلاقات الدبلوماسية هذا العام بعد توقف دام سبع سنوات. ولأن إيران تدعم حماس، فقد يكون هناك ضغوط من إسرائيل والولايات المتحدة على السعودية للتراجع عن عملية التطبيع مع طهران. إذ يعتقد الكاتب أن هذا خطأ، نظرا لأن عملية التطبيع مع الرياض قد تجبر إيران على اتخاذ قرارات صعبة بشأن اتجاهها الاستراتيجي بعد الصراع في غزة.
فمن ناحية، ستشعر إيران بالضغط للحفاظ على سمعتها كرئيسة لما يعرف بـ"محور المقاومة". وعلى الرغم من الهزيمة الكاملة أو الجزئية المحتملة لحماس على يد إسرائيل بحلول نهاية حرب غزة، فمن المرجح أن تعتقد إيران أن ما اكتسبته من الصراع في غزة هو تأكيد لرسالتها حول محنة الفلسطينيين وإسرائيل الأكثر عزلة. كما أن تفكيك حماس أو إضعافها يمكن أن يحفز إيران على مضاعفة دعمها للميليشيات الأخرى في محفظتها الإقليمية، مثل حزب الله والحوثيين والجماعات ذات الصلة في سوريا والعراق.
لكن تطبيع العلاقات مع السعودية ومصر يمكن أن يخلق ضغوطا تعويضية. وستحتاج طهران إلى توخي الحذر في إدارة "محور المقاومة" الخاص بها، خشية أن تخاطر بتقويض التقدم الذي أحرزته في إصلاح العلاقات مع هذين البلدين العربيين، وفق التحليل.
ومع عدم وجود احتمالات حقيقية لتحسين العلاقات مع واشنطن وربما الولايات المتحدة وإسرائيل الأكثر عدائية بعد غزة، فإن تحسن العلاقات مع الرياض والقاهرة يعطي إيران بعض الراحة من أن هذين الحليفين للولايات المتحدة سيترددان في تنفيذ أوامر واشنطن كجزء من التحالف المناهض لإيران.
إسرائيل والسعودية
اتفاقية التطبيع الأخرى التي ستحاول الولايات المتحدة تنشيطها في نهاية المطاف هي بين إسرائيل والسعودية. لكن هذه المرة، تحتاج واشنطن إلى دعم الموقف السعودي الذي يشترط التطبيع على تنازلات جدية من إسرائيل نحو تمكين حل الدولتين كجزء من عملية سلام إسرائيلية عربية شاملة.
وفي حين أن التقدم نحو إنشاء دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل سيكون غير قابل للتصديق سياسيا ولوجستيا على المدى القصير، كما يعتقد هاريسون، إلا أن السعودية يمكنها استخدام نفوذها السياسي والاقتصادي الكبير لجعل هذا واقعا أكثر احتمالا على المدى الطويل. ويجب على واشنطن أن تدعم وتشجع مثل هذه الجهود.
ويعتقد هرايسون أن إحدى نتائج القتال في غزة واضحة، وهي أن عدم حل القضية الفلسطينية من شأنه أن يمزق نسيج المنطقة في المستقبل. وإذا لم يكن هناك أفق سياسي للفلسطينيين بعد حرب غزة، فإن مبادرات التطبيع الإيرانية السعودية الحالية ومبادرات التطبيع الإسرائيلية السعودية المحتملة ستكون في خطر.