الجيش الإسرائيلي استهدف نصر الله في ضربة دقيقة على الضاحية الجنوبية
الجيش الإسرائيلي استهدف نصر الله في ضربة دقيقة على الضاحية الجنوبية

خلال أسابيع فقط نجحت إسرائيل في تصفية معظم الصف القيادي الأول في حزب الله اللبناني بمن فيهم الأمين العام للحزب حسن نصر الله، إضافة إلى عشرات آخرين من مستويات قيادية متوسطة، وكان السؤال الكبير الذي أعقب هذه الضربات الأمنية المركزة هو؛ هل يستطيع حزب الله الحفاظ على تماسكه وفعاليته الميدانية وحضوره السياسي في ظل الظروف الاستثنائية التي يعانيها؟  

سؤال يتكرر بعد كل عملية استهداف لقادة كبار في الجماعات الإسلامية المسلحة في العراق وسوريا وأفغانستان واليمن ودول أخرى، وكانت الإجابات دوما متباينة، بيد أن الافتراض المعزز بالشواهد التاريخية والتجارب الواقعية يفيد بأن تحييد القيادات يؤدي في حالات كثيرة إلى تقويض قدرات التنظيمات ويحد من خطورتها، لكن في بعض الحالات الاستثنائية يحدث العكس تماما. وهذا ما سنُجليه في سياق هذا التقرير.

سجال نظري

ثمة سجال نظري وآراء متباينة في أدبيات الحرب، والدراسات الأمنية ذات الصلة بعمليات مكافحة التمرد حول جدوى استهداف القيادات، وهل لذلك دور أساسي في القضاء على جماعات التمرد أم لا.

إيران وضعت مواطئ قدم كثيرة لها في سوريا
"إعادة تعريف الدور".. ماذا ينتظر إيران في سوريا؟
لم تكن سوريا بعيدة عن شرارة الحرب المندلعة بالقرب منها خلال الفترة الأخيرة ولو بشكل غير مباشر، ومع وجود مؤشرات عن تحوّل التصعيد الحاصل إلى مستويات أكبر تثار تساؤلات عما ينتظر الوجود الإيراني فيها، سواء على الميدان أو ضمن مواطئ القدم الأخرى التي ثبتتها طهران بالتدريج خلال السنوات الماضية. 

وخلصت دراسة، نشرتها الأكاديمية العسكرية الأمريكية في ويست بوينت بعنوان " تقييم نجاح استهداف القيادة" إلى أن "المتغير الرئيسي في تحديد مدى فعالية استهداف القيادات بشكل عام هو مستوى المؤسساتية في الجماعة المستهدفة"، لأن عامل المؤسساتية يضمن نوعا من المرونة أثناء عمليات استبدال القادة وتعويضهم.

وأكدت الدراسة أن التنظيمات التي تتمتع ببنية مؤسساتية جيدة لابد وأن تعاني من اضطراب مؤقت فقط نتيجة لفقدان القيادة، في حين أن الجماعات التي تفتقر إلى المؤسساتية الكافية لابد وأن تصاب بالشلل أو حتى الانهيار عندما تتعرض لحملة استهداف القيادة.

الدراسة أعطت مثالا على ذلك بما حصل لجماعتين كانتا تنشطان في العراق في 2004 و2006، الأولى وهي تنظيم القاعدة في العراق بقيادة أبي مصعب الزرقاوي، إذ لم تتأثر الجماعة بمقتل زعيمها في 2006 لأنها أدخلت قدرا من المؤسساتية في بنيتها التنظيمية، لكن جماعة أخرى وهي مجلس شورى المجاهدين في الفلوجة تلاشت تماما بعد تحييد زعيمها عبد الله الجنابي في 2005، لأن اعتمادها كله كان على حضور الزعيم وكاريزميته.

ونحت دراسة أخرى، نشرها مركز بيلفر للعلوم والشؤون الدولية، ذات المنحى، إذ شددت أن "صمود الجماعات الإسلامية بعد عمليات قطع الرأس يحدده متغيرين أساسيين، البيروقراطية والدعم الاجتماعي، ورأت أن بعض الجماعات تنزع إلى تطوير بنية بيروقراطية تساعد على انتقال السلطة، والدعم الاجتماعي يؤمن الموارد اللازمة للاستمرار".

