بدأ العمل بسد النهضة في عام 2011 بتكلفة 4 مليارات دولار
بدأ العمل بسد النهضة في عام 2011 بتكلفة 4 مليارات دولار

وسط "صمت رسمي مصري سوداني"، أعلنت إثيوبيا، الثلاثاء الماضي، انتهاء أعمال البناء الخرساني لسد النهضة، والانتقال لمرحلة التشغيل.

ويطرح ذلك تساؤلات حول الإعلان الإثيوبي، وصمت القاهرة والخرطوم، وعلاقة تلك التطورات بالتحركات العسكرية المصرية في الصومال مؤخرا.

ماذا يعني الإعلان الإثيوبي؟

بدأ العمل بسد النهضة في عام 2011 بتكلفة 4 مليارات دولار، وهو يعد أكبر سد للطاقة الكهرومائية في أفريقيا، إذ يبلغ عرضه 1.8 كيلومتر وارتفاعه 145 مترا.

وتتوقع إثيوبيا أن ينتج عندما يعمل بكامل طاقته 5000 ميغاواط، وهو ضعف الإنتاج الحالي للبلاد، مع سعة تخزين إجمالية تبلغ 74 مليار متر مكعب.

ويوضح أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة، عباس شراقي، أن الإعلان الإثيوبي يعني "انتهاء أعمال البناء السد الخرسانية بنسبة 99.5 بالمئة، بينما البحيرة الخاصة بالسد مكتملة من ناحية تخزين المياه".

وسوف تكمل إثيوبيا التخزين "النهائي" للمياه حتى الأسبوع الثاني من سبتمبر، وبالتالي يكون "السد اكتمل نهائيا" بسعة تفوق الـ 64 مليار متر مكعب، وفق حديثه لموقع "الحرة".

ومن جانبه، يوضح الكاتب والمحلل السياسي الإثيوبي، عبد الشكور عبد الصمد حسن، أن حديث إثيوبيا عن انتهاء أعمال بناء سد النهضة والانتقال لمرحلة التشغيل أمر "واقع وحقيقي".

والسد في التعبئة الثالثة تمكن من حجز أكثر من 60 مليار متر مكعب قبل الوقت المفترض بسبب طول موسم الأمطار الذي بدأ مبكرا وبكمية فوق المتوسط، ما سمح باحتجاز هذه الكمية، وفق حديثه لموقع "الحرة".

وفي سياق متصل، يشير النائب بالبرلمان الإثيوبي، محمد العروسي، إلى أن "إثيوبيا حققت نجاحا منقطع النظير بعد الانتهاء من أعمال بناء سد النهضة".

ويعني ذلك الإعلان الإثيوبي بطلان "الادعاءات الكاذبة" التي صاحبت المشروع وتوقعت فشله، وفق حديثه لموقع "الحرة".

ويشدد على أن السد هدفه التنمية وتحقيق النهضة للدولة الإثيوبية وإخراجها من الفقر، وتوليد الطاقة لشريحة واسعة من الشعب الإثيوبي تعيش بلا كهرباء في ظل وفرة المياه والأمطار "التي تكفي الجميع".

ماذا بعد "انتهاء أعمال البناء"؟

أعلنت إثيوبيا، أنها قامت بتشغيل توربينين جديدين على سد النهضة الكبير ما يتيح لها مضاعفة إنتاجها من الكهرباء بفضل هذا السد الضخم الذي بنته على نهر النيل وشكل مصدرا للتوتر مع جيرانها، وخصوصا مصر.

وأوضحت الهيئة المسؤولة عن تشغيل السد أن "التوربينين اللذين يولدان 400 ميغاواط لكل منهما بدأ تشغيلهما الآن، بالإضافة إلى توربينين يولدان 375 ميغاواط لكل منهما، ليرتفع إجمالي الإنتاج إلى 1550 ميغاواط".

وقالت الهيئة إن "مفيضات السد تصرف 2800 متر مكعب في الثانية من المياه الإضافية باتجاه دول المصب".

وتم تشغيل أول توربينين، من إجمالي 13 توربينا من المخطط أن توضع على السد، في فبراير وأغسطس 2022.

ومن جانبه، يشير شراقي إلى أنه في حال عمل 4 توربينات وتشغيلها سيتم "تمرير كمية من المياه" سيصل جزء منها إلى مصر على مدار شهور.

ولكن إذا كان تشغيل التوربينات "ضعيف" فعلى إثيوبيا "تفريغ المياه مرة أخرى"، قبل موسم المطر القادم في مايو 2025، وإلا سوف "ينهار سد النهضة"، حسبما يوضح أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية.

