بين هاجس ارتهان نموها الاقتصادي بعائدات الوقود الأحفوري، ومساعيها المعلنة بالانتقال نحو مصادر الطاقة النظيفة الصديقة للبيئة، تسعى دول خليجية إلى كسب معادلة صعبة، تُوازن فيها بين التكلفة الاقتصادية المرتبطة بهذا التحول وطموحاتها الخضراء.
وتواجه السعودية والإمارات والكويت وقطر، شأنها شأن باقي البلدان المنتجة للنفط والغاز، ضغوطا متزايدة لدفع الاستثمار في مجالات الطاقات البديلة وتقليص مشروعات الوقود الأحفوري، في وقت تتمسك فيه هذه الدول بخطط لتوسيع استثماراتها في هذه الطاقات لضمان أمنها الطاقي واستقرارها الاقتصادي، قبل الخوض في أي مسار انتقالي نحو الطاقات الجديدة.
مراعاة الكلفة"
وسجلت عائدات الدول الخليجية من الطاقة قفزة مهمة العام الماضي، إذ قفزت مداخيل الإمارات من 76 مليار دولار في عام 2021 إلى 119 مليار دولار في عام 2022. بينما زادت صادرات قطر من 87 مليار دولار إلى 132 مليار دولار، وقفزت بالكويت من 63 مليار دولار إلى 98 مليار دولار.
وتضخمت صادرات الطاقة بالسعودية أيضا، وارتفعت عائداتها من 191 مليار دولار إلى 311 مليار دولار، وفقا لأرقام أوردتها منظمة "Project Syndicate".
الخبير في شؤون النفط، كامل الحرمي، يؤكد أن كل الدول الخليجية المنتجة تسعى لخفض انبعاثات النفط والغاز، غير أن "المشكلة المؤرقة تتمثل في آليات وآجال تنفيذ هذه التعهدات"، مشيرا إلى أن "توجهات متضاربة ومتباينة تحضر بين الدول والشركات العالمية الكبرى المنتجة بشأن موضوع الوقود الأحفوري".
وفي هذا السياق، يقول الحرمي، في حديثه لموقع "الحرة"، إن التحدي الرئيسي الذي يواجه دول مجلس التعاون الخليجي التي تعتمد اقتصادياتها بشكل شبه كلي على عوائد النفط، يتمثل في إيجاد السبل المثلى لتقليص هذه التبعية بـ"أقل ضرر اقتصادي ممكن"، وهذا ما يستدعي، وفقا له، "سنوات بل عقودا من أجل التغيير".
وحذرت منظمة "Net Zero Tracker" غير الحكومية، الاثنين، من أن نحو 95 بالمئة من الدول التي تنتج النفط والغاز لم تتعهد بالتخلي تدريجيا عن التنقيب عن النفط.
وكشف تقرير المنظمة، أن معظم الدول التي التزمت بهدف خفض انبعاثات الكربون إلى الصفر، لم تعلن عن أي خطط للتخلص التدريجي من الوقود الأحفوري، وهذا قد يجعل تعهداتها مجرد شعارات.
ويشكّل الاستغناء أو الخفض التدريجي لاستخدام الوقود الأحفوري محور سجال أساسي في المحادثات الجارية في الإمارات، التي تعد واحدة من أكبر منتجي النفط في العالم.
ودعت كبرى الدول المنتجة للنفط، ومن ضمنها الإمارات والسعودية والولايات المتحدة، إلى مواصلة الاستثمار في الوقود الأحفوري لضمان أمن الطاقة، قبل الخوض في أي مسار انتقالي على هذا الصعيد، حسبما نقلته فرانس برس.
وفي هذا السياق، يقول خبير الشؤون النفطية، إن تحديين أسياسيين يفرضان نفسيهما على كل الدول المنتجة للطاقة؛ أولهما الرهانات الاقتصادية التي تتعلق بتكلفة التخلص من الوقود الأحفوري والاستثمارات الكبيرة ـ وربما غير المضمونة ـ في الطاقات الخضراء، وأيضا "مدى واقعية الالتزامات المعلنة وقابلية تطبيقها، في ظل غياب أرضية مشتركة للتفاهم بين دول العالم المختلفة.
ويضيف الخبير الاقتصادي، أن التوجه والرغبة في خفض الإنتاج حاضرة لدى مجموعة من الدول، مشيرا إلى أن "الكويت مثلا بدأت في مشاريع الوقود البيئي في مصافيها الثلاثة الكبرى، كما أطلقت الدول الخليجية الأخرى مشاريع طموحة"، لكن يجب مراعاة تداعياتهذا الانتقال والتي تتطلب أيضا حيزا زمنيا كبيرا.