أما الباحث في معهد راند باتريك جونستون فجادل في دراسة موسعة حلل فيها 168 تمردا وقع في الفترة الممتدة من 1803 إلى 1999 بأن استراتيجية قطع رأس القيادة؛ استراتيجية فعالة ومجدية، تضعف المنظمات المتمردة وتمزقها وتجعلها أكثر عرضة للهزيمة.  

القاعدة

عندما نحلل نشاطات تنظيم القاعدة وفروعه في جميع أنحاء العالم، نجد أن استراتيجية "قطع رأس القيادة" نجحت إلى حد كبير في التأثير على فعاليته وقدراته، وأحيانا أدت إلى إنهاء وجود بعض الجماعات التابعة له بشكل تام وحاسم، لاسيما إذا كانت هذه القيادات من القيادات الروحية والمؤسسة، بحيث يصعب تعويضها بما يكافئها من ناحية الحضور والتأثير.

وكانت الحملة التي أطلقتها القاعدة في السعودية في 2003 واعدة في نظر أسامة بن لادن، فخصص لها موارد ضخمة، وحملة دعائية كبيرة، كان طموحه أن تتحول الحملة إلى تمرد شعبي مسلح يطيح النظام السعودي.

بيد أن القاعدة تلقت ضربة استباقية موجعة في السعودية، تمثلت في قتل زعيمها يوسف العييري في يونيو 2003، كان العييري قائدا عسكريا ومنظرا شرعيا، وقد راهن بن لادن على خبرته في تنفيذ مخططه.

وانفرط عقد حملة القاعدة بمقتل يوسف العييري، وتكرست خسارتها بمقتل خليفته عبد العزيز المقرن في العام التالي، وانتهى التنظيم هناك بشكل تام، بعد تحييد كل قياداته الفاعلة.

تنظيم حراس الدين (القاعدة في سوريا) حتى وإن لم يكن محاصرا من قبل هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة)، فإن حظوظ تحوله إلى تنظيم ذي نفوذ في سوريا ضئيلة جدا، وقد بدأت أزمته في الواقع عندما تم استهداف "الخراسانيين"، وهم مجموعة من القادة الكبار القادمين من أفغانستان وإيران، وتصفيتهم كلهم خلال بضع سنوات فقط، فتحول التنظيم بعدهم إلى هيكل بلا فعالية.

لو تأملنا في كل الأزمات التي تخبطت فيها القاعدة، سنجدها قد ثارت بعد مقتل قائد كاريزمي تعذر تعويضه. فعندما قُتل الزرقاوي ثار الجدل بشأن وجاهة الإعلان عما سمي حينها "دولة العراق الإسلامية"، وانقسمت القاعدة بين مؤيد للإعلان ورافض له.

وعندما قُتل أسامة بن لادن ظهر تنظيم داعش، وروج قادة التنظيم في إعلامهم وبين أنصارهم أنهم هم من يمثلون نهج أسامة بن لادن بعد انحراف أيمن الظواهري، و"ارتكابه مخالفات شرعية عندما وافق على انفصال جبهة النصرة عن دولة العراق الاسلامية".

القيادات التاريخية العابرة للأجيال يصعب تعويضها، وتحتاج الجماعة إلى سنوات طويلة وربما عقود لإنضاج قيادات بديلة على الطراز نفسه. لذلك لم تستطع القاعدة حتى الآن تعويض جيل من القيادات الرفيعة التي لقيت حتفها في أفغانستان، وكان تحييدها سببا في تراجع التنظيم في أفغانستان، وتوسع داعش على حسابه، مثل عطية الله وأبو يحيى الليبيين، ومصطفى أبو اليزيد، و عزام الأميركي الذي انهار أيضا القسم الإعلامي للقاعدة بمقتله في يناير 2015.

في اليمن، أدى مقتل زعيم القاعدة، ناصر الوحيشي، في يونيو 2015، إلى حدوث تصدعات في التنظيم. وربما لم تنجح سياسة "قطع رأس القيادة" كما نجحت في اليمن.

