Russian President Vladimir Putin attends the BRICS Business Forum in Moscow
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال مشاركته في منتدى بريكس الاقتصادي في موسكو، أكتوبر 2024

يجتمع أكثر من 20 من قادة العالم في مدينة قازان الروسية، الثلاثاء المقبل، للمشاركة في قمة "بريكس بلس"، التي تعدّ الأكبر من نوعها على الأراضي الروسية منذ غزو أوكرانيا 2022.

ويسعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عبرها لإظهار أن المحاولات الغربية لعزل موسكو "قد باءت بالفشل" بحسب ما ورد في تقرير لوكالة فرانس برس، الأحد.

ولأول مرة منذ عامين ونصف العام، تحدث الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش الأحد إلى بوتين عبر الهاتف، بمناسبة الذكرى الـ80 لتحرير العاصمة بلغراد من النازيين في الحرب العالمية الثانية، وكان للجنود السوفييت دور بارز فيه.

وقال فوتشيتش في رسالة عبر الفيديو نُشرت على وسائل التواصل الاجتماعي: "شكرتُ الرئيس بوتين بشكل خاص على ضمان قيام روسيا بتوفير كميات كافية من الغاز لصربيا هذا الشتاء".

وتلقى البلد المرشح لعضوية الاتحاد الأوروبي دعوة لحضور قمة مجموعة "بريكس" من روسيا إلا أنه لم يرد إلى الآن.

وقال فوتشيتش وقت سابق هذا الأسبوع "إذا قلت إنني ذاهب إلى قازان، سيكون ذلك بمثابة نهاية الطريق الأوروبي لصربيا. وإذا قلتُ شيئا آخر، سيزعمون أنّني خنت الروس".

وسيُعلن قرار حضوره القمة السادسة عشرة بحلول يوم غد الاثنين، بحسب ما نقلت فرانس برس.

وكانت صربيا دانت انتهاك وحدة الأراضي الأوكرانية، وفي نفس الوقت رفضت المشاركة في فرض عقوبات على روسيا، وما زالت متمكسة بموقفها إلى اليوم.

من جانبه، أعلن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الأحد، أنه لن يحضر القمة في روسيا، بعد نصيحة طبية بتجنب الرحلات الطويلة مؤقتا.

وذكر قصر الرئاسة في بيان أن لولا سيشارك في اجتماع بريكس عبر دائرة تلفزيونية.

قمة قازان

من المقرر كذلك، أن يشارك الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في القمة. وأكد مستشار الكرملين يوري يوشاكوف، مشاركة قادة كل الدول الأعضاء في "بريكس" بقمة قازان، باستثناء السعودية التي ستوفد وزير خارجيتها.

وستكون القمة في روسيا الأولى بوجود الأعضاء الجدد، لذلك أطلق على المجموعة "بريكس بلس" بحسب المعهد الأميركي لدراسات السلام.

في المقابل، يعتقد الغرب أن روسيا تستغل التكتل لتوسيع نفوذها والترويج لسرديّاتها الخاصة في ما يتّصل بالنزاع مع أوكرانيا.

وحذّر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي لدى عرضه "خطة النصر" هذا الأسبوع، من أن أي انتصار لبوتين في النزاع مع أوكرانيا من شأنه أن يشجّع دولا أخرى على إطلاق حروبها الخاصة.

وأضاف "إذا حقق بوتين أهدافه الجنونية، الجيوسياسية والعسكرية والأيديولوجية والاقتصادية، فسيشيع ذلك انطباعا سائدا لدى معتدين محتملين آخرين خصوصا في الغرب ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ وأفريقيا، بأن الحروب العدوانية يمكن أن تكون مفيدة لهم أيضا".

وأبرز الملفات المطروحة على جدول أعمال القمة، مقترح بوتين إنشاء نظام دفع خاص لـ"بريكس" يفترض أن يكون منافسا لنظام "سويفت" الشبكة المالية العالمية التي استُبعدت منها روسيا بعد غزوها أوكرانيا 2022، إضافة إلى النزاع المتصاعد في الشرق الأوسط.

