بعد زيارته للعتبة الحسينية في كربلاء، الشهر الماضي، قصد السفير السعودي بالعراق، عبدالعزيز الشمري، السبت، العتبة العلوية بالنجف، حيث مرقد الإمام علي بن أبي طالب المقدس لدى الشيعة.
وتزامنت زيارة السفير السعودي لدى العراق لمرقد الإمام علي، الذي يقصده ملايين من الشيعة سنويا، مع وصول أول رحلة جوية تجارية من الدمام، حيث تتركز الأقلية الشيعية بالمملكة، إلى النجف وذلك للمرة الأولى.
لكن زيارة السفير السعودي لكربلاء أولا، ومن ثم النجف، التي التقى فيها أيضا باثنين من كبار مراجع الشيعة بمدينة تحتضن واحدة من أهم الحوزات العلمية (مدارس العلوم الدينية الجعفرية)، تفتح تساؤلات جادة عن الرسائل التي ترغب المملكة في إيصالها من خلال تحركات مبعوثها لدى بغداد.
وكان الشمري قال في تصريحات نقلها موقع "العتبة الحسينية المقدسة" على هامش زيارته لمرقد الإمام الحسين في كربلاء، منتصف الشهر الماضي، إن "زيارة العتبة الحسينية رسالة حب ومودة إلى الجميع".
وأضاف أن "السعودية والعراق تسعيان إلى التكامل الاقتصادي والسياسي والديني المشترك".
وفي هذا الإطار، اعتبر حسن المصطفى، المحلل السياسي السعودي المتخصص في الشؤون الشيعية، أن تحركات السفير السعودي تمثل "تعبيرا عن جدية الرياض في بناء علاقات حسنة مع بغداد، والانفتاح على مختلف مكونات الشعب العراقي".
وقال المصطفى في حديثه لموقع قناة "الحرة"، إن "السعودية لا تقف عند حدود مذهبية، بل يهمها المصلحة العامة للشعبين السعودي والعراقي".
رئيس مركز بغداد للدراسات، مناف الموسوي، يرى من ناحيته، أن انفتاح سفير المملكة على المكون الشيعي العراقي "يؤكد أن الوضع في السعودي متغير مع السياسة الجديدة التي أطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان".
وقال الموسوي في تصريحات لموقع "الحرة" إنه "في السابق كان هناك صراعا دينيا يصل في بعض الأحيان لتكفير الطرف الآخر، قبل سياسة الانفتاح التي قام بها (ولي العهد) الأمير محمد بن سلمان، التي كان لها تأثير واضح في المنطقة والعالم".
وأضاف: "زيارة السفير (السعودي) لعلماء الشيعة تشير إلى إذابة الجليد بين الدولتين وأتحدث عن الإشكالية الطائفية التي كانت موجودة بين رجال الدين بالسعودية، الذين يتبعون النهج الوهابي ورجال الدين بالعراق التابعين للمذهب الجعفري".
عقود من العلاقات المتقلبة
ولطالما شهدت العلاقات السعودية العراقية تقلبات كبيرة طوال عقود، وتبادلا للاتهامات التي كان أبرزها من أطراف شيعية للسعودية بدعم تنظيمات متشددة في البلد الذي يسعى للتعافي من الحروب.
وقطعت السعودية علاقاتها مع العراق عقب اجتياح الرئيس العراقي الأسبق، صدام حسين، للكويت في أغسطس 1990.
وحتى بعد إسقاط نظام صدام حسين عام 2003، استمر التوتر بين البلدين خصوصا خلال تولي نوري المالكي، رئاسة الحكومة العراقية على مدى 8 سنوات.
وبعد نحو 25 سنة من القطيعة الدبلوماسية، بدأت العلاقات في التحسن تدريجيا عام 2015 في أعقاب إرسال الرياض لسفيرها، ثامر السبهان، الذي لم يلبث طويلا.
ففي العام اللاحق، توترت العلاقات بين بغداد والرياض مع طلب الخارجية العراقية من نظيرتها السعودية تغيير سفيرها إثر تصريحات اتهم فيها "بعض الميليشيات" بإعداد مخطط لاغتياله، وفقا لفرانس برس.
