تنظيم داعش تبنى عدة هجمات إرهابية في الولايات المتحدة . أرشيفية
تنظيم داعش تبنى عدة هجمات إرهابية في الولايات المتحدة (صورة أرشيفية)

رغم إعلان هزيمته العسكرية في العراق وسوريا عام 2019، لم يختفِ تنظيم داعش الإرهابي، بل أعاد تشكيل نفسه في صورة أكثر تعقيدًا، متبنّيًا استراتيجية تعتمد على التنظيمات الفرعية التي تنتشر في مناطق مضطربة حول العالم. 

وحسب خبراء وتقارير استخباراتية غربية، فإن التنظيم لا يزال يشكل تهديدًا عالميًا، حيث نفذت جماعاته المتفرعة هجمات مدمرة خلال العام 2024، من إيران وروسيا إلى الولايات المتحدة وأوروبا وإفريقيا. 

ولكن السؤال الأبرز هو: كيف يستمر التنظيم في تمويل عملياته رغم خسائره الكبيرة؟ 

وحسب المحلل الأمني أدريان شتوني، فإن "داعش أصبح أكثر تعقيدًا وصعوبة في مواجهته كمنظمة لا مركزية مقارنةً بفترة دولته المزعومة، حيث لم يعد له كيان واحد يمكن استهدافه عسكريًا". 

هجمات دامية حول العالم

أثبت التنظيم وفروعه وجوده خلال العام الماضي عبر هجمات دموية، منها: 
- يناير 2024 : تفجيران انتحاريان في مدينة كرمان جنوب إيران، أسفرا عن مقتل نحو 100 شخص. 
- مارس 2024: هجوم مسلح وحرق متعمد في قاعة "كروكوس سيتي هول" قرب موسكو، خلّف 145 قتيلًا. 
- أغسطس 2024: تفجير انتحاري في مقديشو بالصومال أودى بحياة 20 شخصًا على الأقل، وطعن عدة أشخاص في مهرجان بألمانيا أسفر عن 3 قتلى. 
- الولايات المتحدة: في 1 يناير، دهس مهاجم مستوحى من التنظيم حشودًا في نيو أورلينز، مما أسفر عن 14 قتيلًا وعشرات الجرحى.

وفقًا لبيانات شركة "دراغون فلاي" الاستخباراتية، نفذ التنظيم وفروعه نحو 600 هجمة سنويًا في المتوسط خلال السنوات الثلاث الماضية، بانخفاض عن 770 هجمة سنويًا في السنوات الثلاث السابقة، لكن الهجمات أصبحت أكثر دمويةً بنسبة زيادة 40 بالمئة في عدد الضحايا لكل هجمة. 

مناطق نفوذ داعش الجديدة

أصبحت أفريقيا وآسيا الوسطى مركزًا جديدًا لنشاط داعش، حيث تنشط الفروع التالية بشكل ملحوظ:

- داعش-ولاية خراسان (ISKP): يوسّع نفوذه خارج أفغانستان، مستقطبًا مقاتلين من طاجيكستان وأوزبكستان.
- داعش-الصومال (ISS): يستغل الفوضى السياسية في الصومال، ويجنّد مقاتلين من إثيوبيا والسودان وتنزانيا.
- داعش-غرب أفريقيا (ISWA): يهيمن على منطقة بحيرة تشاد، ويعد أحد أخطر التنظيمات الإرهابية في منطقة الساحل.

مصادر التمويل.. كيف يحافظ داعش على استمراريته؟

لم يعد تنظيم داعش يعتمد على عائدات النفط كما كان في السابق خلال فترة نفوذه في سوريا والعراق، بل أصبح يعتمد على أساليب غير تقليدية لتمويل عملياته، أبرزها:
1. الخطف مقابل الفدية: تعد عمليات الاختطاف من أهم مصادر الدخل لداعش، حيث يقوم باحتجاز مدنيين وأجانب والمطالبة بمبالغ ضخمة مقابل إطلاق سراحهم.
2. الابتزاز والضرائب: في المناطق التي يسيطر عليها، يفرض التنظيم "ضرائب" على الشركات والمواطنين، مستغلاً خوف السكان من بطشه.
3. النهب والسرقة: تستهدف الجماعات التابعة لداعش البنوك والشركات ونهب الأسواق المحلية لتمويل عملياتها.
4. الاتجار بالبشر: لا يزال داعش يشارك في شبكات الاتجار بالبشر، خاصة في مناطق مثل إفريقيا وسوريا.
5. العملات المشفرة: تطور داعش في استخدام العملات الرقمية مثل البيتكوين لنقل الأموال بسرية تامة بعيدًا عن أعين أجهزة المخابرات الدولية.
6. الدعم الخارجي: رغم عدم وجود أدلة رسمية، تشير تقارير استخباراتية إلى تلقي داعش تمويلًا من متبرعين مجهولين في دول مختلفة.

ويشكّل آلاف مقاتلي داعش المعتقلين في سوريا تهديدًا مستقبليًا، حيث حذّر قائد القيادة المركزية الأميركية مايكل كوريلا من أن هؤلاء السجناء يمثلون "جيش داعش داخل المعتقل"، وأن أي هروب جماعي يمكن أن يسبب أزمة أمنية جديدة في المنطقة.