ويصف الكرملين القمة بأنها "انتصار دبلوماسي سيساعده في بناء تحالف قادر على تحدي الهيمنة الغربية" بحسب ما أوردت فرانس برس، بينما تعتبر الولايات المتحدة أن روسيا "غير قادرة على التحول إلى منافس جيوسياسي".

وفي الوقت ذاته، لا تخفي واشنطن قلقها إزاء استعراض موسكو قوتها الدبلوماسية وسط احتدام النزاع في أوكرانيا.

وفي القمة التي سبقتها وانعقدت في جنوب أفريقيا، لم يتمكن بوتين من الحضور، حيث أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحقه عام 2023 على خلفية ترحيل غير قانوني لأطفال من أوكرانيا.

ماذا نعرف عن بريكس؟

بريكس مجموعة من الدول كانت تضم في بداية تأسيسها عام 2006 البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، نشأت بمبادرة من روسيا. لذلك فإن الاسم الأساسي كان "بريك" وهو تشكيلة الحروف الأولى من أسماء تلك الدول باللغة الإنجليزية، وفي 2010 بعد انضمام جنوب أفريقيا صارت "بريكس"، بحسب ما أورده موقعها الإلكتروني.

تقدمت دول عديدة للانضمام إلى بريكس، بعضها نال العضوية حديثاً خلال 2024، مثل إيران والإمارات وإثيوبيا ومصر بالإضافة للسعودية، بينما تراجعت الأرجنتين عن طلبها بعد تسلم الرئيس الحالي خافيير مايلي مهامه مبدياً تعارض الكثير من سياساته مع خلفه، بحسب ما نشرت وكالة "بلومبيرغ"، الأحد.

وذكرت أن ماليزيا وتايلاند وتركيا، من الدول التي لا تزال تسعى للانضمام.

ووفق تقرير نشره المعهد الأميركي لدراسات السلام الخميس الماضي، تقدمت أكثر من 30 دولة بطلب رسمي أو أبدت اهتماماً للانضمام إلى مجموعة بريكس"، وتشمل دول جنوب شرق آسيا مثل تايلاند وماليزيا وفيتنام، بالإضافة لتركيا وهي عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ودول منتجة للنفط والغاز الطبيعي مثل الجزائر، وأكبر دولة إسلامية وهي إندونيسيا، عدا عن نيجيريا التي تمتلك أكبر عدد سكان في أفريقيا، وبنغلاديش ثامن أكبر دولة من حيث التعداد السكاني عالمياً.

والسبب الأساسي الذي يدفع هذه الدول للانضمام بحسب المعهد الأميركي، اقتصادي. إذ أن الدول العشر التي تشكل "بريكس بلس" اليوم، تمثل 45% من تعداد سكان العالم، و28% من الناتج الاقتصادي العالمي، و47% من النفط الخام العالمي.

وجاء في بيان مشترك في اجتماع وزراء خارجية بريكس، في يونيو الماضي، تشجيع على "تعزيز استخدام العملات المحلية في التجارة والمعاملات المالية" بين الدول الأعضاء. كان هذا التوجه في ارتفاع منذ عام 2017 حتى عام 2022، حيث شهدت التجارة بين دول بريكس نمواً بنسبة 56% خلال تلك الفترة، وتسارع هذا النمو بعد العقوبات الغربية والأميركية على روسيا.

وستنعقد قمة بريكس هذا العام على وقع الصراعات الإقليمية في الشرق الأوسط وأفريقيا وحالة الاستقطاب المتزايدة تجاهها من مختلف الأطراف، التي تُضاف إلى الغزو الروسي المستمر لأوكرانيا.

وتبنت دول بريكس موقفا محايدا على نطاق واسع تجاه الغزو الروسي لأوكرانيا، بعضها اعتبره قضية إقليمية أكثر من كونها أزمة عالمية. ومع ذلك، غيرت الحرب علاقات روسيا مع مؤسسات البريكس، وسرعان ما جمد بنك التنمية الجديد المشروعات الروسية، ولم تتمكن موسكو من الوصول إلى الدولار عبر نظام العملات الأجنبية المشترك لدول البريكس.

