تصدر تحالف "الجبهة الشعبية الجديدة" اليساري، نتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية، في خطوة وصفها مراقبون بـ"المفاجأة"، وأنها قد تؤدي إلى المزيد من الانقسامات داخل الجمعية الوطنية (البرلمان)، خصوصا مع عدم خروج أي أغلبية مطلقة من صناديق الاقتراع.
وأظهرت نتائج التصويت في الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية، الأحد، تصدر تحالف "الجبهة الشعبية الجديدة"، واحتلال معسكر الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، المرتبة الثانية، متقدما على اليمين المتطرف الذي حل ثالثا.
وتأتي هذه النتائج، بعد خطوة وصفت بـ"المقامرة الكبيرة"، حيث قرر الرئيس الفرنسي، الشهر الماضي، حل الجمعية الوطنية والدعوة لانتخابات تشريعية جديدة، إثر الفوز التاريخي لليمين المتطرف الفرنسي في الانتخابات الأوروبية بفارق كبير عن معسكر الغالبية الرئاسية.
وحسب النتائج النهائية لوزارة الداخلية، حصلت "الجبهة الشعبية الجديدة" اليسارية، على 178 مقعدا، ومعسكر ماكرون على 156 مقعدا فقط، و"التجمع الوطني" اليميني بقيادة مارين لوبان وحلفائها على 146 مقعدا.
فيما يأتي بعد ذلك الجمهوريون ومختلف المرشحين اليمينيين، الذين ينسب إليهم 66 مسؤولا منتخبا، و35 نائبا آخرا من أحزاب عدة صغيرة أو مستقلين.
وتثير الانقسامات المرتقبة في البرلمان الفرنسي، وتصدر الجبهة الشعبية الجديدة، المزيد من التساؤلات حول قدرة الجمعية الوطنية (البرلمان)، على اتخاذ القرارات على الصعيدين الداخلي والدولي، خصوصا فيما يتعلق بالمنطقة، والتي يأتي في مقدمتها الحرب في غزة وقضايا الهجرة واللاجئين.
الحرب في غزة
وأدى الهجوم الذي شنته حماس في إسرائيل في السابع من أكتوبر، ثم الحرب الإسرائيلية في غزة إلى تأجيج المشهد السياسي الفرنسي، خلال الأسابيع الماضية، مما جعل معاداة السامية وانتقاد إسرائيل قضيتين رئيسيتين في الانتخابات.
وخلال الحملة الانتخابية، أعربت "الجبهة الشعبية الجديدة" عن عزمها الاعتراف بدولة فلسطينية، ودعم طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في مايو إصدار أوامر اعتقال ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، وقادة من حماس بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة.
ومع ذلك، لا يعتقد المحللون الذين تحدثوا مع موقع "الحرة" أن تتمكن الجبهة بعد تصدرها نتائج الانتخابات من التأثير إلى حد كبير في سياسة فرنسا الخارجية، بما في ذلك الحرب بغزة، حيث يقول الباحث في الفلسفة السياسية في جامعة باريس، رامي الخليفة العلي، إنه "في كل الأحوال لا تؤثر فرنسا بشكل مباشر على القضية الفلسطينية مقارنة بالولايات المتحدة".
ويضيف لموقع "الحرة": "مع ذلك، فإن وجود تيار يساري يدعم القضية الفلسطينية سيمثل ضغطا داخل فرنسا فيما يتعلق بالتعاون مع إسرائيل، ومن المتوقع أن يزداد هذا الضغط في الفترة المقبلة".
لكن هذا لا يعني أنه سيحدث تغيير جذري، وفق العلي، الذي يقول إن "السياسة الخارجية، تبقى من مسؤوليات رئيس الجمهورية وفقا للدستور".
وترى فرنسا أن الوقت الحالي غير مؤات للاعتراف بدولة فلسطينية، إذ قال ماكرون، في مايو الماضي: "أنا على استعداد تام للاعتراف بدولة فلسطينية... ولكن أرى أن هذا الاعتراف يجب أن يأتي في وقت مفيد".

بدوره، يتوقع المحلل السياسي الفرنسي، إيلي حاتم، ألا تتمكن الجبهة الشعبية الجديدة "من المضي قدما في وعودها بشأن القضية الفلسطينية، حيث الانقسامات لا تتوقف فقط على الجمعية الوطنية (البرلمان)، بل حتى من داخل التحالفات الانتخابية نفسها".
ويقول حاتم في اتصال هاتفي مع موقع "الحرة" إن تحالف "الجبهة الشعبية الجديدة" اليساري، يجمع 4 أحزاب لدى كل منها أجندات تختلف عن بعضها البعض.
