تشهد العديد من الدول العربية أزمات في أسعار عملتها أمام الدولار الأميركي، حيث تعاني دولا مثل العراق ومصر ولبنان والسودان وتونس من تراجع في قيمة عملاتها ناهيك عن عدم القدرة على توفير الدولار في بعضها.
وفي الوقت الذي تعاني فيه دول من أزمات، هناك حالة من الاستقرار في أسعار صرف الدولار خاصة في دول الخليج، وحتى في الأردن رغم ما تعانيه من أزمات اقتصادية.
ورغم اختلاف الظروف والعوامل الاقتصادية في الدول التي تشهد أزمات في الدولار، إلا أن بعضها يشترك في معاناته من ضعف "الموارد الدولارية" وأزمات اقتصادية.
ويؤكد خبراء اقتصاديون أنه يجب التمييز بين الظروف الاقتصادية التي تحكم كل دولة عربية، إذ إن بعضها لديه نوع من الاستقرار مدعوما بـ"فوائض مالية" واقتصاد مستقر، بينما تعاني دول أخرى من "اختلالات هيكلية" في الاقتصاد حتى رغم تحقيق بعضها لفوائض مالية كبيرة من بيع النفط.
مصر.. تخفيض قيمة العملة
وهبطت أسعار صرف الجنيه المصري، الأربعاء، بأكثر من 100 في المئة مقابل الدولار، قبل أن تصبح نسبة التراجع 91 في المئة، بعدما خفضت قيمة العملة المصرية للمرة الثالثة في 10 أشهر، استجابة لمطالب صندوق النقد الدولي بحسب تقرير نشرته وكالة فرانس برس.
وتظهر الأرقام انخفاض قيمة الجنيه بنسبة 50 في المئة عما كان عليه في مارس الماضي، ليصبح يتداول ضمن مستويات 29-32 جنيه مقابل الدولار، مقابل مستوى 15 جنيه مقابل الدولار في مارس الماضي.
الخبير الاقتصادي، وائل النحاس، قال إن خلال الأشهر الماضي تعاني السوق المصرية من عدم استقرار في أسعار الصرف مقابل الدولار، وهو ما يترافق مع "تآكل قيمة العملة" بسبب نقص "الموارد الدولارية".
ويوضح في حديث لموقع "الحرة" أنه خلال سنوات ماضية استطاعت مصر أن توفر نوعا من الاستقرار في أسعار الصرف مقابل العملات الأجنبية، ولكنها خلال السنوات القليلة الماضية توسعت في الاقتراض لإنشاء مشاريع حيوية في البنية التحتية ولكنها لم تستطيع توليد أي عوائد منها.
وأضاف نحاس أنه، على سبيل المثال، اقترضت مصر المليارات لإنشاء محطات توليد الكهرباء، لكنها لم تعزز شبكة التوزيع أو تجد منفذا لبيع فائض الكميات من الكهرباء.
وأكد أنه "يرفض فكرة اللجوء لصندوق النقد الدولي، والذي قد يغرق البلاد في ديون كثيرة ستفرض عليه أعباء كبيرة في خدمة الدين"، داعيا إلى "إعادة النظر في سبل إنفاق الموارد المتأتية لمصر والتي تقدر بنحو 95 مليار دولار سنويا"، مشيرا إلى أنه يوجد عامل مهم يدعم الاقتصاد ألا وهو "الاستقرار السياسي والأمني".
والشهر الماضي، وافق صندوق النقد الدولي على منح مصر قرضا بقيمة ثلاثة مليارات دولار تسدد على 46 شهرا. ولكن هذا القرض ليس سوى قطرة في بحر إذ يبلغ عبء خدمة الدين الذي يتعين على القاهرة سداده خلال العام المالي 2022-2023 حوالى 42 مليار دولار، وفق البنك الدولي.