ويؤكد شراقي أن "الهدف الرئيس من سد النهضة هو توليد الكهرباء عبر 13 توربينا، بينما تم تركيب 4 توربينات فقط بالسد حتى الآن".

وتركيب باقي التوربينات قد يستغرق سنوات، ولكن إذا استطاعت إثيوبيا توليد الكهرباء خلال الشهور القادمة، فسيكون ذلك فائدة لهم وستصل مياه لمصر، ولكن إذا لم يحدث ذلك فعليها "فتح البوابات" قبل موسم الأمطار القادم، لتفريغ المياه بالبحيرة، وفق أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية.

ما وراء "الصمت الرسمي المصري"؟

تعتبر مصر سد النهضة تهديدا وجوديا وتؤكد على حقها التاريخي في مياه النيل إذ تعتمد عليه في 97 في المئة من احتياجاتها المائية، وخلال الأعوام الأربعة الماضية كانت القاهرة تصدر بيانات تطالب أديس أبابا بالعودة للتفاوض والتوصل إلى حل توافقي.

لكن القاهرة التزمت رسميا "الصمت" بعد الإعلان الإثيوبي عن اكتمال أعمال بناء سد النهضة والانتقال لمرحلة التشغيل، وقبل ذلك على الملء الخامس للسد.

وحاول موقع "الحرة" التواصل مع وزير الخارجية المصري، بدر عبد العاطي، والمتحدث باسم الوزارة، أحمد أبوزيد، ووزير الري المصري، هاني سويلم، دون الحصول على رد.

ومن جانبه، يرجع مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، عماد جاد، "الصمت الرسمي المصري" إلى أن مصر أخطأت من البداية بتوقيعها "إعلان المبادئ".

ووقعت مصر "إعلان المبادئ" الذي مكن إثيوبيا من الحصول على تمويلات كافية لبناء السد، لكن القاهرة لم تحصل على "ضمانات كافية" حول التفاوض والوساطة والتحكيم الدولي في حالة الخلاف، وفق حديثه لموقع "الحرة".

وتقوم إثيوبيا ومصر والسودان بتسوية منازعاتهم الناشئة عن تفسير أو تطبيق اتفاق إعلان المبادئ، بالتوافق من خلال المشاورات أو التفاوض وفقا لمبدأ حسن النوايا.

وإذا لم تنجح الأطراف في حل الخلاف من خلال المشاورات أو المفاوضات، فيمكن لهم مجتمعين طلب التوفيق، الوساطة أو إحالة الأمر لعناية رؤساء الدول/رئيس الحكومة، وفق المادة العاشرة من "إعلان المبادئ بخصوص سد النهضة" الموقع في 23 مارس 2015.

ويشير جاد إلى أن "مصر احتجت واعترضت ورفضت أكثر من مرة عند كل ملء لسد النهضة، حتى باتت أمام (أمر واقع) باكتمال بناء السد".

ومن جانبه، يرى الباحث بشؤون الشرق الأوسط، فادي عيد، أن مصر "التزمت الصمت الرسمي"، لكنها ردت بشكل فعلي على أرض الواقع بإرسال "معدات عسكرية وأسلحة مصرية إلى الصومال".

وإرسال الأسلحة والمعدات العسكرية المصرية بمثابة رسالة مباشرة لإثيوبيا، بأن "مصر موجودة على الحدود الإثيوبية، وفي حال الإضرار بمصالحها، فهي جاهزة للرد"، وفق حديثه لموقع "الحرة".

وأرسلت مصر "طائرتين عسكريتين إلى الصومال، محملتين بأسلحة وذخيرة"، بعدما وقعت في وقت سابق من هذا الشهر، بروتوكول "تعاون عسكري" مع مقديشو، لكن القاهرة "لم تدل بتعليق علني"، بهذا الشأن.

وتعززت العلاقات بين مصر والصومال هذا العام بعد أن وقعت إثيوبيا اتفاقا مبدئيا مع منطقة أرض الصومال الانفصالية لاستئجار منفذ ساحلي مقابل اعتراف محتمل باستقلالها عن الصومال.

ووصفت حكومة مقديشو الاتفاق بأنه تعد على سيادتها وقالت إنها ستعرقله بكل الطرق الممكنة، بينما القاهرة على خلاف مع أديس أبابا منذ سنوات بسبب بناء إثيوبيا لسد النهضة.