وفي الأساس، مع تراكم العقوبات الأميركية، أعطت دول بريكس الأخرى الأولوية للوصول المستمر إلى النظام المالي القائم على الدولار على مساعدة روسيا، فيما تقترح موسكو الآن تغييرات في المدفوعات عبر الحدود بين دول البريكس، وهو نظام من شأنه أن يتحايل على النظام المالي العالمي ويساعد على حماية اقتصادها من العقوبات، بحسب "بلومبيرغ".

وتشمل البدائل تطوير شبكة من البنوك التجارية التي يمكنها إجراء مثل هذه المعاملات بالعملات المحلية وكذلك إقامة روابط مباشرة بين البنوك المركزية، وفقا لتقرير أعدته وزارة المالية الروسية وبنك روسيا وشركة "ياكوف وشركاه" الاستشارية ومقرها موسكو.

في مجموعة بريكس ومن بين الدول الراغبة في عضويتها، هناك دول حليفة للولايات المتحدة والغرب، مثل السعودية والإمارات وتركيا وغيرها، والعديد منها لا تريد تقويض هذه العلاقة كما لا تجد تناقضاً بينها وبين التواجد في تكتل دولي تقوده روسيا والصين لخلق بديل عن الرأسمالية الأميركية والأوروبية التي تُدير اقتصاد العالم.

يشير المعهد الأميركي للسلام، أن المملكة العربية السعودية تتفاوض على صفقة مع الولايات المتحدة للحصول على ضمانات أمنية من واشنطن مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل، فيما عمقت الهند علاقاتها الأمنية مع الولايات المتحدة بشكل كبير في السنوات الأخيرة، ووقعت فيتنام والولايات المتحدة اتفاق شراكة إستراتيجية شاملة العام الماضي 2023.

وتسعى كوبا للانضمام إلى "بريكس"، حيث قدمت طلباً رسمياً عبر رسالة لبوتين في هذا الشهر لإدراجها كدولة شريكة. وقال مندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة إرنستو سوبرون غوزمان، في حديث مع وكالة "تاس" الروسية إن "بريكس قد تصبح بديلاً للمؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي، حيث أن بعض أكبر الاقتصادات في العالم من بين أعضائها".

وأضاف، السبت، أن التكتل الدولي يلعب دوراً في الاقتصادي العالمي، إذ يوفر "توازناً في ما يتعلق بالقوى الكبرى التي لا تعمل دائما لصالح الدول النامية"، مشيراً إلى وجود "مصالح مشتركة وإمكانيات هائلة للتجارة الخارجية" بين أعضاء "بريكس".

توسيع بريكس تصدر جدول أعمال القمة المنعقدة في جوهانسبرغ ـ صورة تعبيرية.
مسؤول إماراتي: انضمامنا لبريكس لن يضر بعلاقاتنا مع الغرب
قال وزير الاقتصاد الإماراتي، عبد الله بن طوق المري، إن انضمام الإمارات إلى كتلة البريكس للاقتصادات الناشئة لن يضر بعلاقاتها مع الدول الغربية، وسط مخاوف من قيام الصين وروسيا بتوسيع المجموعة لموازنة النفوذ الأمريكي والأوروبي. 

اقتصاد متعثّر وعوائق

وبحسب تقرير للبنك الدولي نُشر عام 2019، فإن مجموعة دول "بريكس" تمثل أكبر اقتصادات متوسطة الدخل في العالم، وتمثل معاً أكثر من خُمس الاقتصاد العالمي.

في عام 2017 ، شكل قطاع الخدمات نصف إلى ثلثي اقتصاد كل بلد (الأعضاء الخمس)، فيما احتلت الصناعة ثاني أكبر قطاع فيها، بحيث تراوحت بين أقل من خُمس الاقتصاد في البرازيل وأكثر من خُمسَي الاقتصاد في الصين. في حين شكلت الزراعة كحصة من الناتج المحلي الإجمالي، أقل من 5% في البرازيل وروسيا وجنوب أفريقيا، وفي الصين 8% والهند 15%، وفق بيانات البنك الدولي.