خطط طموحة لكن بـ"التدريج"
وفيما تسارع الدول المنتجة للنفط لتفعيل خططها الرامية لتنويع العائدات الاقتصادية بعيدا عن مصادر الطاقة الأحفورية، تواصل في المقابل، إطلاق مشاريع جديدة لتطوير صناعاتهما الهيدروكربونية، وزيادة إنتاج وضخ النفط والغاز في الأسواق الدولية.
وكشف تقرير لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، نشر الشهر الماضي، بأن السعودية وقطر والإمارات والكويت، من بين نحو 20 بلدا رئيسيا منتجا للوقود الأحفوري، تواصل تقديم دعم سياسي ومالي كبير لإنتاج الوقود الأحفوري، بنسب لا تتسق مع أهداف حصر الاحترار في حدود 1.5 بالمئة.
المحلل الاقتصادي السعودي، علي الحازمي، يؤكد، من جهته، على أن الرغبة في التحول الطاقي "تحضر" لدى كل دول الشرق الأوسط المنتجة للنفط"، غير "أنها ينبغي أن تتم بشكل تدريجي"، مشيرا إلى أن "الوقود الأحفوري في الوقت الحالي واقع يفرض نفسه، في حين أن أي تحول سريع وغير محسوب سيضر بها وبأمن الطاقة العالمي".
ويشدد الحازمي في تصريح لموقع "الحرة"، على أن "الطريقة المثلى" تتمثل في "مواصلة الاستثمار في الطاقة الأحفورية، بالموازاة مع الانتقال نحو النظيفة بشكل متناسب، حيث لا يمكن تحقيق هذا الانتقال بين عشية وضحاها".
والسبت، أعلنت الرئاسة الإماراتية لمؤتمر الأطراف بشأن التغير المناخي، أن 50 شركة في قطاع النفط والغاز، تمثل 40 بالمئة من الإنتاج العالمي، التزمت بالتخلص من الكربون في عملياتها الإنتاجية بحلول عام 2050.
ووقعت هذه الشركات، ومن بينها 29 شركة وطنية منها أرامكو السعودية وأدنوك الإماراتية و"بابكو إنرجيز" البحرينية، ميثاقا يحدد أهداف تحقيق "الحياد الكربوني عام 2050 أو قبله"، وانبعاثات "قريبة من الصفر" من غاز الميثان، و"عدم الحرق الروتيني" في حقول الإنتاج بحلول عام 2030.
غير أن وزير الطاقة السعودي، الأمير عبد العزيز بن سلمان، استبعد، الاثنين، الموافقة على أي خفض تدريجي لاستخدام النفط في محادثات المناخ، خلال مؤتمر الأطراف "كوب28"، مشددا على أن السعودية وغيرها من الدول، لن توافق على خطوة كهذه.
وقال بن سلمان لوكالة بلومبرغ "بالتأكيد لا... وأؤكد لكم أن لا أحد، وأتحدث هنا عن الحكومات، يؤمن بذلك"، مضيفا: "أود أن أطرح هذا التحدي على كل أولئك الذين.. يقولون بشكل علني إنه علينا (خفض استخدام الوقود الأحفوري تدريجيًا)، سأعطيكم أسماءهم وأرقامهم، واتصلوا بهم واسألوهم كيف سيفعلون ذلك".
وفيما يتعلق بجهود السعودية، التي تعد ثاني أكبر مصدر عالمي للنفط، على مستوى الانتقال نحو الطاقات المتجددة، يقول الحزمي، إن الرياض "تأخذ على عاتقها التوجهات المستقبلية للحفاظ على المناخ"، مشيرا إلى أنها أطلقت أكثر من 73 مبادرة بيئية، بقيمة أكثر من 186 مليار دولار.
ويوضح أن المملكة تعمل على تنويع محفظتها الطاقية، بين الوقود الأحفوري وما بين الطاقة المتجددة، والمنتجات التي تعتبر أقل ضررا بالبيئة، إضافة إلى اعتماد مشاريع الطاقات النظيفة في معظم البرامج والمشاريع الكبرى التي تخطط لها.
وأطلق ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان قبل سنوات "رؤية 2030" التي تهدف إلى تنويع مصادر دخل السعودية وتخفيف ارتهان اقتصادها للوقود الأحفوري، من خلال تحويل السعودية إلى مركز سياحي وتجاري يضم العديد من المشاريع الضخمة.
ومع قرب انتصاف الطريق نحو 2030، لا يزال الاقتصاد السعودي يعتمد بشكل كبير على عائدات النفط، رغم أن البيانات الرسمية تشير إلى نمو ثابت في عائدات القطاع غير النفطي.