ما موقف السودان؟

في السنوات الأخيرة "تقلبت" موقف السودان تجاه سد النهضة، فقد احتج على المشروع سابقا وقال إنه يهدد إمداداته من مياه النيل.

وفي يناير 2023، قال قائد الجيش السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، إنه وافق "على جميع النقاط" مع رئيس الوزراء الإثيوبي، أبيي أحمد، بشأن السد.

ولكن السودان شهد بعدها حربا أهلية ما زالت مستعرة، ولم يعلق رسميا على الإعلان الإثيوبي.

ومن جانبه، يشير الخبير الاستراتيجي السوداني، اللواء أمين مجذوب، إلى أن إثيوبيا "تستغل الظرف الذي تمر به السودان"، لاستكمال بناء سد النهضة دون وجود "أي اتفاق رسمي ملزم".

و"الخلاف" بين السودان ومصر وإثيوبيا حول سد النهضة قد خرج من "العباءة الفنية إلى السياسية"، وموقف الخرطوم "قريب من الموقف المصري"، ويطالب بـ"اتفاق ملزم وتبادل المعلومات بشأن تشغيل السد"، وفق حديثه لموقع "الحرة".

ما التأثير  المتوقع على مصر والسودان؟

يشدد شراقي على أن "نهر النيل بمثابة شريان حياة للمصريين، ولا يجوز لإثيوبيا التصرف بشأنه وكأنه نهر إثيوبي".

وحصة مصر من مياه النيل "تأثرت وتضررت" بالفعل بتخزين إثيوبيا 23 مليار متر مكعب بسد النهضة هذا العام، ما يمثل "نصف الحصة المصرية"، وفق أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية.

ولولا وجود السد العالي لكانت "الأضرار على مصر أكبر بكثير، ولم يجد المصريون وقتها مياه للشرب أو الزراعة"، حسبما يضيف شراقي.

وتسبب سد النهضة بالفعل في "خسائر اقتصادية لمصر"، بعدما اضطرت لمعالجة مياه الصرف الزراعي وتدشين مئات المحطات من أجل ذلك، بينما معالجة المليار متر مكعب منها يكلف الدولة 15 مليار جنيه، وفق أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية.

وفي سياق متصل، يشير مجذوب إلى أن "تصريف المياه لتوليد الكهرباء مشكلة كبيرة جدا، ويؤثر على الأمن المائي لمصر والسودان".

وسيكون لسد النهضة "تأثير موسمي" على السودان، وعندما ينتهي موسم الفيضان سيكون هناك "استقرار في تدفقات المياه" بكميات قليلة، وفق الخبير الاستراتيجي السوداني.

ويتحدث عن أهمية وجود "تأمين وإجراءات احترازية تجنبا لحدوث أي انهيارات للسد في المستقبل".

وسوف يؤثر السد على "حصص مصر من المياه"، ما يعني تضرر الزراعة وربما المشاريع التي قامت بها مصر خلال السنوات الماضية، حسبما يوضح مجذوب.

لكن على جانب آخر، يؤكد العروسي أن "التنمية" هي هدف إثيوبيا الحقيقي من بناء سد النهضة وليس "الإضرار بمصر والسودان بحبس المياه وقطعها عنهم وتعريضهم للغرق والعطش".

وسد النهضة لن يؤثر على مصر والسودان لكنه "ينظم عملية تدفق المياه، ويخفف من وطأة الفيضانات المدمرة على السودان، ويطيل عمر السد العالي بتخفيف الضغط المائي عليه"، حسبما يؤكد النائب البرلماني الإثيوبي.

وفي سياق متصل، يؤكد حسن أن تشغل سد النهضة لن يكون له "تأثير يذكر" على السودان ومصر،

ويتحدث عن "صحة الموقف الإثيوبي، وعدم صحة الادعاءات التي تحدث عنها الأشقاء في مصر"، على حد تعبيره.

تصعيد بمنطقة "القرن الأفريقي"؟

أثار النزاع بين مقديشو وأديس أبابا مخاوف كبرى بشأن استقرار منطقة القرن الأفريقي وقد دعت دول ومنظمات دولية عدة إلى احترام سيادة الصومال.

وتعززت تلك المخاوف بعد إرسال القاهرة مساعدات عسكرية إلى البلد الغارق في الفوضى بسبب هجمات حركة الشباب "المصنفة إرهابية لدى الولايات المتحدة ودول أخرى"، وسط تحذير إثيوبي من "تفاقم التوترات في القرن الأفريقي".