كما أن  أحد أخطر تحولات داعش هو اعتماده المكثف على الإنترنت، حيث يؤكد خبراء أن التنظيم يستغل وسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات المشفرة للترويج لأيديولوجيته، وتجنيد مقاتلين جدد، وجمع التبرعات. 

ثغرات استراتيجية

ورغم استمرار الضربات الجوية على معاقل داعش، لا تزال هناك ثغرات خطيرة في استراتيجية مكافحة الإرهاب:
فانسحاب قوات التحالف الدولي من أفغانستان خلق "فراغًا استخباراتيًا" استغلته داعش-خراسان.

كما أن انسحاب فرنسا من الساحل الإفريقي أدى إلى تنامي قوة داعش-غرب إفريقيا، في ظل تحالف الدول المتضررة مع روسيا لتعويض الفراغ الأمني.

وبالنسبة لسوريا والعراق، فهما لا يزالان نقطة ضعف، حيث تشير التقديرات إلى أن التنظيم لديه احتياطات مالية تتراوح بين 10 إلى 20 مليون دولار في المنطقة، حسب تقرير نشره موقع "راديو أوروبا الحرة".

ووفقًا لتقديرات المحلل الأمني كولين كلارك، فإن داعش يركز حاليًا على تنفيذ هجمات ضخمة في أوروبا والولايات المتحدة لاستعادة زخم التنظيم، حيث أظهرت الهجمات الأخيرة في موسكو وألمانيا ونيو أورلينز بأميركا أن التنظيم لا يزال نشطًا، وقادرًا على تنفيذ عمليات إرهابية نوعية خارج مناطق نفوذه التقليدية.

البابا فرنسيس

في صباح مشمس من مارس 2021، وقف طفل ملوحا بعلم عراقي صغير، على حافة الرصيف في مدينة النجف، يتأمل موكبا رسميا لم يَعْهد له مثيلا من قبل. 

وسط الجموع، لمح الطفل الثوب الأبيض للزائر الغريب وهو يخطو على مهل داخل أزقة المدينة المقدسة لدى المسلمين الشيعة.  لم يكن ذلك الطفل يعلم على الغالب أنه كان شاهدا على واحدة من الزيارات البابوية التي ستسجل في كتب التاريخ باعتبارها لحظة نادرة ومفصلية في علاقة الأديان في الشرق الأوسط. 

في تلك الزيارة التي وقّتها البابا مع بدء تعافي الكوكب من فايروس كورونا، وبدء تعافي العراق من "داعش"، زار البابا الراحل المناطق التي دمرها داعش في أور والموصل، وحمل معه للعراق عموماً وللمسيحيين خصوصاً رسالة أمل رمزية لكنها شديدة العمق: "السلام ممكن، حتى من قلب الألم". 

خلال لقائه بالمرجع الشيعي الأعلى، علي السيستاني، في المدينة الشيعية المقدسة، بحث رأس الكنيسة الكاثوليكية مع رأس الحوزة "التحديات الكبيرة التي تواجهها الإنسانية"، وقد شكل ذلك اللقاء "فرصة للبابا ليشكر آية الله السيستاني لأنه رفع صوته ضد العنف والصعوبات الكبيرة التي شهدتها السنوات الأخيرة، دفاعاً عن الضعفاء والمضطهدين، بحسب بيان وزعه المكتب الصحفي للكرسي الرسولي بعد اللقاء.

منذ حمله لقب "صاحب القداسة" في العام ٢٠١٣، أولى البابا فرنسيس أهمية كبيرة للبقعة الجغرافية التي تتنازعها الحروب والنيران على طول خريطة الشرق الأوسط. والتفت البابا بعين دامعة، الى البشر الذين يُدفعون بسبب الحروب والمآسي إلى البحار هرباً من الموت على اليابسة. 

خرج صوت البابا من أروقة الفاتيكان، بخشوع وألم، ليعبر بنبرة أب قلق على أبنائه وبناته في تلك البقعة من العالم، من تمييز بينهم على أساس أديانهم أو طوائفهم. 

رفع البابا صوته وصلواته لضحايا الهجرة، ووقف على شاطئ المتوسط منادياً العالم: "أولئك الذين غرقوا في البحر لا يبحثون عن الرفاه، بل عن الحياة". وفي لقائه بلاجئين سوريين خلال زيارته إلى اليونان، طلب "ألا يتعامل العالم مع المهاجرين كأرقام، بل كوجوه وأرواح". 

لا يمكن الفصل بين رؤية البابا فرنسيس لقضايا الشرق الأوسط وبين خلفيته الآتية من أميركا اللاتينية، كما يشرح الباحث في العلاقات الإسلامية المسيحية روجيه أصفر لموقع "الحرة". 

يقول أصفر إن "المنطقة التي أتى منها البابا وشهدت صعود لاهوت التحرير وتعيش فيها الفئات المسحوقة والديكتاتوريات، لابد أن تخلق لديه حساسية تجاه قضايا شعوب الشرق الأوسط التي تعاني من نموذج مشابه من الديكتاتوريات". 