وفي بضعة سنوات فقط، نجحت الولايات المتحدة في قتل معظم قادة التنظيم، سادت بعدها أجواء من الشكوك وعدم الثقة داخله، وثار خلاف حاد حول هوية العملاء الذين اخترقوا التنظيم وتسببوا في قتل معظم القيادات العليا، فأطلق جهازه الأمني حملة أمنية ضد "الجواسيس المفترضين"، وأعدم قيادات وازنة بتهمة العمالة، ما تسبب في انشقاق المئات من الأعضاء والقادة.  

داعش

الدراسات المشار إليها في بداية التقرير تربط تماسك التنظيم بعد استهداف قياداته بمدى المؤسسية التي يعمل وفقها، والتي تؤمن له قدرا من المرونة في عملية انتقال السلطة وملء المناصب القيادية الشاغرة، لكن ما لم ينتبه إليه معدو الدراسة أن الظروف الأمنية المعقدة والسرية التي تطبع عمل هذه الجماعات تجعل من العسير جدا إرساء هيكل مؤسساتي مستقر، بل تتفادى المؤسساتية ما أمكنها ذلك، لأن أي خرق أمني بسيط سيؤدي إلى انكشاف بنية التنظيم برمتها.

تنظيم داعش شيد بنية مؤسسية هائلة في ذروة توسعة، فقد أعلن عن تشكيلة وزارية، ودواوين متخصصة، ومجلس حرب، ومجلس شورى، ولجنة مفوضة، ومكتب إدارة الولايات، ولجان متابعة وغيرها. لكن ما إن بدأت معاقله بالسقوط حتى انهارت بنيته البيروقراطية وتفككت، وتركزت الصلاحيات في يد بضعة رجال متنفذين. وتعمقت أزماته بمقتل 4 من زعمائه في فترة قياسية.  

وجد التنظيم نفسه في وضع حرج جدا بمقتل زعيمه الرابع أبي الحسين الحسيني، وقائده البارز عبد الرؤوف المهاجر المسؤول عن مكتب إدارة الولايات. لم يعد هناك قائد من الجيل المؤسس ليتولى زعامة التنظيم، كل القادة التاريخيين تمت تصفيتهم، ولم يجد التنظيم بدا -حسب تقارير أميركية- من تعيين قائد صومالي أميرا جديدا له، ولم يجرؤ حتى الآن على الاعتراف بذلك في الإعلام، حتى لا يحدث ذلك صدمة في صفوف أعضائه وأنصاره.  

ربما وجد حزب الله نفسه قريبا من هذا الوضع أي فقدان الكوادر التاريخية المؤسسة، وإن طمأن نعيم قاسم نائب أمينه العام أنصاره بوجود بقية من الجيل المؤسس في  رصيد الحزب.  

طالبان

في بعض الأحيان مجرد غياب القائد لظروف أمنية، أو تعرضه للاعتقال يدخل الجماعة في دوامة من الارتباك والتشظي، فعندما غاب أيمن الظواهري لعامين تقريبا بسبب ظروفه الأمنية والصحية انشقت جبهة النصرة، وثار الخلاف الشهير في2017 حول شرعية هذا الانشقاق من عدمه.

وحدث الأمر ذاته حتى مع جماعة الإخوان المسلمين التي تمتاز ببروقراطيتها ومؤسسيتها العالية، فاعتقال المرشد العام للجماعة محمد بديع وضع الجماعة على مفترق طرق، وانقسمت إلى جبهات متنافسة.

حركة طالبان تقريبا هي الجماعة الوحيدة التي لم تتأثر بوفاة ومقتل زعمائها وقادتها الكبار، بل إن زعيمها ومؤسسها الأول الملا عمر توفي في 2013 ولم يكن يعلم بذلك سوى بضعة أفراد من قادة الحركة، وظلت الحركة نشطة دون أن تتأثر فعاليتها الميدانية، ولم تُعلن عن وفاته حتى عام 2015.

ويمكن إرجاع أسباب هذا الاستثناء إلى أن طالبان ليست تنظيما، بل حركة شعبية، تستند إلى عمق قبلي وحاضنة شعبية، تُؤمن لها الاستمرار والصمود، إضافة إلى أن المجهود الحربي للحركة يقع على عاتق عشرات القادة الميدانيين المنتشرين في القرى والأرياف.