ويضيف: "حزب فرنسا الأبية بزعامة جان لوك ميلينشون يدافع عن القضية الفلسطينية، لكنه على عكس مواقف الفريق الثاني من اليسار، مثل الاشتراكيين، الذين يتبنون مواقف غالبية الأحزاب التي تسيطر عليها اللوبيات الصهيونية".
والجبهة الشعبية الجديدة (le Nouveau Front populaire) هي تحالف يضم 4 أحزاب يسارية؛ الحزب الاشتراكي (PS)، والحزب الشيوعي الفرنسي (PCF)، وحزب فرنسا الأبية (LFI)، وحزب البيئة الأوروبية (Les Verts)، حيث شُكل على عجل في اليوم التالي لحل الجمعية الوطنية على يد الرئيس الفرنسي في التاسع من يونيو الماضي.
ومع ذلك، يقول حاتم إن "كل شيء يعتمد على الحكومة الجديدة. إذا لم يكن هناك سيطرة لحزب فرنسا الأبية على الجبهة الشعبية الجديدة، فمن الصعب أن يكون هناك اعتراف بدولة فلسطينية كما وعد ميلينشون".
وانتقد حزب "فرنسا الأبية" بقيادة ميلينشون، الذي يعتبره منتقدوه متطرفا، إسرائيل بشدة، ما أثار اتهامات من حكومة ماكرون بأن خطابه يؤدي إلى زيادة حادة في الأعمال المعادية للسامية في فرنسا.
قضايا المهاجرين
وتأتي قضايا المهاجرين على رأس أولويات الأحزاب والتحالفات الانتخابية في فرنسا، حيث حملت الرسائل الأساسية خلال الحملات الانتخابية، تعهدات بوقف تدفق المهاجرين.
ويعتبر حاتم أن قضية المهاجرين "لا يوجد بشأنها اختلافات كبيرة بين التحالفات السياسية، حيث تواجه فرنسا مشكلة كبيرة مع المهاجرين، مثل الدول الأخرى في الاتحاد الأوروبي".
ويقول: "قضية الهجرة ليست قضية تخص التجمع الوطني فقط الرافض لها، بل حتى اليسار الفرنسي يصعب عليه اتخاذ إجراءات تتعارض مع الرأي العام السائد".
في المقابل، يقول عضو التجمع الوطني السابق، فريد سماحي، إن "اليسار ومعسكر الرئيس ماكرون متسامحون مع تدفق المهاجرين بشكل كبير إلى البلاد، ولن يتخذوا الإجراءات اللازمة للحد من هذا الأمر".
ويضيف سماحي لموقع "الحرة": "ماكرون استغل المهاجرين، في نداء غير مباشر للمشاركة في الانتخابات من أجل إقصاء التجمع الوطني، وذلك من خلال تصريحات لاعب كرة القدم كيليان مبابي".
ويتابع: "العديد من المهاجرين يحصلون على أموال الفرنسيين الفقراء الذين يعملون ويدفعون لهم المساعدات الاجتماعية".
وخلال الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية التي تصدر فيها اليمين المتطرف، أعرب المهاجرون في فرنسا، وفق وكالة فرانس برس، عن "حزنهم ومخاوفهم"، ومن بينهم مبابي، الذي شدد في تصريحات على أنه "من الملح جدا" التصويت في الجولة الثانية بعد النتائج "الكارثية" للجولة الأولى، دون أن يسمي صراحة التجمع الوطني.
وهاجمت زعيمة حزب التجمع الوطني، قائد المنتخب الفرنسي لكرة القدم، الأسبوع الماضي، بعد حديثه عن نتائج الانتخابات، حيث رفضت لوبان خلال مقابلة مع شبكة "سي أن أن"، تصريحات مبابي، وقالت إنه "ليس ممثلا (للمهاجرين)".
بدوره، يعتبر العلي أن "وجود اليسار في السلطة سيكون له تأثير ملموس على قضية المهاجرين، حيث من المحتمل أن يقلل من الخطاب العنصري ويسعى لتغيير قوانين الهجرة لصالحهم".
ومع ذلك، فإن التحديات تتمثل في الانقسامات السياسية التي نشأت بعد الانتخابات، مما يقلل من القدرة على تحقيق تأثير كبير ومستمر في هذا المجال، حسب العلي، والذي يشير إلى أن "التغييرات في قوانين الهجرة تتطلب موافقة واسعة داخل الحكومة والبرلمان".
ويختتم العلي حديثه بالقول: "النقاشات السياسية والانقسامات الداخلية قد تقيد قدرة ماكرون على تحقيق تغييرات جذرية في السياسات المتعلقة بالقضايا الخارجية والهجرة".