خلال أسابيع فقط نجحت إسرائيل في تصفية معظم الصف القيادي الأول في حزب الله اللبناني بمن فيهم الأمين العام للحزب حسن نصر الله، إضافة إلى عشرات آخرين من مستويات قيادية متوسطة، وكان السؤال الكبير الذي أعقب هذه الضربات الأمنية المركزة هو؛ هل يستطيع حزب الله الحفاظ على تماسكه وفعاليته الميدانية وحضوره السياسي في ظل الظروف الاستثنائية التي يعانيها؟
سؤال يتكرر بعد كل عملية استهداف لقادة كبار في الجماعات الإسلامية المسلحة في العراق وسوريا وأفغانستان واليمن ودول أخرى، وكانت الإجابات دوما متباينة، بيد أن الافتراض المعزز بالشواهد التاريخية والتجارب الواقعية يفيد بأن تحييد القيادات يؤدي في حالات كثيرة إلى تقويض قدرات التنظيمات ويحد من خطورتها، لكن في بعض الحالات الاستثنائية يحدث العكس تماما. وهذا ما سنُجليه في سياق هذا التقرير.
سجال نظري
ثمة سجال نظري وآراء متباينة في أدبيات الحرب، والدراسات الأمنية ذات الصلة بعمليات مكافحة التمرد حول جدوى استهداف القيادات، وهل لذلك دور أساسي في القضاء على جماعات التمرد أم لا.
وخلصت دراسة، نشرتها الأكاديمية العسكرية الأمريكية في ويست بوينت بعنوان " تقييم نجاح استهداف القيادة" إلى أن "المتغير الرئيسي في تحديد مدى فعالية استهداف القيادات بشكل عام هو مستوى المؤسساتية في الجماعة المستهدفة"، لأن عامل المؤسساتية يضمن نوعا من المرونة أثناء عمليات استبدال القادة وتعويضهم.
وأكدت الدراسة أن التنظيمات التي تتمتع ببنية مؤسساتية جيدة لابد وأن تعاني من اضطراب مؤقت فقط نتيجة لفقدان القيادة، في حين أن الجماعات التي تفتقر إلى المؤسساتية الكافية لابد وأن تصاب بالشلل أو حتى الانهيار عندما تتعرض لحملة استهداف القيادة.
الدراسة أعطت مثالا على ذلك بما حصل لجماعتين كانتا تنشطان في العراق في 2004 و2006، الأولى وهي تنظيم القاعدة في العراق بقيادة أبي مصعب الزرقاوي، إذ لم تتأثر الجماعة بمقتل زعيمها في 2006 لأنها أدخلت قدرا من المؤسساتية في بنيتها التنظيمية، لكن جماعة أخرى وهي مجلس شورى المجاهدين في الفلوجة تلاشت تماما بعد تحييد زعيمها عبد الله الجنابي في 2005، لأن اعتمادها كله كان على حضور الزعيم وكاريزميته.
ونحت دراسة أخرى، نشرها مركز بيلفر للعلوم والشؤون الدولية، ذات المنحى، إذ شددت أن "صمود الجماعات الإسلامية بعد عمليات قطع الرأس يحدده متغيرين أساسيين، البيروقراطية والدعم الاجتماعي، ورأت أن بعض الجماعات تنزع إلى تطوير بنية بيروقراطية تساعد على انتقال السلطة، والدعم الاجتماعي يؤمن الموارد اللازمة للاستمرار".
أما الباحث في معهد راند باتريك جونستون فجادل في دراسة موسعة حلل فيها 168 تمردا وقع في الفترة الممتدة من 1803 إلى 1999 بأن استراتيجية قطع رأس القيادة؛ استراتيجية فعالة ومجدية، تضعف المنظمات المتمردة وتمزقها وتجعلها أكثر عرضة للهزيمة.
القاعدة
عندما نحلل نشاطات تنظيم القاعدة وفروعه في جميع أنحاء العالم، نجد أن استراتيجية "قطع رأس القيادة" نجحت إلى حد كبير في التأثير على فعاليته وقدراته، وأحيانا أدت إلى إنهاء وجود بعض الجماعات التابعة له بشكل تام وحاسم، لاسيما إذا كانت هذه القيادات من القيادات الروحية والمؤسسة، بحيث يصعب تعويضها بما يكافئها من ناحية الحضور والتأثير.
