تعززت العلاقات بين دمشق وأنقرة عندما تسلم بشار الأسد السلطة
تعززت العلاقات بين دمشق وأنقرة عندما تسلم بشار الأسد السلطة

قبل 26 عاما أطفأت اتفاقية "أضنة" شرارة مواجهة كادت أن تندلع بين تركيا وسوريا على خلفية دعم نظام حافظ الأسد لـ"حزب العمال الكردستاني" واحتواء زعيمه عبد الله أوجلان، وشكّلت عملية التوقيع عليها بعد تدخل الوسطاء "محطة" قلبت كل شيء على الأرض وأسست لمرحلة من "الازدهار"، على صعيد العلاقة.

في تلك الفترة، واستنادا للاتفاقية الأمنية بامتياز، أغلقت سوريا قواعد "حزب العمال" على أراضيها، وسجنت المئات من مسلحيه، وبعدما نفت أوجلان خارج البلاد اعتقلته المخابرات التركية في كينيا، عام 1999.

وتقول صحيفة "الوطن" شبه الرسمية، التي تصدر من دمشق، الثلاثاء، إن الاتفاقية التي تم التوقيع عليها في تسعينيات القرن الماضي قد يتم الاستناد عليها في جولة المباحثات المقبلة ما بين دمشق وأنقرة، وتشير نقلا عن دبلوماسي، لم تسمه، إلى أنه "قد تتم مناقشة عملية إعادة البحث في تعديل بنودها".

ونقلت الصحيفة عن الدبلوماسي ذاته توقعه بأن تكون موسكو "أنجزت تحديد جدول أعمال اللقاء المرتقب بين تركيا وسوريا، على أن يكون في نهاية الشهر الحالي".

ولا يزال مسار المحادثات بين النظام السوري وتركيا يراوح في مكانه على العلن، وبينما كان كل طرف يشهر شروطه و"متطلباته"، كشف وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف قبل يومين النقاب عن "صورة إيجابية" وتقاطع أولي للأفكار.

وقال لافروف إن "الحكومة السورية تعتقد أن الاستمرار في عملية التطبيع تتطلب تحديد إجراءات انسحاب القوات التركية من سوريا، أما الأتراك فهم مستعدون لذلك، ولكن لم يتم الاتفاق على معايير محددة حتى الآن".

وأضاف أنه "من الضروري التحضير الآن لاجتماع جديد، وأنا على ثقة من أنه سيعقد في مستقبل قريب جدا"، مردفا بالقول: "نحن مهتمون بلا شك بتطبيع العلاقات بين شركائنا في دمشق وأنقرة".

وفي ظل توجه الأنظار لما ستؤول إليه الجولة المقبلة من المحادثات بين دمشق وأنقرة تثار تساؤلات بشأن واقعية تطبيق الطرح الذي لم تستبعد وسائل إعلام النظام السوري أن يكون على الطاولة، وأشار إليه لافروف، أكثر من مرة في تصريحات صدرت عام 2023.

وبالعودة إلى الوراء كان وزير الخارجية الروسي قال، في سبتمبر العام الماضي، إن بلاده اقترحت على النظام السوري وتركيا عقد اتفاق، يسمح ببقاء القوات التركية على الأراضي السورية بشكل "شرعي".

وأضاف: "خلال اتصالات غير رسمية، اقترحنا العودة إلى فلسفة عام 1998، عندما تم التوقيع على اتفاق أضنة"، مردفا أن "هذا الاتفاق افترض وجود تهديد إرهابي، ومن أجل وقف هذا التهديد الإرهابي، سيكون لتركيا الحق بالوجود في سوريا"، عبر إرسال أجهزة مكافحة الإرهاب التابعة لها إلى عمق معين من أراضي البلاد.

"بين زمنين ودعم على الأرض"

وقبل توقيع اتفاقية أضنة عام 1998 لم يكن لتركيا قوات داخل سوريا، كما لم تكن تدعم آنذاك قوات من المعارضة السورية، كما هو الحال الذي عليه الآن في مناطق واسعة من مناطق ريف محافظة حلب.

وعند مقارنة الأوضاع التي كانت عليها العلاقة بين دمشق وأنقرة في تلك الفترة مع القائمة الآن، ترتسم صورة تشوبها الكثير من التعقيدات والتشعبات.

ومع ذلك يرى الباحث في الشأن التركي، محمود علوش أن "اتفاقية أضنة تشكل أرضية رئيسية للبحث في مشروع التصميم الأمني الجديد للعلاقات التركية-السورية".