في هذا الجانب، يوضح الخبير الاقتصادي السعودي، أن تطوير الاقتصاد إلى جانب هاجس التحول الطاقي الأخضر "يعدّ من صميم خطط رؤية 2030"، إذ أطلقت الرياض، بحسبه "عددا من الخطط والمبادرات والمشاريع الطموحة التي تعكس أن للسعودية أهدافا مستقبلية فيما يخص البيئة والمناخ".
ّ"تكلفة عالية لكن مقبولة"
وينتج عن إنتاج النفط والغاز ونقلهما ومعالجتهما ما يقرب من 15 بالمئة من انبعاثات غازات الدفيئة المرتبطة بالطاقة على مستوى العالم، وفقا لوكالة الطاقة الدولية.
والاثنين، وجهت هيومن رايتس ووتش، انتقادات لقطاع الوقود الأحفوري في الإمارات، متهمة إنتاج أبوظبي بالتسبب في مستويات تلوث هواء مرتفعة على نحو "مقلق، في ما وصفته بأنه "سر قذر" تحرص السلطات على التكتم عليه.
وأفاد التقرير الذي يحمل عنوان "يمكنك شم النفط في الهواء: الوقود الأحفوري في الإمارات يغذي التلوث السام" بأن"قطاع الوقود الأحفوري الإماراتي يساهم في التلوث السام للهواء والتأثير المدمر على صحة الإنسان، حتى في الوقت الذي تسعى فيه حكومتها إلى وضع نفسها في موقع الرائد العالمي في قضايا المناخ والصحة" في مؤتمر المناخ كوب28.
واستنادا إلى مراجعة وتحليل بيانات تلوث الهواء الحكومية وصور الأقمار الاصطناعية من عام 2018 إلى عام 2023، أشار التقرير إلى "ارتفاع كبير" في مستويات تلوث الهواء في الدولة التي يبلغ عدد سكانها حوالي عشرة ملايين نسمة.
ورغم أن السلطات تفيد بأن تلوث الهواء ناجم بشكل رئيسي عن الغبار الذي تذريه العواصف الرملية، استشهد التقرير بدراسات أكاديمية تشير إلى انبعاثات الوقود الأحفوري كعامل مساهم آخر.
وأطلقت الإمارات، التي تعد أكبر منتج للنفط الخام في العالم، خططا واستثمارات كبيرة في مجال الطاقة المتجددة للتخفيف من آثار تغير المناخ، على غرار "استراتيجية الإمارات للطاقة 2050"، التي تهدف إلى تعزيز الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة وتحسين كفاءة استخدام الطاقة، وتشجيع استخدام الطاقة النظيفة بأنواعها.
وتهدف هذه الاستراتيجية التي أطلقتها أبوظبي عام 2017، إلى خفض الانبعاثات للوصول للحياد المناخي في قطاع الكهرباء والمياه بحلول 2050، ورفع مساهمة الطاقة المتجددة إلى 3 أضعاف بحلول 2030، علاوة على إزالة نسبة مساهمة الفحم النظيف لتصبح 0 بالمئة، من مزيج الطاقة، بما يضمن ريادة الدولة ومن ثم تحقيق مستهدفات الحياد المناخي بحلول 2050.
في هذا الجانب، يرى المستشار الاقتصادي الإماراتي، عبد اللطيف العزعزي، بأن هناك توجها لدى أبوظبي للاستثمار في الطاقات الجديدة لـ"تحقيق أكبر نفع بيئي واقتصادي مستدام"، مشيرا إلى أن "كسب رهان التحول الطاقي من أبرز ما تسعى إليه الدولة".
ويوضح العزعزي، في تصريح لموقع "الحرة"، أن بلاده ضخت استثمارات كبيرة في مجال الانتقال الطاقي، عبر مشاريع الطاقة الشمسية والريحية وأيضا النووية، مما يجعلها من أكثر الدول تقدما وتطورا فيما يتعلق بهدف بلوغ اقتصاد أخضر ومستدام ونظيف.
ويتابع الخبير الاقتصادي الإماراتي، أن التطور التكنولوجي الذي تحققه بلاده "يفرض حاجيات طاقية أكبر"، وبالتالي تبحث الدولة "بعيدا عن مصادر الطاقة التقليدية، وتدفع نحو الاستثمار في البدائل الخضراء".
ويضيف المتحدث ذاته، أن تكلفة هذا التحول "عالية"، لكن بالنظر لكونها استثمارات للمستقبل فهي تبقى مقبولة"، مشيرا في هذا الجانب إلى الاستثمارات في مجال الطاقة النووية التي يقول إنها "برامج طموحة تقلل الانبعاثات الكربونية، وتزيد من تنويع إمدادات الطاقة وتوفير طاقة اقتصادية صديقة للبيئة في البلاد".