ووفق "بلومبيرغ" كانت أبرز إنجازات بريكس، مالية. إذ اتفقت الدول على تجميع احتياطيات من العملات الأجنبية بقيمة 100 مليار دولار يمكنها إقراضها لبعضها البعض في حالات الطوارئ، وهو مرفق للسيولة بدأ العمل به في عام 2016.

 أسست الدول أيضا "البنك الجديد للتنمية" وهي مؤسسة مستوحاة من البنك الدولي وافقت على قروض بنحو 33 مليار دولار، معظمها لمشاريع المياه والنقل والبنية التحتية الأخرى، منذ أن بدأ عملياته في عام 2015. 

بالمقارنة، تعهد البنك الدولي بمبلغ 72.8 مليار دولار للدول المنضوية تحت لوائه في السنة المالية 2023.

وعلى الرغم من اهتمام المستثمرين بالاقتصادات الناشئة في دول بريكس، إلّا أنها عموماً ليست في أحسن أحوالها، فالعقوبات الأوروبية والأميركية على روسيا أدت لإبعاد أغلب المستثمرين عنها. 

كما فرضت عقوبات على بعض القطاعات في الصين - خاصة شركات التكنولوجيا - أو تواجه حظرا محتملا على الاستثمار. كما أن الصين اقتصاد ناضج، منفصل بشكل متزايد عن الأسواق الناشئة الأخرى ويواجه تباطؤا هيكليا. 

بالنسبة للبرازيل، فقد تباطأ الاقتصاد البرازيلي بشكل ملحوظ بعد نهاية طفرة السلع العالمية قبل حوالي عقد من الزمان. أما اقتصاد جنوب أفريقيا فقد تعثر بسبب مشكلات لوجستية، على الرغم من أنه أحرز مؤخرا بعض التقدم المبدئي في معالجة هذه المشاكل. 

وفي وقت تقارن بنوك استثمارية التجربة الهندية بتجربة الصين قبل نحو 15 عاماً، إلا أنه من غير الواضح إن كان بإمكانها اتباع النموذج الصيني في مجال التصنيع.

ورغم الوعود الكبيرة التي تصدّرها بريكس منذ نشأتها عام 2006 للدول الأعضاء ودول العالم الثالث، ورغم الإمكانات الكبيرة التي تمتلكها وتميزها لتحقيقها، إلا أن هناك عوائق عديدة ماثلة منذ سنوات، تحول حتى الآن دون خلق البديل المزعوم للاقتصاد الذي يتحكم في الأسواق العالمية.

من هذه العوائق بحسب خبراء وبيانات اقتصادية ووسائل إعلام محلية في روسيا والصين، التباين السياسي والثقافي والاقتصادي للدول الأعضاء، مما قد يعني تضارب المصالح بينها، مثل النزاعات الحدودية بين الصين والهند مثلاً، أو الفرق الكبير في النمو الاقتصادي بين الصين من جهة، وجنوب أفريقيا والبرازيل من جهة أخرى، مما يعني غياب التوازن في السلطة وصنع القرار بين دول بريكس.

إضافة لذلك، لا يمكن رؤية أجندة عمل واضحة لتحقيق الهدف المنشود بين أعضاء بريكس، بالتالي غياب إستراتيجية قوية متماسكة تجعل -بالضرورة- اتخاذ قرارات ومواقف حاسمة تجاه القضايا العالمية، أمراً معقداً.

كما أن هناك تأثيراً محدوداً حتى الآن لبريكس على المؤسسات والمنظمات العالمية والدولية، التي تقودها دول الغرب، مثل صندوق النقد. 

واعتماد دول بريكس كذلك على التجارة العالمية، وأبرز نموذج على ذلك الصين، يجعلها عرضة للعقوبات الغربية وللتباطؤ في النمو الاقتصادي. ويُضاف إلى ذلك، قضية هامة ورد ذكرها آنفاً، وهي موقف دول بريكس غير الموحد من الصراعات السياسية الإقليمية والعالمية، نظراً لازدواجية التحالفات والمصالح، ومحاولة - أحياناً- البقاء على الحياد في ظل تغييرات إستراتيجية تؤثر على توازنات القوى حول العالم.

