بعد مرور 13 عاما على آخر زيارة كان حينها رئيسا للحكومة، يعود الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، إلى بغداد، وهذه المرة بصفته رئيسا للبلاد، في زيارة تستحضر تساؤلات حول الملفات التي يحملها في جعبته للعراق.
ويصل إردوغان إلى بغداد، الاثنين، في زيارة هي الأولى منذ عام 2011، حسبما أعلن وزير الدفاع التركي، يشار غولر، الأسبوع الماضي، والذي أشار أيضا، وفق فرنس برس، إلى أن العراق وتركيا قد يوقعان "اتفاقية استراتيجية" على هامش الزيارة، من دون الكشف عن المزيد من التفاصيل.
وتأتي هذه الزيارة في ظل تفاهمات توصلت إليها بغداد وأنقرة منذ العام الماضي، فيما يتعلق بحزب العمال الكردستاني، والذي صنفته الحكومة العراقية كمنظمة "منظمة محظورة" في البلاد، حيث يسعى إردوغان وفق محللين تحدثوا مع موقع "الحرة" إلى حشد دعم العراق لجهوده العسكرية ضد التنظيم.
زيارة "في اتجاه واحد"
وخلال السنوات الأخيرة، كانت العلاقات بين العراق وتركيا متوترة، بسبب الحملات العسكرية التي ينفذها الجيش التركي ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني في الأراضي العراقية، بما في ذلك إقليم كردستان ومنطقة سنجار الجبلية، فضلا عن الخلافات المتعلقة بحصة بغداد من مياه نهري دجلة والفرات وتصدير النفط.
لهذا، يعتبر أستاذ السياسات العامة بجامعة بغداد، إحسان الشمري، أن "الزيارة ستحقق مكاسب لتركيا أكثر من العراق"، نظرا إلى مؤشرات رفض إردوغان التعاطي مع بعض الملفات التي تشكل أولوية لبغداد، مثل حصص المياه وانسحاب القوات التركية من الشمال.
في حديثه لموقع "الحرة"، يضيف الشمري: "الزيارة في اتجاه واحد. وتركيا قد تتوصل إلى اتفاقية أمنية من خلالها تنهي وجود حزب العمال الكردستاني. دون النظر إلى ما يحتاج إليه العراق".
بدوره، يقول أستاذ العلوم السياسية بجامعة بغداد، خالد عبدالإله، لموقع "الحرة" إن "الملف الأمني على رأس أولويات هذه الزيارة، إذ إنه يمثل في الأساس نقطة ارتكاز العلاقات المستقبلية بين البلدين".
ويرغب إردوغان في البناء على التفاهمات السابقة التي توصل إليها المسؤولون من البلدين خلال الأشهر الماضية، فيما يتعلق بأمن الحدود، وفق عبد الإله.
ويتفق المحلل السياسي التركي، جواد غوك، الذي يقول لموقع "الحرة" إن بلاده تُبدي رغبة واضحة في اتّخاذ خطوات عملية وحقيقية لحل الخلافات مع الجانب العراقي، خاصة تلك المتعلقة بحزب العمال الكردستاني.
ويتابع: "تربط تركيا تعاونها الأمني مع العراق بمكافحة حزب العمال الكردستاني، وتعتبره شرطا أساسيا لحل الخلافات بين البلدين"، مشيرا إلى أن التعاون الأمني، يُشكل مفتاحا لحل الملفات العالقة بينهما.
مطاردة حزب العمال الكردستاني
ويخوض حزب العمال الكردستاني تمردا مسلحا ضد السلطات التركية منذ العام 1984، حيث يشن من الحين والآخر عمليات داخل البلاد وضد قوات الأمن والجيش. فيما ترد تركيا بعمليات عسكرية واسعة على معاقل الحزب في شمال سوريا والعراق.
وأقامت أنقرة التي تهدد بتوسيع عملياتها هذا الصيف، عشرات القواعد العسكرية في كردستان العراق لمحاربة حزب العمال الكردستاني، وفق فرانس برس.