وكانت الحملة التي أطلقتها القاعدة في السعودية في 2003 واعدة في نظر أسامة بن لادن، فخصص لها موارد ضخمة، وحملة دعائية كبيرة، كان طموحه أن تتحول الحملة إلى تمرد شعبي مسلح يطيح النظام السعودي.
بيد أن القاعدة تلقت ضربة استباقية موجعة في السعودية، تمثلت في قتل زعيمها يوسف العييري في يونيو 2003، كان العييري قائدا عسكريا ومنظرا شرعيا، وقد راهن بن لادن على خبرته في تنفيذ مخططه.
وانفرط عقد حملة القاعدة بمقتل يوسف العييري، وتكرست خسارتها بمقتل خليفته عبد العزيز المقرن في العام التالي، وانتهى التنظيم هناك بشكل تام، بعد تحييد كل قياداته الفاعلة.
تنظيم حراس الدين (القاعدة في سوريا) حتى وإن لم يكن محاصرا من قبل هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة)، فإن حظوظ تحوله إلى تنظيم ذي نفوذ في سوريا ضئيلة جدا، وقد بدأت أزمته في الواقع عندما تم استهداف "الخراسانيين"، وهم مجموعة من القادة الكبار القادمين من أفغانستان وإيران، وتصفيتهم كلهم خلال بضع سنوات فقط، فتحول التنظيم بعدهم إلى هيكل بلا فعالية.
لو تأملنا في كل الأزمات التي تخبطت فيها القاعدة، سنجدها قد ثارت بعد مقتل قائد كاريزمي تعذر تعويضه. فعندما قُتل الزرقاوي ثار الجدل بشأن وجاهة الإعلان عما سمي حينها "دولة العراق الإسلامية"، وانقسمت القاعدة بين مؤيد للإعلان ورافض له.
وعندما قُتل أسامة بن لادن ظهر تنظيم داعش، وروج قادة التنظيم في إعلامهم وبين أنصارهم أنهم هم من يمثلون نهج أسامة بن لادن بعد انحراف أيمن الظواهري، و"ارتكابه مخالفات شرعية عندما وافق على انفصال جبهة النصرة عن دولة العراق الاسلامية".
القيادات التاريخية العابرة للأجيال يصعب تعويضها، وتحتاج الجماعة إلى سنوات طويلة وربما عقود لإنضاج قيادات بديلة على الطراز نفسه. لذلك لم تستطع القاعدة حتى الآن تعويض جيل من القيادات الرفيعة التي لقيت حتفها في أفغانستان، وكان تحييدها سببا في تراجع التنظيم في أفغانستان، وتوسع داعش على حسابه، مثل عطية الله وأبو يحيى الليبيين، ومصطفى أبو اليزيد، و عزام الأميركي الذي انهار أيضا القسم الإعلامي للقاعدة بمقتله في يناير 2015.
في اليمن، أدى مقتل زعيم القاعدة، ناصر الوحيشي، في يونيو 2015، إلى حدوث تصدعات في التنظيم. وربما لم تنجح سياسة "قطع رأس القيادة" كما نجحت في اليمن.
وفي بضعة سنوات فقط، نجحت الولايات المتحدة في قتل معظم قادة التنظيم، سادت بعدها أجواء من الشكوك وعدم الثقة داخله، وثار خلاف حاد حول هوية العملاء الذين اخترقوا التنظيم وتسببوا في قتل معظم القيادات العليا، فأطلق جهازه الأمني حملة أمنية ضد "الجواسيس المفترضين"، وأعدم قيادات وازنة بتهمة العمالة، ما تسبب في انشقاق المئات من الأعضاء والقادة.
داعش
الدراسات المشار إليها في بداية التقرير تربط تماسك التنظيم بعد استهداف قياداته بمدى المؤسسية التي يعمل وفقها، والتي تؤمن له قدرا من المرونة في عملية انتقال السلطة وملء المناصب القيادية الشاغرة، لكن ما لم ينتبه إليه معدو الدراسة أن الظروف الأمنية المعقدة والسرية التي تطبع عمل هذه الجماعات تجعل من العسير جدا إرساء هيكل مؤسساتي مستقر، بل تتفادى المؤسساتية ما أمكنها ذلك، لأن أي خرق أمني بسيط سيؤدي إلى انكشاف بنية التنظيم برمتها.