سفينة حربية تعبر قناة السويس - AFP
سفينة حربية تعبر قناة السويس - AFP

ضجة كبيرة عاشتها مصر في الأيام الأخيرة إثر نشر فيديو زعم متداولوه أنه يخص "بارجة حربية إسرائيلية تعبر قناة السويس".

وفي ردها على الجدل الذي أثاره الموضوع، ذكرت هيئة قناة السويس أن إدارتها للمجرى الملاحي تخضع لبنود اتفاقية القسطنطينية التي تمنح لجميع دول العالم الحق في أن تعبر سفنها القناة "دائمًا بجميع الأحوال ومهما كانت جنسيتها".

 

فما قصة هذه الاتفاقية؟ وهل التزمت مصر بتطبيقها منذ توقيعها؟ وكيف تعاملت إدارة القناة مع سفن إسرائيلية سعت للمرور من القناة من قبل بموجب الاتفاقية؟

القناة المحايدة

بموجب قرار في العام 1856، أقرّت مصر حرية الملاحة في القناة "بشكلٍ محايد" لجميع السفن مهما كان حجم الصراعات بينها، طالما أن مصر ليست طرفًا فيها. ونصّت المادة 14 من القرار على أن "القناة البحرية الكبرى مفتوحة على الدوام بوصفها ممرًا محايدًا لكل سفينة".

غير أن مصر ستشهد في 1882 حدثًا استثنائيًا حينما قاد الضابط أحمد عرابي تمردًا عسكريًا ضد الخديوِ توفيق فأرسلت بريطانيا حملة عسكرية لحماية عرش الخديو، مستخدمة القناة للوصول إلى مدينة الإسماعيلية ومنها زحفت القوات البريطانية إلى القاهرة حيث أنهت تمرد الجيش وسيطرت على القاهرة، وكانت تلك اللحظة بداية الاحتلال الإنجليزي لمصر.

ووفق ما أورده عبده مباشر في كتابه "قناة السويس: المشروع والصراع" فإن هذا الاحتلال كان بداية لزيادة سيطرة الإنجليز على القناة، فجرى استدعاء مديرها الفرنسي فرديناند ديليسبس إلى لندن 1883 لتوقيع اتفاق جديد قضى برفع حصة الإنجليز في مجلس الإدارة وعدد الملاحين، كما نص على أن تنشئ الشركة لها مكتبًا في لندن أسوة بمكتبها في فرنسا.

السيطرة الإنجليزية على القناة أشعلت غضب فرنسا فاقترحت لندن وضع نظام جديد لإدارة القناة بشكلٍ يرضي جميع الأطراف، وفي مارس 1885 بدأت مباحثات بين البلدين حول إبرام معاهدة دولية تنظّم المرور في القناة.

وطيلة 3 سنوات اشتعل الشقاق بين فرنسا وبريطانيا حول كيفية إدارة القناة حتى اتفقتا أخيرًا على بنود معاهدة القسطنطينية ومعهما دول أخرى.

وفي 29 أكتوبر 1888، وقّع مندوبو 9 دول على اتفاقية من 17 مادة نظّمت قواعد مرور السفن في القناة أبرزها أن "تكون قناة السويس البحرية على الدوام حرة مفتوحة في زمن السلم والحرب لكل سفينة تجارية أو حربية دون تمييز بين جنسياتها".

ولم تلعب القاهرة دورا كبيرا في إبرام الاتفاقية بعدما مثّلتها الدولة العثمانية، صاحبة السيادة الإسمية عليها حينها، وبريطانيا التي فرضت احتلالاً عليها أدارت بموجبه شؤونها الخارجية والداخلية.

وبحسب بحث "موقف الدولة العثمانية من اتفاقية القسطنطينية للملاحة في قناة السويس"، فإن حتى الدولة العثمانية لم تلعب دورًا كبيرًا في صياغة بنود الاتفاقية بعدما تلقتها عقب اتفاق بريطانيا وفرنسا على أغلب بنودها.