وفي هذا الاتجاه، يؤكد الشمري أن أنقرة لن توافق على مطالب العراق بالانسحاب من الأراضي العراقية، كما لن يتم الوصول إلى تفاهمات في هذا الأمر خلال الزيارة المزمعة. ويقول: "قضية انسحاب ما يقارب 22 قاعدة تركية من شمال العراق، لم يتم وضعها ضمن جدول أعمال هذه الزيارة".
على النقيض من ذلك، يرجح عبدالإله أن "يكون هناك تفاهمات فيما يتعلق بانسحاب القوات التركية، على أن يشمل ذلك اتفاق التعاون الأمني الأوسع نطاقا"، مستبعدا في نفس الوقت أي اتفاق بين البلدين بشأن عملية عسكرية مستقبلية ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني.
ويضيف: "بغداد تسعى بشكل حقيقي إلى عقد اتفاق أمني، على غرار الاتفاق مع إيران الذي فكك أحزاب المعارضة الكردية في شمال البلاد. في المقابل ستطلب من أنقرة وقف أي خروقات للسيادة العراقية أو تهديد للأراضي".
ويعتقد غوك أن التنسيق بين البلدين في إطار التفاهمات سوف يصل إلى حد تبادل المعلومات بشأن عناصر حزب العمال من أجل توجيه ضربات عسكرية ضدهم.
ويقول خلال حديثه: "سوف يكون هناك تنسيق استخباراتي عالي المستوى، خصوصا أن هذا الأمر كان يشكل معضلة منذ سنوات، إذ لا يوجد أي تنسيق بين استخبارات وأجهزة الأمن والجيش في البلدين".
ويزيد في قوله إن "التنسيقات الأمنية المستقبلية بهذا الخصوص ستأتي بعد تثبيت الثقة بين الجانبين، وتعهد حكومة بغداد بالقيام بدور فاعل في هذا الأمر".
حصة العراق من المياه
تتفاوض بغداد مع أنقرة منذ سنوات بشأن التوصل إلى اتفاقية تتعلق بحصتها في المياه، لكن دون الوصول إلى تقدم يذكر.
ويعاني العراق من انخفاض مقلق لمستوى نهري دجلة والفرات، حيث تتهم بغداد مرارا جارتيها تركيا وإيران بالتسبب في خفض كميات المياه الواصلة إلى أراضيها، بسبب بنائهما السدود على النهرين.
وانقسم المحللون خلال حديثهم مع موقع "الحرة" حول فرص التوصل إلى اتفاق يضمن للعراق حقوقه المائية، إذ يقول الشمري إنه "لا توجد أي مؤشرات على إمكانية أن توافق تركيا على توقيع اتفاق دولي نهائي، يودع بالأمم المتحدة ويضمن حصة العراق من المياه".
ويطالب العراق منذ سنوات بتقسيم مياه نهري دجلة الفرات إلى 3 حصص بنسبة الثلث لكل بلد، مستندا إلى القواعد الدولية التي تقر بحق كل دولة متشاطئة على نهر دولي في الحصول على حصة عادلة ومعقولة من مياه ذلك النهر.
وتُشير ورقة بحثية صادرة عن معهد أبحاث السياسة الخارجية، وهو مركز أبحاث أميركي مقره في فيلادلفيا، إلى سوء إدارة العراق للمياه، والتي باتت تمثل مشكلة متفاقمة في جميع أنحاء البلاد، مما يُشكل ورقة ضغط رئيسية في يد تركيا.
وكتب زميل أول في برنامج الشرق الأوسط التابع للمعهد، محمد صالح، تلك الورقة المنشورة خلال شهر يوليو الماضي: "بالرغم من أهمية عوامل مثل الأمن والتجارة والطاقة والشؤون الجيوسياسية الإقليمية لإحدى الجانبين أو الآخر (تركيا والعراق)، فإن المياه تبرز بشكل متزايد كنقطة الخلاف الرئيسية بالنسبة للعراق وتزيد من نفوذ تركيا في ظل علاقة صعبة ومعقدة ومتعددة الأوجه".