ومع ذلك، استعادت العلاقات جزءا من عافيتها في فبراير 2017، مع زيارة لوزير الخارجية السعودي آنذاك، عادل الجبير، إلى بغداد في أول رحلة لمسؤول سعودي رفيع للعراق منذ عام 2003.
وفي أعقاب الزيارات المتتالية والمتبادلة خلال السنوات الماضية، قرر البلدان عام 2020 العمل على إعادة افتتاح منفذ عرعر الحدودي الرئيسي بينهما، الذي كان أغلق قبل أكثر من 33 عاما بعيد غزو العراق للكويت.
"في مصلحة البلدين"
والشمري، الذي يعرف العراق جيدا، كان قائما بأعمال السفير السعودي منذ عام 2016 قبل أن يسلم أوراق اعتماده سفيرا للمملكة لدى بغداد في العام اللاحق.
وذكرت صحيفة "عكاظ" السعودية في 2016 أن الشمري "ضابط رفيع المستوى برتبة عميد ركن، و(سبق له أن) شغل منصب الملحق العسكري بسفارة السعودية في ألمانيا".
ولاقت تحركات الشمري في كربلاء والنجف ردود فعل واسعة من قبل العراقيين الذين رحبوا بهذه الزيارات.
وتعتبر الزيارتان لكربلاء والنجف اللتين تتمتعان بمكانة دينية لدى الشيعة، الأولى من نوعها لسفير سعودي، وفقا للمصطفى، الذي يشير إلى أنها "تبعث برسائل أن السعودية تحترم التنوع الثقافي والمذهبي".
وقال إن "المملكة ترفض أي خطابات طائفية تمزق المسلمين أو تثير الشحناء بينهم، وهذا الانفتاح دليل على عدم وجود أي حواجز تعيق بناء صلات شعبية متينة بين السعودية والعراق".
واستشهد المصطفى بتسيير "طيران ناس" - ناقل اقتصادي مملوك للقطاع الخاص في السعودية - رحلات جوية مباشرة بين مدينة الدمام والنجف، التي يقصدها ملايين الزوار الشيعة سنويا، إذ إن جزءا من هؤلاء الزوار قادمون من المملكة.
والسبت، قالت وكالة الأنباء السعودية الرسمية (واس)، إن تسيير رحلات مباشرة بين الدمام والنجف يأتي "نتيجة الجهود المستمرة من مجلس التنسيق السعودي العراقي؛ إذ يحظى تعزيز العلاقات الثنائية مع العراق بدعم من الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده انطلاقا من العلاقات التاريخية بين البلدين والارتقاء بها إلى آفاق جديدة؛ بما يحقق المصالح المشتركة، ويعزز النمو والاستقرار في المنطقة".
ويرى المصطفى أن الرحلات الجوية المباشرة عبر ناقل سعودي "تعبير عن نية الرياض تعزيز الأواصر الشعبية بين المملكة والعراق من خلال رفد السياحة الدينية".
وتضيف رحلات الدمام إلى النجف، خطا جويا جديدا بين البلدين، حيث ترتبط مدن سعودية بالعاصمة بغداد ومدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان شمالي العراق.
ويشير المصطفى إلى أن "هذه العلاقات سوف تتطور مستقبلا" لتتجه إلى آفاق الاقتصاد من خلال الاستثمارات والتبادلات التجارية.
وتابع: "كلما تحسنت الأوضاع الأمنية، والتزمت الأطراف العراقية وتحديدا المسلحة منها بعدم التعرض للمملكة أو الإضرار بمصالحها الاقتصادية والمدنية والعسكرية، ستتطور هذه العلاقات إلى مزيد من التعاون في مجالات أكثر".
وفي هذا السياق، يعتقد الموسوي أن تطور العلاقات بين بغداد والرياض "يصب في مصلحة البلدين".
وبالنسبة لبغداد، فإن العلاقات مع السعودية "تعيد العراق للحاضنة العربية وتعمل على جعله بلدا قويا"، وفقا للموسوي. أما فيما يتعلق بالمملكة، حسبما قال، فإن ذلك "يخفف الضغوط على السعودية فيما يتعلق بعملية تعاملها مع الأقلية الشيعية".