ويقول محمد عبد الرحمن في كتابه "قناة السويس: أهميتها السياسية والاستراتيجية" إن بريطانيا، رغم توقيعها على الاتفاقية، فقد ألحقت بها تحفظًا يبيح لها التحلل من أحكامها إذا ارتأت أن تطبيق هذه البنود يتعارض مع مقتضيات احتلالها للقناة ويحرمها من بناء قواعد عسكرية لها على جانبي القناة حال الضرورة لذلك.

ولم تسحب بريطانيا هذه التحفظات إلا بعد الاتفاق الودي الذي جرى بينها وبين فرنسا 1904 وتقاسمت بموجبه البلدان النفوذ في الشرق الأوسط، وفق ما ذكره عبد الخالق لاشين في كتابه "مصريات في الفكر والسياسة".

وبحسب كتاب فتحي المحلاوي "قناة السويس بين الوثائق والمزاعم"، فإن القناة حاولت الالتزام بـ"الحياد العسكري" خلال حرب الدولة العثمانية وإيطاليا 1911، فحينما أرسلت إسطنبول قوة من 400 جندي إلى سوريا اشترط عليهم تجريدهم من السلاح وعبور القناة في حراسة البوليس المصري.

الحياد في زمن الحرب

في 1914، استقلت مصر عن الدولة العثمانية وورثت عنها التزاماتها الرسمية في المعاهدة، وباتت طرفًا فاعلاً فيها لأول مرة. العام ذاته شهد اندلاع الحرب العالمية الأولى التي خاضتها بريطانيا بفاعلية، وبالتالي كان الحفاظ على حياد القناة الخاضعة لسيطرتها أمرًا صعبا.

أعلنت بريطانيا الحماية على مصر وبالتالي صارت القناة جزءًا من دولة في معسكر الحلفاء وباتت هدفًا عسكريًا، بعدما حاولت قوة ألمانية تركية الاستيلاء على القناة فتصدّت لهم قوة بحرية بريطانية.

وخلال الحرب قضت بريطانيا على مفهوم "حياد القناة" تمامًا بعدما منعت سفن أعدائها من العبور وأقامت لنفسها قواعد عسكرية في القنطرة والإسماعيلية ربطتهما بالقاهرة عبر خط سكة حديدية.

وبحسب ما روته لطيفة سالم في كتابها "مصر في الحرب العالمية الأولى"، فإن هذه التصرفات استدعت "إدانة شديدة" من الحكومة العثمانية بعدما اعتبرتها تناقض بنود اتفاقية القسطنطينية.

ووفق ما ذكره جورج كيرلس في كتابه "قناة السويس من القِدم إلى اليوم"، فإن عدم التزام القوى الكبرى باتفاقية القسطنطينية خلال الحرب وتصارعها حولها وداخلها في بعض الأحيان خفّض حركة الملاحة فيها بنسبة 45 في المئة.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، عرفت القناة "حيادًا جزئيًا" خلال احتلال إيطاليا لإثيوبيا 1935 بعدما سُمح لما يزيد عن نصف مليون جندي إيطالي بعبور قناة السويس، بينما رُفض عبور سفن كانت تحمل أسلحة إلى الحبشة، وفق ما ذُكر في كتاب "مصر والصراع حول القرن الأفريقي".

هذا الأمر تكرر أيضًا خلال الحرب العالمية الثانية التي شهدت سقوط فرنسا على أيدي الألمان الأمر الذي منح بريطانيا سيطرة مطلقة على القناة فكررت استغلالها لصالح مجهودها الحربي، وهو ما حاولت قوات دول المحور إنهاءه فأغارت عليها طائراتها 64 غارة من يناير 1941 وحتى يوليو 1942، كما هاجمتها الغواصات الألمانية 17 مرة.

وبحسب كيرلس فإنه طيلة هذه الحرب تعطلت الملاحة بالقناة 76 يومًا على فترات متقطعة بسبب إغراق عددٍ من السفن والألغام بها، وفي بعض الأوقات بلغت نسبة انخفاض حركة الملاحة 70 في المئة.

