الحوثيون يستخدمون أسلحة وذخائر مصنعة في إيران. أرشيفية
الحوثيون يستخدمون أسلحة وذخائر مصنعة في إيران. أرشيفية

تستمر جماعة الحوثي في تهديد الأمن والاستقرار في البحر الأحمر، وهذه المرة بالتلويح في استخدام ما أسمته بـ"سلاح الغواصات".

عبدالملك الحوثي زعيم الحوثيين في اليمن، قال الخميس، إن الجماعة أدخلت "سلاح الغواصات" في هجماتها على السفن، فيما يزعم أنه "تضامن مع الفلسطينيين في حرب غزة".

والاثنين أعلنت وزارة الدفاع الأميركية "البنتاغون" تنفيذ ضربات دفاعية على خمسة أهداف في المنطقة التي يسيطر عليها الحوثيون في اليمن الاثنين بعد استخدامهم لغواصة مسيرة عن بعد الأحد لأول مرة منذ بدء الهجمات في البحر الأحمر.

وأشار البنتاغون إلى أن الضربات استهدفت زورقا بحريا مسيرا عن بعد مسيرة وصواريخ كروز مضادة للسفن، والتي تشكل الجزء الأكبر في ترسانة الحوثيين، بحسب تقرير نشرته شبكة "أي بي سي نيوز".

وأدت هجمات جماعة الحوثي، المصنفة على قوائم الإرهاب الأميركية، في البحر الأحمر إلى ارتفاع تكاليف تأمين السفن، ما أجبر غالبية شركات الشحن على تجنب عبور البحر الأحمر، وهو طريق حيوي تمر عبره نحو 12 في المئة من التجارة البحرية العالمية وفقا لرويترز.

واندلع النزاع في اليمن عام 2014 وسيطر الحوثيون المدعومون من إيران على مناطق شاسعة في البلاد بينها العاصمة صنعاء.

وفي العام التالي، تدخلت السعودية على رأس تحالف عسكري دعما للحكومة، ما فاقم النزاع الذي خلف مئات آلاف القتلى وتسبب بواحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم.

غواصات مسيرة 

غواصات إيرانية مسيرة أعلنت عنها أواخر 2023. أرشيفية

خلال السنوات الأخيرة بدأ الحوثيون بتطوير قدراتهم العسكرية الجوية، بدءا من الصواريخ البالستية وصواريخ كروز، بالإضافة إلى الطائرات المسيرة المصنعة بمواد ومعدات إيرانية، وفقا لخبراء في مجال الدفاع، بحسب تقرير لوكالة فرانس برس.

ولكن الإضافة الجديدة التي كشف عنها مؤخرا كانت بالغواصات المسيرة عن بعد، والتي رصد البنتاغون استخدامها مؤخرا.

محمد الباشا، كبير محللي الشرق الأوسط لدى مجموعة "نافانتي" الاستشارية الأميركية يقول إن إيران ووكلائها في المنطقة لديهم "سجلا طويلا من تطوير تقنيات حربية غير تقليدية، حيث تظهر صور ومقاطع مصورة للحرس الثوري الإيراني تطوير متواصل للسلاح المسير عن بعد من طائرات وقوارب ومركبات، ومؤخرا غواصات ذكية".

وأشار في حديث لموقع "الحرة" إلى أن أواخر يناير الماضي اعترضت قوة أميركية سفينة تهريب في البحر العربي اكتشف فيها "قطع غيار ومعدات لتصنيع أسلحة غواصة مسيرة حيث تظهر في إحدى الصور مروحية الغواصة".

معدات الغواصة المسيرة تم تحديدها في إطار باللون الأحمر بحسب المحلل محمد الباشا. أرشيفية

ورجح أن هذه الغواصة المسيرة التي ظهرت في الصورة "هي ذاتها التي ظهرت في منتصف مارس من 2022 خلال حفل تدشين المرحلة الثامنة من ضم المعدات الدفاعية المتخصصة إلى سلاح البحرية التابع للحرس الثوري الإيراني، والذي ضم لأول مرة غواصات مسيرة عن بعد".

وأكد الباشا أن هذه "الغواصات المسيرة خلافا للطوربيدات، قد تكون بطيئة ولكن مداها أبعد، وهي مجهزة بمنظومة بصرية تساهم في تحديد الهدف، واغلبها يتم توجيهه بدقة"، موضحا أن إعلان زعيم الحوثيين عن "سلاح الغواصات" ليس بجديد إذ كان قد ألمح إليه في خطابات سابقة".