كما أن أمراء الحركة الكبار ومن بينهم الملا عمر لم يظهروا في الإعلام أبدا، ولم يعتادوا على إرسال خطاباتهم المرئية، ولا توجد صور حديثة لهم، وبالتالي لم يحتلوا خيال ووجدان أتباعهم بنفس الدرجة التي يمكن لقادة دأبوا على الظهور في الإعلام أن يفعلوا، وتعويضهم لا يؤثر على الولاء للحركة، لأن عامل الارتباط العاطفي بصورة القائد الكاريزمي غير موجود.

وعندما توفي الملا عمر في 2013، واصل المقربون منه إصدار بيانات المعايدة باسمه والتي تعود على إصدارها في الأعياد الدينية، دون أن يلحظ أحد غياب الأمير.  

من هنا تأتي صعوبة تعويض قائد كاريزمي احتل خيال أتباعه لعقود مثل حسن نصر الله. حدث الأمر ذاته مع جماعة العدل والإحسان المغربية لما توفي مؤسسها ومرشدها السابق عبد السلام ياسين في 2012، إذ أعلنت إلغاء منصب المرشد العام للجماعة، لأن مرشدا كعبد السلام ياسين لا يمكن تعويضه، واستحدثت بدله منصب الأمين العام.  

سفينة حربية تعبر قناة السويس - AFP
سفينة حربية تعبر قناة السويس - AFP

ضجة كبيرة عاشتها مصر في الأيام الأخيرة إثر نشر فيديو زعم متداولوه أنه يخص "بارجة حربية إسرائيلية تعبر قناة السويس".

وفي ردها على الجدل الذي أثاره الموضوع، ذكرت هيئة قناة السويس أن إدارتها للمجرى الملاحي تخضع لبنود اتفاقية القسطنطينية التي تمنح لجميع دول العالم الحق في أن تعبر سفنها القناة "دائمًا بجميع الأحوال ومهما كانت جنسيتها".

 

فما قصة هذه الاتفاقية؟ وهل التزمت مصر بتطبيقها منذ توقيعها؟ وكيف تعاملت إدارة القناة مع سفن إسرائيلية سعت للمرور من القناة من قبل بموجب الاتفاقية؟

القناة المحايدة

بموجب قرار في العام 1856، أقرّت مصر حرية الملاحة في القناة "بشكلٍ محايد" لجميع السفن مهما كان حجم الصراعات بينها، طالما أن مصر ليست طرفًا فيها. ونصّت المادة 14 من القرار على أن "القناة البحرية الكبرى مفتوحة على الدوام بوصفها ممرًا محايدًا لكل سفينة".

غير أن مصر ستشهد في 1882 حدثًا استثنائيًا حينما قاد الضابط أحمد عرابي تمردًا عسكريًا ضد الخديوِ توفيق فأرسلت بريطانيا حملة عسكرية لحماية عرش الخديو، مستخدمة القناة للوصول إلى مدينة الإسماعيلية ومنها زحفت القوات البريطانية إلى القاهرة حيث أنهت تمرد الجيش وسيطرت على القاهرة، وكانت تلك اللحظة بداية الاحتلال الإنجليزي لمصر.

ووفق ما أورده عبده مباشر في كتابه "قناة السويس: المشروع والصراع" فإن هذا الاحتلال كان بداية لزيادة سيطرة الإنجليز على القناة، فجرى استدعاء مديرها الفرنسي فرديناند ديليسبس إلى لندن 1883 لتوقيع اتفاق جديد قضى برفع حصة الإنجليز في مجلس الإدارة وعدد الملاحين، كما نص على أن تنشئ الشركة لها مكتبًا في لندن أسوة بمكتبها في فرنسا.

السيطرة الإنجليزية على القناة أشعلت غضب فرنسا فاقترحت لندن وضع نظام جديد لإدارة القناة بشكلٍ يرضي جميع الأطراف، وفي مارس 1885 بدأت مباحثات بين البلدين حول إبرام معاهدة دولية تنظّم المرور في القناة.

وطيلة 3 سنوات اشتعل الشقاق بين فرنسا وبريطانيا حول كيفية إدارة القناة حتى اتفقتا أخيرًا على بنود معاهدة القسطنطينية ومعهما دول أخرى.

وفي 29 أكتوبر 1888، وقّع مندوبو 9 دول على اتفاقية من 17 مادة نظّمت قواعد مرور السفن في القناة أبرزها أن "تكون قناة السويس البحرية على الدوام حرة مفتوحة في زمن السلم والحرب لكل سفينة تجارية أو حربية دون تمييز بين جنسياتها".