وايضاً يجب الأخذ بعين الاعتبار، بحسب أصفر، المعرفة العميقة لدى البابا بالإسلام، "ومع كل الاستقطاب الديني الذي نشهده في العالم، وصعود الإسلاموفوبيا، تمكن البابا من نسج علاقات جيدة بالعالم العربي والمرجعيات الدينية فيه وخصوصاً مع الأزهر وتوقيعه وثيقة الأخوة الإنسانية التي تعتبر متقدمة جداً في مجال الحوار بين الأديان".

جال البابا في زيارات مختلفة توزعت على دول عربية، وحط في العام ٢٠١٧ في مصر، بعد تفجيرات استهدفت الكنائس القبطية، والتقى حينها بشيخ الأزهر، أحمد الطيب، وشارك في مؤتمر للسلام. هناك قال إن "الإيمان الحقيقي هو ذلك الذي يدفعنا إلى محبة الآخرين، لا إلى كراهيتهم". 

بعدها بسنتين، زار الإمارات في زيارة تاريخية لأول بابا يزور شبه الجزيرة العربية، ووقع مع شيخ الأزهر وثيقة "الأخوّة الإنسانية" التاريخية، داعياً من قلب الخليج إلى "نبذ الحرب، والعنصرية، والتمييز الديني". كما ترأس قداساً حضره أكثر من 100 ألف شخص في استاد زايد، ليقول للعالم: "الإيمان يوحّد ولا يُفرّق".

ما فعله البابا هو "كسر الحواجز وتأسيس منطلقات نظرية لاهوتية وشرعية وفقهية مع الجانب المسلم والتعاون لتأسيس للعيش معاً بشكل أفضل"، يقول أصفر. ويتابع: "البابا انطلق في ذلك من سلطته المتأتية من صلاحية قوية جداً على رأس هرم الكنيسة الكاثوليكية التي تضم أكبر جماعة مسيحية في العالم". 

حينما وقع انفجار هائل في مرفأ بيروت في أغسطس من العام ٢٠٢٠، عبّر البابا فرنسيس عن تضامنه العميق مع الشعب اللبناني، ووصف لبنان بأنه "رسالة" في التعايش، داعيًا العالم لعدم التخلي عنه: "لبنان لا يمكن أن يُترك وحيدًا... هو كنزٌ يجب الحفاظ عليه". 

خصص صلوات كاملة لأجل "نهضة لبنان من الرماد"، وكان يخطط لزيارة بيروت قبل أن تؤجل الزيارة بسبب وضعه الصحي. وأبدى اهتماماً كبيراً بأزمة السودان، وتدهورها في السنوات الأخيرة إلى انتهاكات شنيعة لحقوق الإنسان، فرفع الصلوات لسلام السودانيين ودعا إلى حماية المدنيين مما سماه "أسوأ أزمة إنسانية في العالم".

كما عبّر البابا فرنسيس مراراً عن قلقه العميق من تدهور الأوضاع بين الاسرائيليين والفلسطينيين في الشرق الأوسط وانسحاب الصراع إلى دول أخرى مثل لبنان. 

خلال زيارته لبيت لحم عام 2014، آتياً من الأردن، تحدث عن السلام وأهميته وعن حق الفلسطينيين كما الإسرائيليين بالأمان. 

وبعد الهجوم الذي شنّته حركة حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، أدان البابا فرنسيس بوضوح قتل المدنيين واختطاف الأبرياء، مع دعوة لوقف العنف من الجانبين: "أتابع بألم ما يحدث في إسرائيل وفلسطين... أدعو إلى الوقف الفوري للعنف الذي يحصد أرواحًا بريئة. الإرهاب والعنف لا يحققان السلام أبدًا".

ودعا إلى إطلاق سراح الرهائن وفتح ممرات إنسانية لغزة، مؤكدًا أن "كل إنسان له الحق في العيش بكرامة، سواء كان فلسطينياً أو إسرائيلياً".

في العام ٢٠٢٢ شارك في "ملتقى البحرين للحوار"، في زيارة ثانية الى الخليج، كشفت عن اهتمامه بتلك البقعة من العالم، حيث دعا إلى احترام الحريات الدينية، والحوار بين المذاهب والأديان، مؤكدًا أن "الاختلاف لا يجب أن يتحول إلى صراع".

لم يكن البابا الراحل فرنسيس يوماً زائراً غريباً عن المنطقة، وعن الشرق الأوسط، بل كان يحمل في قلبه الحب لجميع شعوب العالم، ويحمل بلسانه لغة الحوار والعدالة التي يفهمها الجميع بمعزل عن اختلاف لغاتهم. 

كان يعرف كيف يقارب الصراعات الحساسة بحسّ إنساني عال وبشجاعة ملحوظة، فيقف إلى جانب المدنيين دائما في الصراعات العسكرية، ويدعو المتحاربين إلى انهاء حروبهم وتجنيب المدنيين قسوة الحروب ومآسي القتل والدمار والتهجير.