وارتبط القرض ببرنامج للإصلاح الهيكلي اتفقت عليه مصر مع الصندوق يقضي بأن يمتنع البنك المركزي عن التدخل لتثبيت سعر الصرف وأن يتركه مرنا.
وتعاني مصر من أزمة حادة في النقد الأجنبي.
وتراجع الاحتياطي من النقد الأجنبي إلى 34 مليار دولار مقابل 41 مليار في فبراير. ويشمل هذا الاحتياطي 28 مليار دولار من الودائع التي أودعتها دول الخليج الحليفة لمصر لدى البنك المركزي المصري.
وبسبب أزمة النقد الأجنبي التي ساهم فيها خروج قرابة 20 مليار دولار من مصر بسبب قلق المستثمرين عقب اندلاع الحرب في أوكرانيا، قامت معظم البنوك بتقييد السحب بالدولار خارج مصر، كما رفعت عمولة استخدام البطاقات الإئتمانية في عمليات الشراء في الخارج من 3 في المئة إلى 10 في المئة، بحسب فرانس برس.
وتحاول الدولة، وهي واحدة من خمس دول في العالم معرضة لأن تفقد القدرة على سداد ديونها وفق وكالة "موديز" للتصنيف، توفير أكبر قدر ممكن من الدولارات.
وفي ديسمبر الماضي ارتفع معدل التضخم السنوي في مصر ليبلغ قرابة 22 في المئة وسط ارتفاع أسعار الغذاء نتيجة انخفاض قيمة العملة المحلية ونقص العملة الأجنبية، فيما طالب صندوق النقد الدولي الحكومة بتشديد سياستها النقدية لمواجهة ذلك.
العراق.. "أزمة مستمرة"
ومنذ عدة أسابيع يشهد العراق ارتفاعا في سعر صرف الدولار عما هو محدد من قبل البنك المركزي العراقي، إذ يتم تداوله ضمن مستويات 1570 دينار مقابل الدولار، بينما تبلغ أسعاره الرسمية ضمن مستويات 1460-1470 دينارا مقابل الدولار، بحسب تقرير نشرته وكالة الأنباء العراقية "واع".
وأعلن المركزي العراقي في نهاية ديسمبر الماضي حزمة إجراءات بهدف ضبط استقرار سعر الصرف مقابل الدولار، من بينها، تسهيل تمويل تجارة القطاع الخاص بالدولار من خلال المصارف العراقية، وفتح منافذ لبيع العملة الأجنبية في المصارف الحكومية للجمهور لأغراض السفر.
أستاذ العلاقات الاقتصادية الدولية في الجامعة العراقية، عبدالرحمن نجم المشهداني، قال إن ما نشهده في العراق يشكل "انخفاضا بقيمة الدينار العراقي أمام الدولار، وهو يختلف عما قامت به الحكومة في 2020 بتخفض قيمة العملة الذي كان مقصودا حينها".
ويشرح في تصريحات لموقع "الحرة" أن أسباب انخفاض قيمة الدينار العراقي أمام الدولار له عدة أسباب، منها "الإجراءات التي اتخذت فيما يتعلق بمبيعات نافذة بيع العملة الأجنبية والتي وصلت لمستويات قياسية، وهو ما يشكل مؤشرا على غسل وتهريب الأموال، وهو ما تنبه له البنك الفيدرالي الأميركي، وما دفعه إلى معاقبة إلى 4 مصارف كانت تستحوذ على 40 في المئة من مبيعات النافذة، وهو ما قلل المبالغ المتاحة للتداول، وخفض الحوالات الخارجية".
ويحتل العراق، البلد الغني بالنفط لكن المنهك من الفساد وتبييض الأموال، المرتبة 157 (من 180) في مؤشر منظمة الشفافية الدولية عن "مدركات الفساد".
وأضاف المشهداني أن هذا الأمر إضافة إلى "استخدام منصة إلكترونية جديدة من قبل البنك المركزي العراقي"، دفع بالعديد من المتعاملين إلى التعامل مع مكاتب الصيرفة والسوق الموازية، ليصبح هناك طلبا كبيرا على "الدولار الكاش"، ما تسبب في تراجع قيمة الدينار العراقي.