ووصف سفير الصومال في مصر، علي عبدي، شحنة المعدات العسكرية التي أرسلتها القاهرة إلى بلاده بأنها "كبيرة"، دون مزيد من التفاصيل.

وبحسب بيان نشرته وسائل إعلام محلية، فإن مصر ستكون أول دولة تنشر قوات في الصومال بعد انسحاب البعثة الإفريقية الحالية "أتميس".

ومن جانبه، لا يتوقع العروسي "أي تصعيد من مصر أو السودان تجاه إثيوبيا".

ويقول:" لا توجد أي حاجة أو داعي لذلك، وفي كل الأحوال إثيوبيا مشغولة بالتنمية".

والتصعيد لن يخدم أي طرف، والحل الأمثل هو "التعاون والقبول بالأمر الواقع، والتنمية والنهضة لإثيوبيا ودول الجوار"، وفق النائب البرلماني الإثيوبي.

ويتفق معه حسن الذي يؤكد "عدم وجود سبيل لحل الأزمة سوي بالعودة لاستكمال المفاوضات من حيث توقفت وصولا لاتفاقية ترضى جميع الأطراف ويكون الكل كاسبا ومستفيدا".

ويرى المحلل السياسي الإثيوبي أن "السياسة المصرية قائمة على رده فعل فيما يتعلق بإثيوبيا".

وإرسال مصر لمعدات عسكرية للصومال هو ردة فعل لـ"موضوع سد النهضة، وتوقيع جنوب السودان اتفاقية عنتيبي، وتوقيع مذكرة التفاهم بين إثيوبيا و(أرض الصومال)"، وفق حسن.

وفي 8 يوليو صادقت دولة جنوب السودان على اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل، المعروفة إعلاميا باسم "اتفاقية عنتيبي".

وفي 14 مايو 2010 وقعت دول إثيوبيا وتنزانيا وأوغندا ورواندا على اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل، ثم انضمت كينيا وبوروندي إلى الاتفاقية لاحقا.

وتعارض مصر والسودان اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل، وتتمسكان باتفاقيات 1902 و1929 و1959 التي ترفض الإضرار بدول المصب، كما تقر نسبة 55.5 مليار متر مكعب من مياه النيل لمصر، ونسبة 18.5 مليار متر مكعب للسودان.

وفي الوقت ذاته يستعبد حسن حدوث "أي تصعيد بمنطقة القرن الأفريقي خلال الفترة القادمة".

ويشير المحلل السياسي الإثيوبي إلى أن "كل ما عدا (التفاوض) هو مضيعة للوقت والجهد والمال".

لكنه يقول أيضا:" إذا حدث أي أمر فإثيوبيا مستعدة لاتخاذ الخطوات المناسبة".

ومن جهته، يرى مجذوب أن "الردود القانونية والشكاوى للجهات الأممية هي الطريقة الوحيدة المتاحة لحل الأزمة، وكذلك العودة للتفاوض بين إثيوبيا ومصر والسودان".

وفيما يتعلق بـ"سيناريوهات الرد العنيف، فهي غير متوفر، لأن المنطقة مشتعلة بالفعل"، حسبما يشير الخبير الاستراتيجي السوداني.

وتوجد حرب دائرة حاليا السودان وفيها ما يكفيها، ومصر تدخل في مشروعات اقتصادية كبيرة وبالتالي "أي عمل عسكري" سيؤثر عليها بشكل كبير، حسبما يوضح مجذوب.

وعلى جانب آخر، لا يستعبد عيد حدوث "تصعيد" بمنطقة القرن الأفريقي، باعتبار سد النهضة "مسألة تهدد الأمن القومي المصري".

والتحرك المصري الأخير في الصومال، قد يقابله "رد فعل من إثيوبيا"، والأيام القادمة سوف تكشف مدى احتمالية وقوع "تصعيد" بين الجانبين، وفق الباحث بشؤون الشرق الأوسط.

الأيغور في الصين

لا تعمل مضخة وقود في شينجيانغ، ما لم يقف الأويغوري، أمام كاميرات التعرف على الوجه في المحطة.

وإذا أراد الدخول إلى سوق، فليس أمامه إلا النفاذ عبر أجهزة الكشف عن المعادن، وأدوات التحقق من الهويات، وكاميرات التعرف على الوجه، كذلك، قبل أن يؤذن له بالدخل للتبضع.