ويشرح المحلل الاستراتيجي الباشا الخصائص الفنية لهذه الغواصة، مرجحا أنها تشمل "تعديلا لمعدات إيرانية قادرة على الغطس مثل مركبة الــ (روف) المجهزة بمجموعة أجهزة استشعار متقدمة، وتستخدم في المقام الأول للاستطلاع أو عمليات زرع الألغام المحتملة وهي نسخة من مركبة (بلوتو بلس) الإيطالية، أو غواصات صغيرة مثل فئة (غدير) الإيرانية".

أنظمة صاروخية بحرية إيرانية عرضتها في مارس 2022. أرشيفية

وأضاف أن الجديد بهذه المركبة التي تحدث عنه زعيم الحوثيين أنها "غواصة مسيرة عن بعد قادرة على حمل رأس متفجر".

وأعاد الباشا التذكير بأن الحوثيين استولوا في 2018 على غواصة ذكية "ريمس 600"، وربما قاموا بـ"استنساخها لكي تقوم بعمليات هجومية أشبه بسلاح الطوربيد المضاد للقطع البحرية".

المحلل الدفاعي، ميك مولوري قال لشبكة "أي بي سي نيوز" إن "الغواصة المسيرة، وهي مركبة غاطسة تحت الماء، تظهر قدرة الحوثيين المتقدمة واستراتيجيتهم المتغيرة" إذا أنهم يعدلون من "استراتيجيتهم لأنهم لم ينجحوا في ضرب سفن بحرية أميركية".

ورجح مولوري وهو مسؤول سابق في البنتاغون أن "اكتشاف وتدمير المركبات البحرية المسيرة أكانت الغاطسة أو التي تسير على سطح الماء أكثر صعوبة من اكتشاف الطائرات المسيرات والصواريخ المضادة للسفن".

القرار بتصنيف الحوثيين جماعة إرهابية يدخل حيز التنفيذ لجمعة (أرشيفية)
كيف سيتأثر الحوثيون بتصنيفهم جماعة إرهابية؟
مع إعادة الولايات المتحدة لجماعة الحوثي إلى قائمة الجماعات الإرهابية، يدخل اليمن في مرحلة جديدة تستهدف من خلالها واشنطن عرقلة "تمويل العمليات الإرهابية" بسبب ما أحدثته هذه الجماعة المرتبطة بإيران من تعطيل لحركة التجارة في البحر الأحمر.

وأكد أنه "من غير المحتمل أن يكون الحوثيون قادرين على تصنيع هذه الأسلحة بمفردهم، ومن المحتمل أن تكون قادمة من إيران".

وتابع مولوري أنه "إذا نجحت أي أسلحة مسيرة حوثية في استهداف البحارة الأميركيين يجب على طهران أن تتوقع تحميلها المسؤولية المباشرة"، مشيرا أن هذه أنظمة الأسلحة المسيرة "تشكل تهديدا خطيرا لأنها يمكن أن تطغى على دفاعات السفن من خلال هجوم من أبعاد متعددة يسمى بـ(هجوم السرب)".

استراتيجيات تجنب الغواصات المسيرة

بريان كلارك، خبير في شؤون التكنولوجيا الدفاعية في معهد هدسون الأميركي قال إن هذه الغواصات المسيرة التي قد يستخدمها الحوثيون "تشكل خطرا على السفن المتوقفة أو تلك التي تسير ببطء، وهو ما قد يشمل السفن التي تعبر باتجاه البحر الأحمر بسبب ضيق باب المندب والازدحام في الممر المائي الهام".

وأضاف في حديث لموقع "الحرة" أن هذه الغواصات المسيرة "ليست سريعة أو قادرة على البحث عن هدف، ولكن يمكن توجيهها للوصول إلى أهداف محددة سابقا باستخدام نظام تحديد المواقع (جي بي أس)".

ويرى كلارك أن "الدفاع ضد الغواصات أو المركبات الغاطسة المسيرة عن بعد قد يشكل تحديا لأنه يصعب رؤية، وقد لا يمكن إصابتها تحت الماء، ولهذا على السفن في المنطقة الحفاظ على حركة دائمة حتى لا تصبح هدفا للحوثيين".

ويقترح الخبير الدفاعي استراتيجيات لتجنب الإصابة بهذه الغواصات المسيرة التي تعتبر أشبه بـ"ألغام متنقلة" من خلال "نشر شبكات حول السفن قادرة على اصطياد أو تحييد هذه الغواصات"، مشيرا إلى أن القوات الأميركية استطاعت من خلال مراقبة الشواطيء رصد مركبة غاطسة مسيرة حيث تم تحييدها.