بعد 1948.. "ممنوع العبور" لإسرائيل

يكشف الكاتب عبد العظيم رمضان، في كتابه "المواجهة المصرية الإسرائيلية في البحر الأحمر"، أن القاهرة "لم تعتبر اتفاق الهدنة 1949 الذي وقعته مع إسرائيل أنهى حالة الحرب معها، وبالتالي رخّصت لنفسها الحق في منع أي سفينة تقصد إسرائيل مستندة إلى المادة العاشرة من المعاهدة والتي كفلت ألا تتعارض موادها مع التدابير التي قد يجري اتخاذها لـ"ضمان الدفاع عن مصر وإقرار النظام العام".

هذا المنع لم يُطبّق على السفن الإسرائيلية فقط وإنما كذلك على السفن المحايدة التي تحمل بضائع من دول أخرى تجاه الموانئ الإسرائيلية.

هذا الحصار أثار غضب إسرائيل فقدّمت إلى مجلس الأمن شكوى في يوليو 1951 لتأكيد أن هذا الموقف مخالف لاتفاقية 1888، وهو أمر أيّدها به المجلس وأصدر قرارًا بالأغلبية يدعو مصر للوفاء بالتزاماتها البحرية إلا أن مصر لم تستجب.

ويروي الدبلوماسي عصمت عبدالمجيد في كتابه "زمن الانكسار والانتصار"، أن إنجلترا، التي كانت تتمتع بنفوذ كبير في مصر وقتها، حاولت التدخل عبر إقناع الحكومة المصرية على الأقل بالسماح بعبور ناقلات البترول المتجهة إلى حيفا عبر قناة السويس إلا أن القاهرة رفضت ذلك الأمر.

وظلّت مصر متمسكة بهذا الموقف حتى بعد اندلاع ثورة يوليو، وفي سبتمبر 1954 حاولت إسرائيل تحدّي قرار الحكومة المصرية فأرسلت سفينة تحمل العلم الإسرائيلي نحو قناة السويس فصُودرت حمولتها وسُجن بحارتها 3 أشهر أعيدوا بعدها إلى بلدهم.

خلال هذه الأزمة أعلن عمر لطفي مندوب مصر في مجلس الأمن أن بلاده "تخشى بسبب حالة العداء التي تجمعها بإسرائيل أن تنفذ أي سفينة تابعة لها عملية تخريبية تمنع الملاحة في القناة"، لذا فإنه "يعتبر أن منع إسرائيل من استخدام أمر واجب" وفقًا لتفسيره لمواد اتفاقية القسطنطينية.

وعلى وقع هذه الأزمة عقد مجلس الأمن 7 جلسات امتدت حتى يناير 1955 دون أن ينجح في اتخاذ أي قرار، أمر اعتبرته القاهرة انتصارًا لها وأعلنت كذلك أن "قرار 1951" سابق الإصدار مجرد توصية غير ملزمة، وهو وضعٌ استمرّ حتى تأميم القناة 1956.

أزمة التأميم

في 1956، أعلن الرئيس جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس. خطوة كان متوقعًا أن تثير غضب الغرب ضده فبادر بإعلان "الاحترام الكامل" لاتفاقية القسطنطينية، إلا أن ذلك لم يُفلح في امتصاص غضب الحكومة البريطانية على القاهرة بعدما أظهر رئيس الحكومة أنطوني إيدن ميوله لاستعمال القوة العسكرية إن لم يتراجع ناصر عن التأميم.

تعتبر قناة السويس معبرا حيويا للملاحة الدولية

وفي محاولة لتبرير الهجوم على مصر، اعتبر إيدن أن قرار التأميم يهدم اتفاقية القسطنطينية التي نصّت على أن حرية الملاحة ترعاها شركة القناة الدولية وأن استيلاء مصر عليها يتعارض مع الاتفاقية.