"أن تكون إويغوريا يعني أن تعيش في كابوس دائم،" يقول مايكل سوبوليك، الباحث المتخصص في الشأن الصيني، لموقع "الحرة".

في شينجيانغ، موطن أقلية الأويغور المسلمة غربي الصين، تنتشر كاميرات المراقبة في كل مكان، بينما تتربص نقاط التفتيش الأمنية بالمارة عند كل منعطف: أين هاتفك الشخصي؟

وتقول منظمات حقوقية دولية إن بكين رسخت، على مدى عقد من الزمن أحد أكثر أنظمة المراقبة الرقمية شمولية في العالم، وحولت 13 مليون أويغوري إلى مختبر حي لإدوات المراقبة المعززة بالذكاء الاصطناعي. 

والأخطر أن نموذج القمع الرقمي الصيني هذا، يمكن أن يُحتذى في أي مكان في العالم، بل أن دعوى قضائية، تجري فصولها في باريس حاليا، تشير إلى تطبيقات للنظام في دول عدة.

محكمة في باريس

في قاعة محكمة في باريس، يغلي على نار هادئة، منذ أسابيع، صراع قانوني قد يكون غير مسبوق، لمحاسبة شركات تكنولوجيا صينية على جرائم ضد الإنسانية.

يقود القضية، باسم "المؤتمر العالمي للإيغور"،  المحامي الفرنسي، الشهير في مجال حقوق الإنسان، ويليام بوردون. والمتهمون فيها فروع فرنسية لثلاث من عمالقة التكنولوجيا الصينية: هواوي، وهايكفيجن، وداهوا.

 التهمة: التواطؤ في إبادة جماعية.

تؤكد الدعوى على أن الشركات العملاقة تلك ساعدت في بناء دولة رقابة شاملة في إقليم شينجيانغ، حيث أن أنظمة التعرف على الوجوه وتقنيات الذكاء الاصطناعي لا تراقب فقط، إنها مدربة لاستهداف الأويغور على أساس عرقي.

ووفقا لـ"المؤتمر العالمي للإيغور"، لم تكن هذه الأنظمة مجرد أدوات مراقبة، بل وسائل للاعتقال والتعذيب والسيطرة، تغذي واحدة من أوسع شبكات القمع الرقمي في العالم.

ولا تقتصر الدعوى على استخدام القمع الرقمي داخل حدود الصين، بل تتضمن الإشارة إلى استخدام هذه الأنظمة في مناطق صراع أخرى مثل أوكرانيا، وفي مشاريع مراقبة في الإكوادور وصربيا.

ويقول ريتشارد ويتز، مدير مركز التحليل السياسي-العسكري في معهد هدسون، في حديث مع موقع "الحرة" إن أنظمة المراقبة هذه أصبحت متاحة على نطاق واسع لحكومات أجنبية ترغب في تقليد النموذج الصيني.

"يبدو أن هناك عددا من الدول في إفريقيا وآسيا، وربما بعض الدول الأوروبية، لكنها تتركز بشكل أساسي في إفريقيا وآسيا، وربما أميركا اللاتينية أيضا، تشتري هذه الأنظمة من الصين".

"لكن المشكلة،" يتابع ويتز، "أن الصينيين، على ما يبدو، يقومون بجمع هذه البيانات لأنفسهم أيضا".

خوارزمية الشرطة التنبؤية

منذ نحو عشرة أعوام يتعرض الشعب الأويغوري لرقابة مشددة، مصحوبة باعتقالات جماعية تعسفية، ومعسكرات تلقين أيدولوجي قسرية، وقيود على التنقل والعمل والطقوس الدينية.

فبعد إعلان بكين "حرب الشعب على الإرهاب" في 2014، وسعت السلطات الصينية بشكل كبير نطاق استخدام الشرطة للتكنولوجية المتقدمة في مناطق الأويغور.

وفي عهد سكرتير الحزب الشيوعي في تشينجيانغ، تشن كوانغو الذي يوصف بـ"المتشدد"، شهدت مناطق الأويغور فورة في إنشاء مراكز الشرطة، وبات لا يفصل بين مركز وآخر أكثر من 500 متر.

ارتفع الإنفاق الأمني، وزادت عمليات التوظيف في مجال الأمن العام بشكل هائل. ووجدت تقارير أن شينجيانغ توظف 40 ضعفا من رجال الشرطة لكل فرد مقارنة بمقاطعة غوانغدونغ الجنوبية المكتظة بالسكان.