ويشير إلى أن الحوثيين يستخدمون هذا النوع من الغواصات المسيرة لأول مرة، إذا استهدفوا السعودية سابقا بطائرات مسيرة، واستخدموا قوارب مسيرة تسير فوق الماء لاستهداف ناقلات نفط.

ورجح كلارك أنه المصدر لهذه الغواصات من المحتمل أن "يكون إيران"، خاصة وأن طهران أصبحت تصنع طائرات مسيرة لروسيا ولاستعمالها الخاص، ولديها خبرة في تطوير قوارب مسيرة انتحارية.

مسيرات انتحارية 

مقارنة للطائرات المسيرة الإيرانية والحوثية بحسب تقرير وكالة الاستخبارات الدفاعية الأميركية

يقول الحوثيون إنهم يصنعون طائراتهم المسيرة محليا، وكشفوا عنها في عرض عسكري أقيم في صنعاء في مارس 2021.

وتتضمن ترسانتهم من الطائرات بدون طيار مسيرات "شاهد-136" الإيرانية التي تستخدمها روسيا في حربها على أوكرانيا ويبلغ مداها حوالى ألفي كلم، بحسب الخبير العسكري في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية فابيان هينز

ولدى الحوثيين أيضا مسيرات من طراز "صماد 3".

المدى الذي يمكن أن تصله له الطائرات المسيرة الإيرانية التي يطلقها الحوثيون بحسب تقرير وكالة الاستخبارات الدفاعية الأميركية

ويقول هينز لوكالة فرانس برس "لا نعرف مداها بشكل دقيق لكن يفترض أن يبلغ نحو 1600 كلم"، وسبق أن استخدموها في هجماتهم على الإمارات والسعودية.

ويمكن لـ"صماد 3" حمل 18 كلغ من المتفجرات، وفقا لمصادر إعلامية حوثية وخبراء.

 وجاء في تقرير "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" في 2020 أن الطائرات المسيرة هذه "تستخدم إرشادات نظام تحديد المواقع العالمي (جي بي أس) وتحلق بشكل مستقل على طول نقاط الطريق المبرمجة مسبقا" نحو أهدافها.

صواريخ باليستية

مقارنة للصواريخ الباليستية الإيرانية والحوثية بحسب تقرير وكالة الاستخبارات الدفاعية الأميركية

وتضم ترسانة الحوثيين صواريخ بالستية من طراز "طوفان"، وهي في الأساس صواريخ "قدر" الإيرانية لكن أعيد تسميتها، ويتراوح مداها بين 1600 و1900 كلم، وفقا لهينز.

ويوضح أن هذه الصواريخ "غير دقيقة إلى حد كبير، على الأقل في النسخ التي استعرضوها، لكن يفترض أن تكون قادرة على بلوغ إسرائيل".

وأجرت إيران عام 2016 تجارب على صواريخ "قدر" التي ضربت أهدافا تبعد نحو 1400 كلم.

المدى الذي يمكن أن تصله له الصواريخ الإيرانية التي يطلقها الحوثيون بحسب تقرير وكالة الاستخبارات الدفاعية الأميركية

وقال المحلل الباشا في تصريحات سابقة لوكالة فرانس برس إن الحوثيين كشفوا عن ترسانتهم من صواريخ "طوفان" قبل أسابيع من شن حركة حماس هجومها على إسرائيل في السابع من أكتوبر.

وكان الحوثيون استولوا على أسلحة الجيش اليمني عندما سيطروا على صنعاء ومناطق محيطة بها. ويقول مسؤولون عسكريون في صفوفهم إنهم استطاعوا تصنيع صواريخ ومدرعات ومسيرات.

ولطالما اتهمت الرياض وواشنطن طهران بتزويدهم بالأسلحة، وهو ما تنفيه طهران.

صواريخ "كروز"

مقارنة لصواريخ كروز الإيرانية والحوثية بحسب تقرير وكالة الاستخبارات الدفاعية الأميركية

يملك المتمردون أيضا صواريخ "كروز" إيرانية من طراز "قدس"، بحسب هينز.

وتتوافر نسخ عدة من هذه الصواريخ، بعضها يبلغ مداه حوالى 1650 كلم، "ما يكفي للوصول إلى إسرائيل"، وفق هينز.