ولم تلعب القاهرة دورا كبيرا في إبرام الاتفاقية بعدما مثّلتها الدولة العثمانية، صاحبة السيادة الإسمية عليها حينها، وبريطانيا التي فرضت احتلالاً عليها أدارت بموجبه شؤونها الخارجية والداخلية.

وبحسب بحث "موقف الدولة العثمانية من اتفاقية القسطنطينية للملاحة في قناة السويس"، فإن حتى الدولة العثمانية لم تلعب دورًا كبيرًا في صياغة بنود الاتفاقية بعدما تلقتها عقب اتفاق بريطانيا وفرنسا على أغلب بنودها.

ويقول محمد عبد الرحمن في كتابه "قناة السويس: أهميتها السياسية والاستراتيجية" إن بريطانيا، رغم توقيعها على الاتفاقية، فقد ألحقت بها تحفظًا يبيح لها التحلل من أحكامها إذا ارتأت أن تطبيق هذه البنود يتعارض مع مقتضيات احتلالها للقناة ويحرمها من بناء قواعد عسكرية لها على جانبي القناة حال الضرورة لذلك.

ولم تسحب بريطانيا هذه التحفظات إلا بعد الاتفاق الودي الذي جرى بينها وبين فرنسا 1904 وتقاسمت بموجبه البلدان النفوذ في الشرق الأوسط، وفق ما ذكره عبد الخالق لاشين في كتابه "مصريات في الفكر والسياسة".

وبحسب كتاب فتحي المحلاوي "قناة السويس بين الوثائق والمزاعم"، فإن القناة حاولت الالتزام بـ"الحياد العسكري" خلال حرب الدولة العثمانية وإيطاليا 1911، فحينما أرسلت إسطنبول قوة من 400 جندي إلى سوريا اشترط عليهم تجريدهم من السلاح وعبور القناة في حراسة البوليس المصري.

الحياد في زمن الحرب

في 1914، استقلت مصر عن الدولة العثمانية وورثت عنها التزاماتها الرسمية في المعاهدة، وباتت طرفًا فاعلاً فيها لأول مرة. العام ذاته شهد اندلاع الحرب العالمية الأولى التي خاضتها بريطانيا بفاعلية، وبالتالي كان الحفاظ على حياد القناة الخاضعة لسيطرتها أمرًا صعبا.

أعلنت بريطانيا الحماية على مصر وبالتالي صارت القناة جزءًا من دولة في معسكر الحلفاء وباتت هدفًا عسكريًا، بعدما حاولت قوة ألمانية تركية الاستيلاء على القناة فتصدّت لهم قوة بحرية بريطانية.

وخلال الحرب قضت بريطانيا على مفهوم "حياد القناة" تمامًا بعدما منعت سفن أعدائها من العبور وأقامت لنفسها قواعد عسكرية في القنطرة والإسماعيلية ربطتهما بالقاهرة عبر خط سكة حديدية.

وبحسب ما روته لطيفة سالم في كتابها "مصر في الحرب العالمية الأولى"، فإن هذه التصرفات استدعت "إدانة شديدة" من الحكومة العثمانية بعدما اعتبرتها تناقض بنود اتفاقية القسطنطينية.

ووفق ما ذكره جورج كيرلس في كتابه "قناة السويس من القِدم إلى اليوم"، فإن عدم التزام القوى الكبرى باتفاقية القسطنطينية خلال الحرب وتصارعها حولها وداخلها في بعض الأحيان خفّض حركة الملاحة فيها بنسبة 45 في المئة.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، عرفت القناة "حيادًا جزئيًا" خلال احتلال إيطاليا لإثيوبيا 1935 بعدما سُمح لما يزيد عن نصف مليون جندي إيطالي بعبور قناة السويس، بينما رُفض عبور سفن كانت تحمل أسلحة إلى الحبشة، وفق ما ذُكر في كتاب "مصر والصراع حول القرن الأفريقي".