في الوقت ذاته، أطلقت بكين منصات شرطة تعمل بالخوارزميات التنبؤية. ويقوم تطبيق يُسمى "منصة العمليات المشتركة المتكاملة (IJOP)" بتجميع البيانات الشخصية من مصادر متعددة: كاميرات المراقبة، وأجهزة تتبع شبكات الواي فاي والهواتف الشخصية، والسجلات المصرفية، وحتى سجلات الصحة والسفر، لتحديد الأشخاص الذين تعتبرهم السلطات تهديدا محتملا.

ووفقا لهيومن رايتس ووتش، أوعز برنامج "الشرطة التنبؤية" هذا باعتقالات عشوائية للأويغور من دون أن يكون هناك أي مؤشر على وجود تصرف مخالف للقانون.

من شأن الحجاب وحده أن يُفعّل الخوارزمية لتصنيف شخص ما كـ"خطر أمني". وغالبا ما تعتقل السلطات الأشخاص الذين الذين يستهدفهم نظام البيانات هذا، وترسلهم إلى معسكرات التلقين من دون تهمة أو محاكمة.

"إذا كنت مواطنا صينيا وتعيش في الصين، فإن حياتك تُدار من خلال تطبيقات تسيطر عليها في النهاية الحكومة الصينية، وتحديدا الحزب الشيوعي الصيني،" يقول سوبوليك، وهو زميل أقدم في معهد هدسون.

"خذ مثلا تطبيق "وي تشات" (WeChat) الذي يُسمى بـ"تطبيق كل شيء"، سواء كان لطلب الطعام، أو لمراسلة العائلة، أو لاستخدام محرك بحث، أو للنشر على شبكات التواصل الاجتماعي. إنه تطبيق يتغلغل في كل شيء".

وهو أيضا تطبيق يستخدمه الحزب الشيوعي الصيني لتتبع ومراقبة اتصالات المواطنين، يضيف.

ويقول سكان أويغور إن السلطات الصينية تعاملهم دائما بريبة. "إذا بدا عليك أنك من أقلية عرقية، فسيخضونك للتفتيش. أشعر  بالإهانة"، تنقل هيومان رايتس ووتش حديث أحد مستخدمي الإنترنت الأويغور عن عمليات التفتيش الأمنية التي لا تنتهي.

ويعتقد ويتز أن حقوق الأويغور "تُنتهك بطرق عديدة" ونظام المراقبة باستخدام الذكاء الاصطناعي "واحدة منها".

شينجيانغ - رمضان الماضي 

بينما ينشغل العالم عن إقليم شينجيانغ بقضايا دولية أخرى، تواصل الصين حملتها لدمج الأويغور قسريا. 

في شهر رمضان، أجبرت السلطات الصينية الأويغور على تصوير أنفسهم وهم يتناولون الغداء وإرسال اللقطات إلى كوادر الحزب الحاكم، في مسعى لمنع ما تصفه السلطات بـ"التطرف الديني". 

و أُجبر كثيرون على العمل خلال ساعات النهار، واحتُجز الذين رفضوا العمل من 7 إلى 10 أيام، أو أرسلوا إلى "المعسكرات"، بحسب ما أفاد به شرطي محلي راديو "آسيا الحرة"، مارس الماضي.

أزمة أخلاقية

لا تزال قضية العمل القسري في السجون بمثابة أزمة أخلاقية كبيرة على المستوى الدولي، في حين تواصل واشنطن مساعيها للتخفيف من معاناة الأويغور بقوانين وإجراءات تستهدف شركات صينية متورطة في جرائم ضد الإنسانية.

ويصف ريتشارد ويتز، مدير مركز التحليل السياسي-العسكري في معهد هدسون، الجهود الأميركية ودول أخرى، في هذا الشأن، بأنها "أكثر نجاحا" مقارنة بالدور الأوروبي في مواجهة الانتهاكات الصينية لحقوق الإويغور. 

ويشير ويتز إلى إلى أن إدارة الرئيس دونالد ترامب وإدارة جو بايدن قبله شجعتا الحكومات الأوروبية وغيرها على عدم شراء التكنولوجيا الصينية، خاصة تلك التي يمكن أن تُستخدم لجمع بيانات عن الشركات المحلية أو السكان".

وفي أوائل مايو الحالي، أقر مجلس النواب الأميركي قانون "لا دولارات للعمل القسري للأويغور". 

يحظر القانون على وزارة الخارجية ووكالة التنمية الدولية الأميركية (USAID) تمويل أي برامج تشمل بضائع مُنتجة في إقليم شينجيانغ الصيني أو من طرف كيانات مرتبطة بالعمل القسري المفروض على الأويغور. 