وعام 2022، أعلن الحوثيون استخدام صواريخ "قدس 2" لاستهداف العاصمة الإماراتية أبوظبي. وعبرت الصواريخ آنذاك مسافة 1126 كلم من شمال اليمن.

كما أطلق الحوثيون صواريخ "قدس 2" عام 2020 لاستهداف منشآت في السعودية.

إيران مصدر أسلحة الحوثيين

مقارنة لمنظومة صواريخ إيرانية وحوثية بحسب تقرير وكالة الاستخبارات الدفاعية الأميركية

السفير روبرت وود، من البعثة الأميركية لدى الأمم المتحدة قال في تصريحات، مؤخرا، خلال إيجاز لمجلس الأمن الدولي بشأن اليمن "ليس بوسع طهران أن تنكر دورها في تمكين الهجمات التي يشنها الحوثيون ودعمها، وذلك نظرا لدعم إيران المادي طويل الأمد للحوثيين وتشجيعها لأعمالهم المزعزعة للاستقرار في المنطقة".

ودعت الدول الأعضاء في مجلس الأمن، خاصة تلك التي لديها قنوات مباشرة مع طهران، إلى الضغط على القادة الإيرانيين لكبح جماح الحوثيين ووقف هذه الهجمات غير القانونية والوفاء بالتزاماتهم بموجب قرارات مجلس الأمن.

وأكد وود أن الحرس الثوري الإيراني زود الحوثيين بـ"ترسانة متزايدة من الأسلحة المتقدمة منذ عام 2014، وقد استخدموها لمهاجمة السفن التجارية في البحر الأحمر"، وهذا ينتهك قراري مجلس الأمن الدولي رقم 2140 و2216.

وأضاف أن الولايات المتحدة وشركاءها اعترضوا ما لا يقل عن 18 سفينة تهرب أسلحة إلى الحوثيين بشكل غير قانوني بين العامين 2015 و2023، وصادرت صواريخ باليستية وصواريخ كروز وصواريخ مضادة للسفن وطائرات مسيرة وأسلحة أخرى.

وأصدرت وكالة الاستخبارات الدفاعية الأميركية "دي أي أيه" تقريرا مطلع يناير استخدام طائرات مسيرة وصورايخ استخدمها الحوثيون ضد أهداف عسكرية ومدنية في جميع أنحاء المنطقة.

ويوضح التقرير في تحليل مقارن مدعما بالصور الصواريخ والطائرات المسيرة الإيرانية التي يستخدمها الحوثي في مهاجمة السفن التجارية في البحر الأحمر مع تلك التي استهدفت البنية التحتية والموانئ في جميع أنحاء المنطقة.

وقدمت الولايات المتحدة أدلة جديدة على أن هجمات الحوثيين على الشحن الدولي يتم تنفيذها بأسلحة صممتها إيران، بحسب تقرير لموقع "فويس أوف أميركا".

والخميس، أعلنت القيادة المركزية الأميركية "سنتكوم" في بيان نشرته على منصة "إكس" أن سفينة تابعة لخفر السواحل الأميركي "قامت بمصادرة شحنة من الأسلحة التقليدية المتطورة وغيرها من المساعدات الفتاكة مصدرها إيران ومتجهة إلى المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون في اليمن من على سفينة في بحر العرب في 28 يناير".

وأضاف البيان أن الشحنة تحتوي على أكثر من 200 حزمة تشمل مكونات صواريخ ومتفجرات وأجهزة أخرى.

ونقل البيان عن قائد "سنتكوم"، مايكل إريك كوريلا، قوله إن "هذا مثال آخر على نشاط إيران الخبيث في المنطقة".

وأضاف أن "استمرارهم في إمداد الحوثيين بالأسلحة التقليدية المتقدمة... يستمر في تقويض سلامة الشحن الدولي والتدفق الحر للتجارة".

وفي 16 يناير، أعلن الجيش الأميركي أنه صادر في 11 من الشهر ذاته، مكونات صواريخ إيرانية الصنع على متن قارب في بحر العرب كانت متوجهة إلى الحوثيين، في أول عملية من نوعها منذ بدأ المتمردون اليمنيون استهداف سفن قبالة اليمن.

القوات الأميركية كانت قد أعلنت مداهمة ليلية على القارب في 11 يناير الماضي
واشنطن توجه اتهامات لطاقم مركب ضُبطت على متنه أسلحة إيرانية
أعلنت وزارة العدل الأميركية، الخميس، توجيه اتهامات إلى أربعة أشخاص لصلتهم بمركب ضبطت البحرية الأميركية على متنه أسلحة إيرانية كانت متجهة إلى الحوثيين في اليمن، في عملية تسببت أيضا بمصرع جنديين أميركيين من قوات النخبة في البحرية.