هذا الأمر تكرر أيضًا خلال الحرب العالمية الثانية التي شهدت سقوط فرنسا على أيدي الألمان الأمر الذي منح بريطانيا سيطرة مطلقة على القناة فكررت استغلالها لصالح مجهودها الحربي، وهو ما حاولت قوات دول المحور إنهاءه فأغارت عليها طائراتها 64 غارة من يناير 1941 وحتى يوليو 1942، كما هاجمتها الغواصات الألمانية 17 مرة.

وبحسب كيرلس فإنه طيلة هذه الحرب تعطلت الملاحة بالقناة 76 يومًا على فترات متقطعة بسبب إغراق عددٍ من السفن والألغام بها، وفي بعض الأوقات بلغت نسبة انخفاض حركة الملاحة 70 في المئة.

بعد 1948.. "ممنوع العبور" لإسرائيل

يكشف الكاتب عبد العظيم رمضان، في كتابه "المواجهة المصرية الإسرائيلية في البحر الأحمر"، أن القاهرة "لم تعتبر اتفاق الهدنة 1949 الذي وقعته مع إسرائيل أنهى حالة الحرب معها، وبالتالي رخّصت لنفسها الحق في منع أي سفينة تقصد إسرائيل مستندة إلى المادة العاشرة من المعاهدة والتي كفلت ألا تتعارض موادها مع التدابير التي قد يجري اتخاذها لـ"ضمان الدفاع عن مصر وإقرار النظام العام".

هذا المنع لم يُطبّق على السفن الإسرائيلية فقط وإنما كذلك على السفن المحايدة التي تحمل بضائع من دول أخرى تجاه الموانئ الإسرائيلية.

هذا الحصار أثار غضب إسرائيل فقدّمت إلى مجلس الأمن شكوى في يوليو 1951 لتأكيد أن هذا الموقف مخالف لاتفاقية 1888، وهو أمر أيّدها به المجلس وأصدر قرارًا بالأغلبية يدعو مصر للوفاء بالتزاماتها البحرية إلا أن مصر لم تستجب.

ويروي الدبلوماسي عصمت عبدالمجيد في كتابه "زمن الانكسار والانتصار"، أن إنجلترا، التي كانت تتمتع بنفوذ كبير في مصر وقتها، حاولت التدخل عبر إقناع الحكومة المصرية على الأقل بالسماح بعبور ناقلات البترول المتجهة إلى حيفا عبر قناة السويس إلا أن القاهرة رفضت ذلك الأمر.

وظلّت مصر متمسكة بهذا الموقف حتى بعد اندلاع ثورة يوليو، وفي سبتمبر 1954 حاولت إسرائيل تحدّي قرار الحكومة المصرية فأرسلت سفينة تحمل العلم الإسرائيلي نحو قناة السويس فصُودرت حمولتها وسُجن بحارتها 3 أشهر أعيدوا بعدها إلى بلدهم.

خلال هذه الأزمة أعلن عمر لطفي مندوب مصر في مجلس الأمن أن بلاده "تخشى بسبب حالة العداء التي تجمعها بإسرائيل أن تنفذ أي سفينة تابعة لها عملية تخريبية تمنع الملاحة في القناة"، لذا فإنه "يعتبر أن منع إسرائيل من استخدام أمر واجب" وفقًا لتفسيره لمواد اتفاقية القسطنطينية.

وعلى وقع هذه الأزمة عقد مجلس الأمن 7 جلسات امتدت حتى يناير 1955 دون أن ينجح في اتخاذ أي قرار، أمر اعتبرته القاهرة انتصارًا لها وأعلنت كذلك أن "قرار 1951" سابق الإصدار مجرد توصية غير ملزمة، وهو وضعٌ استمرّ حتى تأميم القناة 1956.

أزمة التأميم

في 1956، أعلن الرئيس جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس. خطوة كان متوقعًا أن تثير غضب الغرب ضده فبادر بإعلان "الاحترام الكامل" لاتفاقية القسطنطينية، إلا أن ذلك لم يُفلح في امتصاص غضب الحكومة البريطانية على القاهرة بعدما أظهر رئيس الحكومة أنطوني إيدن ميوله لاستعمال القوة العسكرية إن لم يتراجع ناصر عن التأميم.

تعتبر قناة السويس معبرا حيويا للملاحة الدولية

وفي محاولة لتبرير الهجوم على مصر، اعتبر إيدن أن قرار التأميم يهدم اتفاقية القسطنطينية التي نصّت على أن حرية الملاحة ترعاها شركة القناة الدولية وأن استيلاء مصر عليها يتعارض مع الاتفاقية.