ويُلزم المشروع الجهات المتعاقدة بتقديم ضمانات خطية بعدم استخدام مثل تلك المنتجات. ويفرض أيضا تقديم تقارير سنوية حول الانتهاكات والتحديات في تنفيذ القانون. ويسمح باستثناءات مشروطة بإشعار الكونغرس بشكل مسبق.

ويعزز القانون الجهود الأميركية في التصدي لقمع الصين للإيغور عبر الضغط الاقتصادي والدبلوماسي.

وفي يناير الماضي، وسعت وزارة الأمن الداخلي الأميركية بشكل كبير "قائمة الكيانات" المشمولة بقانون منع العمل القسري للإيغور. واستهدفت الوزارة شركات صينية متورطة في العمل القسري في شينجيانغ.

وبين عامي 2024 و2025، قامت شركات في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا بإدراج شركات صينية عديدة على القوائم السوداء، في قطاعات تشمل الزراعة، وألواح الطاقة الشمسية، والمنسوجات.

إضافة إلى ذلك، "ركزت واشنطن أحيانا على تطوير تكنولوجيا مضادة تتيح للإيغور وغيرهم التحايل على أنظمة المراقبة،" وفقا لويتز.

ويلفت سوبوليك إلى أن إنشاء دولة المراقبة داخل الصين يعود إلى ثمانينيات أو تسعينيات القرن الماضي، و"بمساعدة دول غربية".

لكنهم تمكنوا من تطوير هذه "التكنولوجيا الديستوبية (المرعبة) ، واستخدامها على شعبهم وعلى الأويغور بشكل خاص، يضيف.

براءات الاختراع

وراء الكواليس، تتعاون بكين مع شركات خاصة لتطوير أنظمة ذكاء اصطناعي لتحديد هوية الأشخاص استنادا إلى العرق. وتقول رويترز إن براءات الاختراع والوثائق التي كُشف عنها خلال السنوات الماضية، تُظهر أن شركات التكنولوجيا الصينية ابتكرت خوارزميات لتحديد وجوه الأويغور بين الحشود.

وتنقل الوكالة عن أحد الباحثين تحذيره من هناك خروقات جسيمة ترتكب ضد حقوق الإنسان. "تتيح هذه التقنيات للشرطة الاطلاع على قاعدة بيانات ضخمة من الوجوه، وتحديد الوجوه التي صنّفها الذكاء الاصطناعي على أنها أويغورية،" يقول.

أنشأت بكين قاعدة بيانات ضخمة من البيانات البيومترية الخاصة بسكان شينجيانغ. وتحت ستار الفحوصات الطبية المجانية، أُجبر السكان، وفقا لصحيفة الغارديان البريطانية، وخاصة الأقليات المسلمة، على تزويد الشرطة بعينات من الحمض النووي، ومسح قزحية العين، وبصمات الأصابع، وتسجيلات صوتية.

بهذا الكم الهائل من المعلومات البيومترية الشخصية، إلى جانب شبكات كاميرات الذكاء الاصطناعي وتطبيقات مراقبة الهواتف الذكية، أنشأت الصين نظام مراقبة، أورويلي الطابع. بل أن جورج أورويل نفسه ليصاب بالرعب إزاء دستوبيا حقيقية يعيش في أتونها بشر حقيقيون، وليس مجرد شخصيات خيالية.

يوصف نظام المراقبة في شينغيانع عموما بأنه "دولة بوليسية رقمية"، ويعد بمثابة برنامج تجريبي، تختبره بكين على الأويغور قبل توسيع نطاقه في أماكن أخرى حول العالم.

مثل شخصيات أورويل في روايته "1984"، يعيش حوالي 13 مليون  أويغوري وغيرهم من المسلمين الأتراك في شينجيانغ، حالة خوف مستمرة تحت شبكة أمنية عالية التقنية. 

يعلم الناس أن كل حركة تقريبا تخضع للمراقبة. ذهابك إلى المسجد، الأشخاص الذي تتواصل معهم، ما تقرأه، وحتى طريقة لباسك، يتم باستمرار تقييمها بواسطة الخوارزميات. 

يتجنب كثيرون في تشينجيانغ تبادل العبارات الدينية  أو ذات الصبغة الثقافية الخاصة. فتواصلك مع الأقارب في الخارج، أو امتلاكك سجادة صلاة، أو مشاركتك آية قرآنية على وسائل التواصل الاجتماعي، قد تنتهي بك إلى السجن. 