ويقول لموقع "الحرة" إن "أنقرة ودمشق وموسكو تدركان أهمية الارتكاز إلى هذه الاتفاقية كأساس للنقاش بشأن معالجة الهواجس الأمنية التركية في جانب، وبشأن الوضع الجديد للعلاقات في حقبة ما بعد التطبيع وانتهاء الحرب".

ولا يزال النظام السوري يؤكد على ضرورة انسحاب القوات التركية من سوريا، وقال رئيسه بشار الأسد في آخر خطاب له في مجلس الشعب أن هذه القضية "يجب البناء عليها كمرجعية".

وفي حين اعتبر وزير الدفاع التركي، يشار غولر، مطلع الأسبوع الحالي أن تصريحات الأسد "إيجابية للغاية" لم يتطرق إلى موضوع انسحاب القوات التركية من سوريا، وما إذا كانت أنقرة تقبل بهذه الفكرة أم لا.

ويعتقد المحلل السياسي المقيم في دمشق، غسان يوسف، أن "اتفاقية أضنة ستكون الأساس في أي علاقة مقبلة بين دمشق وأنقرة"، ويرهن ذلك "بإجراء تعديلات يسبقها الاتفاق على تفكيك الإرهاب وتعريفه وعودة اللاجئين والانسحاب".

ويقول يوسف لموقع "الحرة": "وفي حال وافقت تركيا على الانسحاب لا شك أنها ستعقد اتفاقية أمنية بضمانة روسية مع سوريا. تضمن من خلالها وحدة الأراضي السورية وأمن الحدود على الطرفين وحل مشكلة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)".

و"الأنظار في الوقت الحالي شاخصة باتجاه موسكو"، على حد تعبير المحلل السياسي.

ويضيف: "هل تستطيع موسكو إذابة الجليد بين الطرفين؟ وهل تتمكن من إتمام الأمر بحضور إيران؟ وهل هي قادرة على الوصول لتفاهمات تركية-سورية بشأن الإرهاب وتفكيكه وتعريفه وعودة اللاجئين؟".

"فكرة لها جانب نظري وعملي"

وتقود روسيا مسار المحادثات بين أنقرة ودمشق وتتصدره أيضا، رغم انخراط إيران في مرحلة لاحقة عام 2023.

وتعتبر موسكو أبرز حلفاء النظام السوري ورئيسه بشار الأسد، وفي المقابل تتقاطع مع أنقرة في العديد من الشراكات الاقتصادية والأمنية.

وفيما يتعلق بالملف السوري، كان الجانب الروسي عقد اتفاقيات عدة مع تركيا بشأن الوضع الميداني على الأرض، وبالتحديد في محافظة إدلب.

كما ينخرط الجانبان أيضا في مسار "أستانة"، الذي انطلقت أولى جولاته عام 2017 وما زال "الضامنون" فيه يؤكدون على ضرورة المضي بخطواته.

ويشير الباحث السياسي والأمني التركي، عمر أوزكيزيلجيك، إلى أن "فكرة تعديل اتفاقية أضنة كانت محل نقاش لفترة طويلة، وفي إطار المقترحات التي تقدمها روسيا".

ومع ذلك يتحدث لموقع "الحرة" عن جانبين، نظري وعملي.

ومن الناحية النظرية من الممكن أن يقبل أي تعديل للاتفاقية "الوجود العسكري التركي داخل سوريا ويوافق على المنطقة الآمنة التركية".

لكن عمليا، وحسبما يقول أوزكيزيلجيك لموقع "الحرة": "لا يبدو أن نظام الأسد سيقبل هذه الشروط، خاصة أن المطلب الأول له كان سحب جميع القوات المسلحة التركية من سوريا".

وعلى أساس ما سبق يشير الباحث التركي إلى أن "المحادثات بشأن اتفاقية أضنة كانت مستمرة لفترة طويلة من الزمن، ولكن حتى الآن لم تكن هناك خطوة حقيقية نحوها".

ويشكك أوزكيزيلجيك "للغاية" في إمكانية حدوث ذلك (تعديل أضنة) قبل أن يغير نظام الأسد موقفه، ويتابع: "طالما أن النظام لا يغير موقفه، فإن تعديلا جديدا لاتفاقية أضنة غير مرجح للغاية".

"تختصر وقتا وجهدا"

ورغم أن الظروف التي صاحبت إبرام الاتفاقية عام 98 تختلف جذريا عن الظروف الراهنة، يرى الباحث علوش أن "الأتراك يرغبون في إحداث تعديل على الاتفاقية يتيح لهم هامشا أكبر في مواجهة أي مخاطر محتملة يمكن أن تنشأ في المستقبل، على غرار توسيع العمق الذي تنص عليه الاتفاقية للتدخل العسكري التركي".