وحسبما روت لطيفة محمد سالم في كتابها "أزمة السويس: جذور، أحداث، نتائج"، فإن هذا الموقف لم يشاركه به الرئيس الأمريكي أيزنهاور حينما بعث له رسالة عارَض فيها تنفيذ أي عمل عسكري داعيًا لمناقشة القضية من خلال اجتماع تعقده الدول الموقعة على اتفاقية القسطنطينية.

خطوة المؤتمر تمّت بالفعل في لندن بعدما رعت مؤتمرًا ضمّ الدول الموقعة على الاتفاقية ودول أخرى معنية بالملاحة في القناة بسبب حجم تجارتها الكبير الذي يمرُّ منها مثل أميركا والبرتغال واليابان وغيرها، لكن مصر رفضت حضور هذا المؤتمر ما أدى لفشله.

وبعد انتهاء الأزمة بنجاح مصر في ترسيخ سيادتها على القناة، اضطرت للتراجع عن موقفها بمنع أي سفينة من العبور لإسرائيل فوافقت لأول مرة على مرور البضائع الإسرائيلية غير العسكرية، بشرط أن تكون محمولة على سفن غير إسرائيلية.

من ناحيتها، فرضت القاهرة قيودًا على تعريفها للشحنات "غير العسكرية" وحدّدتها بالشحنات الغذائية فقط، فيما اعتبرت "النقود والسبائك الذهبية والفضية والأوراق المالية" شحنات عسكرية لا يُسمح بمرورها إلى إسرائيل.

هكذا سمح عبد الناصر للسلع غير الاستراتيجية بالوصول إلى إسرائيل عبر قناة السويس طيلة سنوات ما بعد 1956 بشرط عدم الإعلان، وفي مايو 1959 أعلنت إسرائيل أنها تستعد لاستقبال باخرة دنماركية عبر قناة السويس فأوقفتها القاهرة، بعدها توصل ناصر إلى اتفاق عبر الأمم المتحدة يقضي بالسماح لهذه السلع بالعبور شريطة عدم إعلان إسرائيل عن هذه الشحنات.

وخلال سنوات حُكمه عبّر الرئيس جمال عبدالناصر مرارًا عن موقفه الرافض للسماح لإسرائيل باستخدام القناة، منها قوله في يوليو 1959 إن "مرور سفن إسرائيل لا يعتبر بأي حال من الأحوال ضمان حرية الملاحة في قناة السويس".

وظلَّ هذا الموقف غير مقبولا في إسرائيل واعتبرته "استمرارًا للحصار البحري ضدها" وقدّمت عدة شكاوى في مجلس الأمن لم تغيّر من موقف القاهرة، استمر هذا الوضع حتى اندلعت حرب 1967 التي كانت سببًا في تعطيل الملاحة في مجرى القناة لسنواتٍ طويلة لم تنتهِ إلا باندلاع حرب أكتوبر.

ما بعد أكتوبر

في مارس 1975، أعلن السادات نيته إعادة افتتاح قناة السويس مع التأكيد أن سفن إسرائيل ستظلُّ محرومة من استخدامها في ظل عدم إنهاء حالة الحرب بين البلدين.

هذا الوضع تغير قليلاً خلال أشهر معدودة بعدما وقعت مصر وإسرائيل اتفاقية فض الاشتباك الثانية التي ورد بالمادة السابعة بها السماح بـ"مرور البضائع الإسرائيلية غير العسكرية بشرط أن تكون محمولة على سفن غير إسرائيلية"، وهو ما وصّفه بطرس غالي وقتها بأنه عودة إلى الوضع الذي كان سائدًا بين عامي 1957 و1967.

وظلَّ هذا الوضع قائمًا حتى انتهت حالة الحرب رسميًا بين البلدين عقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد 1979، التي نصّت على "حرية مرور السفن الإسرائيلية في خليج السويس وقناة السويس على أساس اتفاقية القسطنطينية لعام 1888"، لتنال بموجبها إسرائيل حقها في عبور جميع سفنها التجارية والحربية قناة السويس لأول مرة بلا أي قيود لأول مرة منذ 1948، وهو الأمر المستمر حتى اليوم.