وهنا، يقول غوك إن "إردوغان قادر على الوصول إلى اتفاق مع بغداد فيما يتعلق بحصة العراق المائية".
ويتابع: "أتوقع أن يكون هناك اتفاقا بين بغداد وأنقرة، خصوصا مع إصرار من حكومة بغداد منذ سنوات عدة على تسوية هذه القضية، وهو الأمر الذي قد يمهد الطريق إلى التنمية والمنافع المشتركة بين الجانبين".
وفي السياق ذاته، يعتبر عبدالإله أن "الاتفاق على حصة المياه بالنسبة للعراق لا تقل أهمية عن الاتفاق الأمني بالنسبة لتركيا"، مشيرا إلى أن "هذه النقطة المفصلية سترتكز عليها في الأساس القضايا الأمنية، وقضايا الاقتصاد والتنمية والطاقة.
التعاون الاقتصادي
اتفق المحللون على أن مشروع "طريق التنمية" بين بغداد وأنقرة، الذي أُعلن عنه العام الماضي، إلى جانب تصدير النفط، سيكونا في مقدمة الأولويات الاقتصادية، التي سيتم التوافق بشأنها خلال زيارة إردوغان.
لكن الشمري يستبعد أن تتوافق تركيا مع الرؤية العراقية فيما يتعلق بتصدير النفط، وكذلك المستحقات المالية التي تحتجزها أنقرة نتيجة توقف إمداد النفط منذ عام تقريبا.
وتوقف تدفق النفط عبر خط أنابيب من إقليم كردستان، الذي يتمتع بحكم ذاتي منذ العام 1991، إلى تركيا في مارس 2023، بعد أن قضت غرفة التجارة الدولية، ومقرها باريس، بأن تركيا انتهكت بنود اتفاقية عام 1973 من خلال تسهيل صادرات النفط من منطقة كردستان شبه المستقلة، دون موافقة الحكومة الاتحادية العراقية في بغداد.
ويقول رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، في تصريحات خلال زيارته لواشنطن مؤخرا، إن حكومته تعمل مع إقليم كردستان على حل جميع المشاكل العالقة، بما في ذلك إنتاج وتصدير النفط.
أما "طريق التنمية"، فهو مشروع خط بري وخط سكك حديدية يصل الخليج بالحدود التركية، تعول عليه الحكومة العراقية ليصبح خط نقل أساسي للبضائع بين الشرق الأوسط وأوروبا.
ومع ذلك، يعتبر الشمري أن "ضمان تركيا لهذا المشروع، سيضمن لها منفردة تحقيق المكاسب دون العراق"، ويقول خلال حديثه: "صحيح سيكون هناك توقيع اتفاقية بشأن طريق التنمية، وهو له فوائد على العراق. لكن أن تكون تركيا ضامنة لهذا المشروع، فالمكاسب ستكون لها أكثر".
من جانبه، يقول الخبير الاقتصادي العراقي، علاء الفهد، إن العراق يحتاج إلى التفاوض بقوة فيما يتعلق بهذا الملف، للحصول على المكاسب المرجوة من المشروع، خصوصا أنه يمتلك المزيد من المقاومات الاقتصادية والاستثمارية.
ويؤكد أن "أنقرة وبغداد تربطهما علاقات اقتصادية قوية ومصالح تجارية مشتركة"، متوقعا إبرام المزيد من الاتفاقات الاستثمارية بين الشركات التركية والعراقية.
وخلال الربع الأول من العام 2024، كان العراق خامس مستورد للمنتجات من تركيا (الحبوب والمنتجات الغذائية والمواد الكيميائية والمعادن وغيرها)، كما كان الشريك الذي ازدادت المبيعات التركية إليه بشكل أكبر من غيره، بحسب فرانس برس.
ويواصل الفهد قائلا: "تركيا اليوم في حاجة إلى العراق، ومن الأفضل أن يستغل المفاوض العراقي الجوانب الإيجابية ومصادر القوة من أجل الاستفادة وحسم الملفات العالقة، بما في ذلك ما يتعلق بتصدير النفط وحصص المياه التي تؤثر على الزراعة".