ويوضح الباحث أنه "لا يمكن تجاهل الحاجة إلى إعادة إحياء الاتفاقية، مع تعديل عليها، لأنها ستكون نقطة ارتكاز في أي مفاوضات مستقبلية بشأن الانسحاب العسكري التركي من سوريا".

وكما أن الأسد يريد تحديد مبادئ التطبيع، لا سيما مستقبل الوجود التركي، فإن تركيا تريد أن تشمل هذه المبادئ معالجة مستدامة لهواجسها الأمنية، بما في ذلك الاتفاق على أطر الجانب الأمني في العلاقات المستقبلية، بحسب ذات الباحث.

ويعتبر من ناحية أخرى أن "اتفاقية أضنة تختصر الكثير من الوقت والجهد على أنقرة ودمشق للبحث في الشكل الجديد للعلاقات بعد التطبيع. ولذلك، تبدو نقطة ارتكاز في مشروع التطبيع".

"بين 2011 و2024"

ويشير المحلل السياسي يوسف إلى أن "اتفاقية أضنة ضمنت الحدود السورية-التركية لمدة 25 عاما، وبموجبها التزمت سوريا ببنودها، كما استطاع العقد المبرم أن يؤسس لعلاقات إيجابية".

ويقول "معهد واشنطن" إن دمشق التزمت باتفاقية أضنة على مدار سنوات طويلة، بل إن أحد المحللين الاستخباراتيين الأتراك أشار إلى أن أنقرة لو أرادت من سوريا تسليم أحد أعضاء "حزب العمال" المشتبه بهم "كان الأسد يقوم بتسليم جميع أقاربه أيضا، وليس ذلك الشخص وحده".

وهذه الإجراءات كانت كفيلة بـ"بناء الثقة" وتم توطيد العلاقات بين تركيا وسوريا في الأشهر الأخيرة من حكم حافظ الأسد، وتعززت ووصلت إلى أعلى المستويات عندما تسلم السلطة بشار الأسد، الذي زار تركيا سنة 2004، لتكون أول زيارة وصفت بـ"التاريخية" لرئيس سوري منذ الاستقلال سنة 1946.

ومع انطلاقة الثورة السورية عام 2011 انتهى هذا العهد، وشيئا فشيئا وضع الانفجار الداخلي في البلاد دمشق وأنقرة في وضع معاد، إذ قادت تركيا المعسكر المناهض للأسد، فيما التزمت إيران وروسيا بدعمه.

ويقول المحلل يوسف: "إذا أرادت تركيا أن تعود لما قبل 2011 أعتقد أنها قد تقبل باتفاقية أضنة أو اتفاقية معدلة يترتب عليها ضمان أمن الحدود على الجانبين السوري والتركي".

العراق وسوريا

لا تزال العلاقة الرسمية بين العراق وسوريا موضع حذر منذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر من العام الماضي. ويبدو الملف السوري محاطا بالإرباك، خصوصا على الجانب العراقي، ويدل على هذا الإرباك التعاطي الإعلامي مع أي تواصل رسمي بين البلدين، وكأن الطرفين في علاقة "محرّمة"، يحاول الإعلام الرسمي العراقي دائما مداراتها وإخفائها عن العيون ووسائل الإعلام.

حدث ذلك حينما زار حميد الشطري، رئيس جهاز الاستخبارات العراقية، سوريا في نهاية العام الماضي والتقى الشرع، ولم يُعلن عن الخبر في وسائل الإعلام العراقية الرسمية، ولم يكشف عن اللقاء إلا بعد ان تناولته وسائل الإعلام السورية. 

ومثل هذا الأمر حدث قبل أيام في لقاء الرئيس السوري أحمد الشرع برئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني برعاية قطرية في الدوحة، واُخفي الخبر عن الإعلام ليومين قبل ان تظهر صور الرجلين في حضور أمير قطر.

ردّة الفعل في الشارع العراقي على اللقاء تفسّر إخفاء الخبر قبل الإفصاح عنه. فقد انقسم العراقيون على مواقع التواصل الاجتماعي حول المسألة، وهاجم كثيرون السوداني على قبوله الجلوس مع من يعتبرونه "متورطاً في الدم العراقي"، و"مطلوبا للقضاء العراقي".

الباحث القانوني العراقي علي التميمي يشرح الإطار القانوني الدولي المتعلق برؤساء الجمهوريات، في حال صحّت الأخبار عن أحكام قضائية ضد الشرع في العراق.