وحتى قبل بدء الهجمات، أعلن الجيش الأميركي مرارا مصادرة شحنات أسلحة قال إنها متجهة من إيران إلى الحوثيين، وفقا لفرانس برس.

في ديسمبر، شكلت الولايات المتحدة قوة بحرية متعددة الجنسيات لحماية السفن في البحر الأحمر، لكن هذا التحالف لم يتمكن حتى الآن من وقف الهجمات.

البابا فرنسيس

في صباح مشمس من مارس 2021، وقف طفل ملوحا بعلم عراقي صغير، على حافة الرصيف في مدينة النجف، يتأمل موكبا رسميا لم يَعْهد له مثيلا من قبل. 

وسط الجموع، لمح الطفل الثوب الأبيض للزائر الغريب وهو يخطو على مهل داخل أزقة المدينة المقدسة لدى المسلمين الشيعة.  لم يكن ذلك الطفل يعلم على الغالب أنه كان شاهدا على واحدة من الزيارات البابوية التي ستسجل في كتب التاريخ باعتبارها لحظة نادرة ومفصلية في علاقة الأديان في الشرق الأوسط. 

في تلك الزيارة التي وقّتها البابا مع بدء تعافي الكوكب من فايروس كورونا، وبدء تعافي العراق من "داعش"، زار البابا الراحل المناطق التي دمرها داعش في أور والموصل، وحمل معه للعراق عموماً وللمسيحيين خصوصاً رسالة أمل رمزية لكنها شديدة العمق: "السلام ممكن، حتى من قلب الألم". 

خلال لقائه بالمرجع الشيعي الأعلى، علي السيستاني، في المدينة الشيعية المقدسة، بحث رأس الكنيسة الكاثوليكية مع رأس الحوزة "التحديات الكبيرة التي تواجهها الإنسانية"، وقد شكل ذلك اللقاء "فرصة للبابا ليشكر آية الله السيستاني لأنه رفع صوته ضد العنف والصعوبات الكبيرة التي شهدتها السنوات الأخيرة، دفاعاً عن الضعفاء والمضطهدين، بحسب بيان وزعه المكتب الصحفي للكرسي الرسولي بعد اللقاء.

منذ حمله لقب "صاحب القداسة" في العام ٢٠١٣، أولى البابا فرنسيس أهمية كبيرة للبقعة الجغرافية التي تتنازعها الحروب والنيران على طول خريطة الشرق الأوسط. والتفت البابا بعين دامعة، الى البشر الذين يُدفعون بسبب الحروب والمآسي إلى البحار هرباً من الموت على اليابسة. 

خرج صوت البابا من أروقة الفاتيكان، بخشوع وألم، ليعبر بنبرة أب قلق على أبنائه وبناته في تلك البقعة من العالم، من تمييز بينهم على أساس أديانهم أو طوائفهم. 

رفع البابا صوته وصلواته لضحايا الهجرة، ووقف على شاطئ المتوسط منادياً العالم: "أولئك الذين غرقوا في البحر لا يبحثون عن الرفاه، بل عن الحياة". وفي لقائه بلاجئين سوريين خلال زيارته إلى اليونان، طلب "ألا يتعامل العالم مع المهاجرين كأرقام، بل كوجوه وأرواح". 

لا يمكن الفصل بين رؤية البابا فرنسيس لقضايا الشرق الأوسط وبين خلفيته الآتية من أميركا اللاتينية، كما يشرح الباحث في العلاقات الإسلامية المسيحية روجيه أصفر لموقع "الحرة". 

يقول أصفر إن "المنطقة التي أتى منها البابا وشهدت صعود لاهوت التحرير وتعيش فيها الفئات المسحوقة والديكتاتوريات، لابد أن تخلق لديه حساسية تجاه قضايا شعوب الشرق الأوسط التي تعاني من نموذج مشابه من الديكتاتوريات". 

وايضاً يجب الأخذ بعين الاعتبار، بحسب أصفر، المعرفة العميقة لدى البابا بالإسلام، "ومع كل الاستقطاب الديني الذي نشهده في العالم، وصعود الإسلاموفوبيا، تمكن البابا من نسج علاقات جيدة بالعالم العربي والمرجعيات الدينية فيه وخصوصاً مع الأزهر وتوقيعه وثيقة الأخوة الإنسانية التي تعتبر متقدمة جداً في مجال الحوار بين الأديان".