يقول أويغور أنهم "يخافون من الصلاة أو حتى ارتداء الملابس التقليدية" في منازلهم، لأنهم يعلمون أن عيون الدولة وآذانها في كل مكان، والعواقب وخيمة.

منذ عام 2017، نفذت السلطات الصينية حملات اعتقال جماعي في شينجيانغ. واحتجزت  أكثر من مليون من الأويغور والأقليات المسلمة الأخرى في شبكة من معسكرات الاعتقال والسجون، وفقا لتقديرات نقلتها الأمم المتحدة، وفقا لرويترز. 

أُرسل كثيرون إلى المعسكرات ليس لارتكابهم أي جريمة، بل لأن أنظمة الرقابة الآلية وضعتهم على قائمة "غير موالين محتملين" بسبب بصمتهم الرقمية.

داخل معسكرات التلقين، التي تسميها بكين "مراكز التدريب المهني،" نقل معتقلون سابقون عن تعرضهم للتعذيب والتلقين السياسي والإجبار على التخلي عن دينهم. 

تمزقت أوصال عائلات: يختفي البالغون في معسكرات سرية بينما يُوضع الأطفال في مؤسسات حكومية، في سعي السلطات لمحو هوية الأويغور. حتى غير المعتقلين يعيشون تحت نوع من الإقامة الجبرية المؤقتة. 

يسرد تقرير للغاردينان قصة رجل أويغوري عاد إلى شينجيانغ من الدراسة في الخارج، فوصف على الفور بأنه "خطر" لمغادرته البلاد؛ اعتقلته الشرطة في المطار، وأجبرته على الخضوع لـ"فحص صحي" بيومتري، واقتادته إلى مركز احتجاز.

أُلقي القبض على آخرين لمجرد أن أحد أقاربهم في الخارج، أو لأن هواتفهم تحمل محتوى إسلاميا.

تقول منظمات حقوقية دولية إن المراقبة الشاملة تُغذي منظومة انتهاكات أوسع نطاقا. في تقرير صدر في أغسطس 2022، خلصت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان إلى أن ممارسات الصين الرقابية في شينجيانغ "قد تُشكل جرائم دولية، لا سيما جرائم ضد الإنسانية".

وقد وثّقت هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية أدلة على الاعتقال الجماعي والتعذيب والاضطهاد الثقافي والعمل القسري في المنطقة، والتي تُسهّلها البنية التحتية المتطورة للمراقبة، مما يجعل من شبه المستحيل على الأويغور التهرب من سيطرة الدولة.

باختصار، أصبحت شينجيانغ سجنًا مفتوحًا حيث تُحاصر مجموعة عرقية بأكملها بالوسائل الرقمية. الخسائر البشرية فادحة: تدمير الخصوصية، وتجريم المعتقد والثقافة، وتعطيل أو تدمير حياة ملايين الأشخاص. 

"لقد بنت الصين في شينجيانغ ديستوبيا مدفوعة بالمراقبة، وهي نموذج للقمع يجب على العالم مواجهته على وجه السرعة"، قالت صوفي ريتشاردسون من هيومن رايتس ووتش: (هيومن رايتس ووتش، ٢٠٢٣). 

شركات القمع التكنولوجي

تؤكد تقارير أن اعتماد بكين على نخبة من الشركات الصينية العملاقة في مجال تكنولوجيا الأمن في توفير الأجهزة والبرمجيات التي تشغل دولة شينجيانغ البوليسية.

هيكفيجن وداهوا وهواوي وهي من أكبر شركات صناعة كاميرات المراقبة في العالم.

فازت هيكفيجن وداهوا بعقود ضخمة لتزويد شينجيانغ بكاميرات مراقبة وأنظمة تعرف على الوجه. 

وتُظهر أبحاث استندت إلى وثائق شرطة مسربة أن كاميرات هيكفيجن جزء أسياسي في برامج الشرطة في شينجيانغ لتتبع الأويغور واستهدافهم.

إذا كنت أويغوريا

إذا كنت أويغوريا تعيش في الصين، فمن المستحيل أن تعيش حياتك دون أن تكون خاضعا للرقابة المستمرة من الحزب الشيوعي الصيني، يقول سوبوليك.

"وما هو أكثر مأساوية،" يضيف، "أنه حتى لو كنت أويغوريا تعيش خارج الصين – في الولايات المتحدة أو بريطانيا أو أي دولة غربية أخرى – فإن قمع الحزب لا يزال يلاحقك".