ويرى التميمي أن رؤساء الدول يتمتعون بـ"حصانة مطلقة تجاه القوانين الجنائية للدول الأخرى". ويشرح لموقع "الحرة" أن هذه الحصانة "ليست شخصية للرؤساء، بل هي امتياز للدول التي يمثلونها"، وهي تمنع إلقاء القبض عليهم عند دخولهم أراضي الدول الأخرى". 

ويشير التميمي إلى أن هناك استثناء واحداً لهذه القواعد، يكون في حال "كان الرئيس مطلوباً للمحكمة الجنائية الدولية وكانت الدولة المضيفة موقعة على اتفاقية روما ١٩٩٨ الخاصة بهذه المحكمة"، هنا، يتابع التميمي، تكون الدولة "ملزمة بتسليم هذا الرئيس الى المحكمة وفقاً لنظام روما الأساسي".

لكن هل حقا أحمد الشرع مطلوب للقضاء العراقي؟

ويشير الباحث العراقي عقيل عباس إلى "عدم وجود أي ملف قضائي ضد الشرع في المحاكم العراقية". 

ويستغرب كيف أن العراق الرسمي "لم يصدر بعد أي بيان رسمي يشرح ملابسات قضية الشرع وما يحكى عنه في وسائل التواصل الاجتماعي، والجهات الرسمية لديها السجلات والحقائق، لكنها تركت الأمر للفصائل المسلحة وجمهورها وللتهويل والتجييش وصناعة بعبع (وحش مخيف) طائفي جديد، وكأن العراق لم يعان ما عاناه من الطائفية والتحريض الطائفي".

وكانت انتشرت وثيقة على وسائل التواصل الاجتماعي، تداولها عراقيون، عبارة عن مذكرة قبض بحق أحمد الشرع. وقد سارع مجلس القضاء الأعلى في بيان نقلته وكالة الأنباء العراقية في 26 من فبراير الماضي، إلى نفي صحة الوثيقة ووصفها بأنها "مزورة وغير صحيحة".

عباس مقتنع أن الغضب الشعبي من لقاء السوداني والشرع "وراءه أسباب سياسية مبرمجة، وليس تلقائياً، وجرى تحشيد الجمهور الشيعي لأسباب كثيرة، تصب كلها في مصالح إيران، غير السعيدة بسقوط بشار الأسد وحلول الشرع مكانه".

وبحسب عباس، منذ سقوط الأسد، "بدأت حملة في العراق لصناعة "بعبع" من الجولاني (أحمد الشرع)". يشرح: "يريد هؤلاء أن يقولوا ان تنظيم القاعدة يحكم سوريا، وهذا غير صحيح".

ويقول عباس لموقع "الحرة"، إن لدى الناس اسباباً موضوعية كثيرة للقلق من الشرع، خصوصاً خلفيته الجهادية المتطرفة ووضعه على لوائح الإرهاب، والشرع يقول إنه تجاوز هذا الأمر، "لكننا نحتاج ان ننتظر ونرى"، بحسب تعبيره.

ما قام به السوداني "خطوة ذكية وحكيمة سياسياً وتشير إلى اختلاف جدي بينه وبين بقية الفرقاء الشيعة في الإطار التنسيقي"، يقول عباس.

ويضيف: "هناك اعتبارات براغماتية واقعية تحكم سلوك السوداني، فهو كرئيس وزراء عليه أن يتعاطى مع سوريا كجار لا يجب استعداءه".

ويضيء الباحث القانوني علي التميمي على صلاحيات رئيس الحكومة في الدستور العراقي، فهو "ممثل الشعب داخلياً وخارجياً في السياسة العامة وإدارة شؤون البلاد بالطول والعرض"، وفق تعبيره، ورئيس الوزراء في العراق هو "بمثابة رئيس الجمهورية في الدول التي تأخذ بالنظام الرئاسي".

أما من الجانب السياسي، فإن السوداني، برأي عباس، "يخشى -وعن حق- ان تختطف حكومته المقبلة أو رئاسته للوزراء باسم حرب وهمية تديرها إيران والفصائل المسلحة وتشنّ في داخل سوريا تحت عنوان التحرير الذي نادى به المرشد الإيراني علي خامنئي قائلا إن شباب سوريا سيحررون بلدهم". وهذا يعني، بحسب عباس، ابتعاد السوداني عن التأثير الإيراني، و"أنا أتصور أن إيران غير سعيدة بهذا"، كما يقول.