جال البابا في زيارات مختلفة توزعت على دول عربية، وحط في العام ٢٠١٧ في مصر، بعد تفجيرات استهدفت الكنائس القبطية، والتقى حينها بشيخ الأزهر، أحمد الطيب، وشارك في مؤتمر للسلام. هناك قال إن "الإيمان الحقيقي هو ذلك الذي يدفعنا إلى محبة الآخرين، لا إلى كراهيتهم". 

بعدها بسنتين، زار الإمارات في زيارة تاريخية لأول بابا يزور شبه الجزيرة العربية، ووقع مع شيخ الأزهر وثيقة "الأخوّة الإنسانية" التاريخية، داعياً من قلب الخليج إلى "نبذ الحرب، والعنصرية، والتمييز الديني". كما ترأس قداساً حضره أكثر من 100 ألف شخص في استاد زايد، ليقول للعالم: "الإيمان يوحّد ولا يُفرّق".

ما فعله البابا هو "كسر الحواجز وتأسيس منطلقات نظرية لاهوتية وشرعية وفقهية مع الجانب المسلم والتعاون لتأسيس للعيش معاً بشكل أفضل"، يقول أصفر. ويتابع: "البابا انطلق في ذلك من سلطته المتأتية من صلاحية قوية جداً على رأس هرم الكنيسة الكاثوليكية التي تضم أكبر جماعة مسيحية في العالم". 

حينما وقع انفجار هائل في مرفأ بيروت في أغسطس من العام ٢٠٢٠، عبّر البابا فرنسيس عن تضامنه العميق مع الشعب اللبناني، ووصف لبنان بأنه "رسالة" في التعايش، داعيًا العالم لعدم التخلي عنه: "لبنان لا يمكن أن يُترك وحيدًا... هو كنزٌ يجب الحفاظ عليه". 

خصص صلوات كاملة لأجل "نهضة لبنان من الرماد"، وكان يخطط لزيارة بيروت قبل أن تؤجل الزيارة بسبب وضعه الصحي. وأبدى اهتماماً كبيراً بأزمة السودان، وتدهورها في السنوات الأخيرة إلى انتهاكات شنيعة لحقوق الإنسان، فرفع الصلوات لسلام السودانيين ودعا إلى حماية المدنيين مما سماه "أسوأ أزمة إنسانية في العالم".

كما عبّر البابا فرنسيس مراراً عن قلقه العميق من تدهور الأوضاع بين الاسرائيليين والفلسطينيين في الشرق الأوسط وانسحاب الصراع إلى دول أخرى مثل لبنان. 

خلال زيارته لبيت لحم عام 2014، آتياً من الأردن، تحدث عن السلام وأهميته وعن حق الفلسطينيين كما الإسرائيليين بالأمان. 

وبعد الهجوم الذي شنّته حركة حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، أدان البابا فرنسيس بوضوح قتل المدنيين واختطاف الأبرياء، مع دعوة لوقف العنف من الجانبين: "أتابع بألم ما يحدث في إسرائيل وفلسطين... أدعو إلى الوقف الفوري للعنف الذي يحصد أرواحًا بريئة. الإرهاب والعنف لا يحققان السلام أبدًا".

ودعا إلى إطلاق سراح الرهائن وفتح ممرات إنسانية لغزة، مؤكدًا أن "كل إنسان له الحق في العيش بكرامة، سواء كان فلسطينياً أو إسرائيلياً".

في العام ٢٠٢٢ شارك في "ملتقى البحرين للحوار"، في زيارة ثانية الى الخليج، كشفت عن اهتمامه بتلك البقعة من العالم، حيث دعا إلى احترام الحريات الدينية، والحوار بين المذاهب والأديان، مؤكدًا أن "الاختلاف لا يجب أن يتحول إلى صراع".

لم يكن البابا الراحل فرنسيس يوماً زائراً غريباً عن المنطقة، وعن الشرق الأوسط، بل كان يحمل في قلبه الحب لجميع شعوب العالم، ويحمل بلسانه لغة الحوار والعدالة التي يفهمها الجميع بمعزل عن اختلاف لغاتهم. 

كان يعرف كيف يقارب الصراعات الحساسة بحسّ إنساني عال وبشجاعة ملحوظة، فيقف إلى جانب المدنيين دائما في الصراعات العسكرية، ويدعو المتحاربين إلى انهاء حروبهم وتجنيب المدنيين قسوة الحروب ومآسي القتل والدمار والتهجير.