وحسبما روت لطيفة محمد سالم في كتابها "أزمة السويس: جذور، أحداث، نتائج"، فإن هذا الموقف لم يشاركه به الرئيس الأمريكي أيزنهاور حينما بعث له رسالة عارَض فيها تنفيذ أي عمل عسكري داعيًا لمناقشة القضية من خلال اجتماع تعقده الدول الموقعة على اتفاقية القسطنطينية.

خطوة المؤتمر تمّت بالفعل في لندن بعدما رعت مؤتمرًا ضمّ الدول الموقعة على الاتفاقية ودول أخرى معنية بالملاحة في القناة بسبب حجم تجارتها الكبير الذي يمرُّ منها مثل أميركا والبرتغال واليابان وغيرها، لكن مصر رفضت حضور هذا المؤتمر ما أدى لفشله.

وبعد انتهاء الأزمة بنجاح مصر في ترسيخ سيادتها على القناة، اضطرت للتراجع عن موقفها بمنع أي سفينة من العبور لإسرائيل فوافقت لأول مرة على مرور البضائع الإسرائيلية غير العسكرية، بشرط أن تكون محمولة على سفن غير إسرائيلية.

من ناحيتها، فرضت القاهرة قيودًا على تعريفها للشحنات "غير العسكرية" وحدّدتها بالشحنات الغذائية فقط، فيما اعتبرت "النقود والسبائك الذهبية والفضية والأوراق المالية" شحنات عسكرية لا يُسمح بمرورها إلى إسرائيل.

هكذا سمح عبد الناصر للسلع غير الاستراتيجية بالوصول إلى إسرائيل عبر قناة السويس طيلة سنوات ما بعد 1956 بشرط عدم الإعلان، وفي مايو 1959 أعلنت إسرائيل أنها تستعد لاستقبال باخرة دنماركية عبر قناة السويس فأوقفتها القاهرة، بعدها توصل ناصر إلى اتفاق عبر الأمم المتحدة يقضي بالسماح لهذه السلع بالعبور شريطة عدم إعلان إسرائيل عن هذه الشحنات.

وخلال سنوات حُكمه عبّر الرئيس جمال عبدالناصر مرارًا عن موقفه الرافض للسماح لإسرائيل باستخدام القناة، منها قوله في يوليو 1959 إن "مرور سفن إسرائيل لا يعتبر بأي حال من الأحوال ضمان حرية الملاحة في قناة السويس".

وظلَّ هذا الموقف غير مقبولا في إسرائيل واعتبرته "استمرارًا للحصار البحري ضدها" وقدّمت عدة شكاوى في مجلس الأمن لم تغيّر من موقف القاهرة، استمر هذا الوضع حتى اندلعت حرب 1967 التي كانت سببًا في تعطيل الملاحة في مجرى القناة لسنواتٍ طويلة لم تنتهِ إلا باندلاع حرب أكتوبر.

ما بعد أكتوبر

في مارس 1975، أعلن السادات نيته إعادة افتتاح قناة السويس مع التأكيد أن سفن إسرائيل ستظلُّ محرومة من استخدامها في ظل عدم إنهاء حالة الحرب بين البلدين.

هذا الوضع تغير قليلاً خلال أشهر معدودة بعدما وقعت مصر وإسرائيل اتفاقية فض الاشتباك الثانية التي ورد بالمادة السابعة بها السماح بـ"مرور البضائع الإسرائيلية غير العسكرية بشرط أن تكون محمولة على سفن غير إسرائيلية"، وهو ما وصّفه بطرس غالي وقتها بأنه عودة إلى الوضع الذي كان سائدًا بين عامي 1957 و1967.

وظلَّ هذا الوضع قائمًا حتى انتهت حالة الحرب رسميًا بين البلدين عقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد 1979، التي نصّت على "حرية مرور السفن الإسرائيلية في خليج السويس وقناة السويس على أساس اتفاقية القسطنطينية لعام 1888"، لتنال بموجبها إسرائيل حقها في عبور جميع سفنها التجارية والحربية قناة السويس لأول مرة بلا أي قيود لأول مرة منذ 1948، وهو الأمر المستمر حتى اليوم.