تنظيم داعش شيد بنية مؤسسية هائلة في ذروة توسعة، فقد أعلن عن تشكيلة وزارية، ودواوين متخصصة، ومجلس حرب، ومجلس شورى، ولجنة مفوضة، ومكتب إدارة الولايات، ولجان متابعة وغيرها. لكن ما إن بدأت معاقله بالسقوط حتى انهارت بنيته البيروقراطية وتفككت، وتركزت الصلاحيات في يد بضعة رجال متنفذين. وتعمقت أزماته بمقتل 4 من زعمائه في فترة قياسية.
وجد التنظيم نفسه في وضع حرج جدا بمقتل زعيمه الرابع أبي الحسين الحسيني، وقائده البارز عبد الرؤوف المهاجر المسؤول عن مكتب إدارة الولايات. لم يعد هناك قائد من الجيل المؤسس ليتولى زعامة التنظيم، كل القادة التاريخيين تمت تصفيتهم، ولم يجد التنظيم بدا -حسب تقارير أميركية- من تعيين قائد صومالي أميرا جديدا له، ولم يجرؤ حتى الآن على الاعتراف بذلك في الإعلام، حتى لا يحدث ذلك صدمة في صفوف أعضائه وأنصاره.
ربما وجد حزب الله نفسه قريبا من هذا الوضع أي فقدان الكوادر التاريخية المؤسسة، وإن طمأن نعيم قاسم نائب أمينه العام أنصاره بوجود بقية من الجيل المؤسس في رصيد الحزب.
طالبان
في بعض الأحيان مجرد غياب القائد لظروف أمنية، أو تعرضه للاعتقال يدخل الجماعة في دوامة من الارتباك والتشظي، فعندما غاب أيمن الظواهري لعامين تقريبا بسبب ظروفه الأمنية والصحية انشقت جبهة النصرة، وثار الخلاف الشهير في2017 حول شرعية هذا الانشقاق من عدمه.
وحدث الأمر ذاته حتى مع جماعة الإخوان المسلمين التي تمتاز ببروقراطيتها ومؤسسيتها العالية، فاعتقال المرشد العام للجماعة محمد بديع وضع الجماعة على مفترق طرق، وانقسمت إلى جبهات متنافسة.
حركة طالبان تقريبا هي الجماعة الوحيدة التي لم تتأثر بوفاة ومقتل زعمائها وقادتها الكبار، بل إن زعيمها ومؤسسها الأول الملا عمر توفي في 2013 ولم يكن يعلم بذلك سوى بضعة أفراد من قادة الحركة، وظلت الحركة نشطة دون أن تتأثر فعاليتها الميدانية، ولم تُعلن عن وفاته حتى عام 2015.
ويمكن إرجاع أسباب هذا الاستثناء إلى أن طالبان ليست تنظيما، بل حركة شعبية، تستند إلى عمق قبلي وحاضنة شعبية، تُؤمن لها الاستمرار والصمود، إضافة إلى أن المجهود الحربي للحركة يقع على عاتق عشرات القادة الميدانيين المنتشرين في القرى والأرياف.
كما أن أمراء الحركة الكبار ومن بينهم الملا عمر لم يظهروا في الإعلام أبدا، ولم يعتادوا على إرسال خطاباتهم المرئية، ولا توجد صور حديثة لهم، وبالتالي لم يحتلوا خيال ووجدان أتباعهم بنفس الدرجة التي يمكن لقادة دأبوا على الظهور في الإعلام أن يفعلوا، وتعويضهم لا يؤثر على الولاء للحركة، لأن عامل الارتباط العاطفي بصورة القائد الكاريزمي غير موجود.
وعندما توفي الملا عمر في 2013، واصل المقربون منه إصدار بيانات المعايدة باسمه والتي تعود على إصدارها في الأعياد الدينية، دون أن يلحظ أحد غياب الأمير.
من هنا تأتي صعوبة تعويض قائد كاريزمي احتل خيال أتباعه لعقود مثل حسن نصر الله. حدث الأمر ذاته مع جماعة العدل والإحسان المغربية لما توفي مؤسسها ومرشدها السابق عبد السلام ياسين في 2012، إذ أعلنت إلغاء منصب المرشد العام للجماعة، لأن مرشدا كعبد السلام ياسين لا يمكن تعويضه، واستحدثت بدله منصب الأمين العام.