وكان البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي قد فرض تعديلات على إجراءات الحوالات العراقية التي تمر بنظام "سويفت"، لتضم تدقيقا في مصدر الأموال وحتى المستقبِل النهائي، وهو ما جاء بعد تبعات ما عرف بقصة "سرقة القرن" في العراق.
وكان صندوق النقد الدولي قد أوصى، في مطلع ديسمبر، بتعزيز الاستقرار المالي في العراق، من خلال تسريع عملية تنفيذ النظم المصرفية الأساسية، والشروع في إعادة هيكلة المصارف الحكومية الكبرى، مشير إلى أن خبراء الصندوق يدعمون جهود البنك المركزي الرامية إلى تعزيز الرقابة على المعاملات من خلال مزاد العملات الأجنبية، وخططه التي تهدف إلى استكشاف الآليات البديلة لتمويل التجارة بغية تسهيلها.
كما يدعو الصندوق إلى "تطوير الأدوات اللازمة لإدارة السيولة النقدية لأجل دعم استقرار سعر الصرف على نحو أفضل".
الاستقرار في أسعار الصرف.. هل يعني ثبات قيمة العملة؟
ويقول المحلل الاقتصادي، عامر الشوبكي، إن العديد من الدول العربية لا تزال فيها البنوك المركزية تتحكم بأسعار الصرف بشكل عام، رغم ما يحصل في الأسواق الموزاية، وهذا يشمل أيضا مصر التي "عومت أسعار الجنيه" منذ 2016، إلا أنها بقيت تتحكم في مستويات الأسعار.
ويرى في حديث لموقع "الحرة" أن آثار جائحة كورونا وما تبعها من الحرب الأوكرانية، ولدت الكثير من الضغوط الاقتصادية لبعض الدول مثل مصر وتونس والسودان، والتي دفعها إلى تخفيض سعر صرف عملتها مقابل الدولار.
ويشير إلى أنه رغم تثبيت أسعار صرف بعض العملات أمام الدولار مثل دول الخليج، إلا أن هذا الأمر يضع أعباء على السياسات المالية والنقدية في هذه الدول، إذ أن هذه الدول تستطيع استخدام فوائض النفط لديها لتعويض أي نقص في قيمة العملة.
ويرى المشهداني أن الدول التي تشهد استقرارا في سعر الصرف، مثل الأردن لا يعني بالضرورة ثبات قيمة العملة بالمطلق، إذ يرتبط الدينار بتثبيت سعر صرفه أمام الدولار منذ التسعينات، مشيرا إلى أن هذه السياسة النقدية خدمت اقتصاد البلاد.
وأضاف أن السوق الأردنية رغم تثبيت أسعار الصرف، إلا أن معدلات التضخم مرتفعة، نتيجة تغير الأسعار في السوق العالمية، ما يعني أن " قيمة الدينار الأردني، تشهد تخفيضا غير مباشر، ما يعني أن قيمته تتراجع بشكل غير مباشر".
ويعاني الأردن أوضاعا اقتصادية صعبة فاقمتها ديون تناهز 47 مليار دولار، أي ما نسبته 106 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، بحسب بيانات المالية العامة منذ يناير وحتى نهاية أغسطس.
وارتفع معدل التضخم السنوي لأكثر من 5.2 في المئة بنهاية أكتوبر الماضي، بحسب المراجعة الخامسة لأداء الاقتصاد الأردني، التي أعلن عنها صندوق النقد في نوفمبر الماضي.
ويوضح الصندوق أن أسعار السلع محليا تعتبر "معتدلة" مقارنة بالمستوى العالمي، ولكنها تعكس ارتفاعا في انتقال زيادة أسعار المحروقات والغذاء العالمية.
ويوضح المشهداني أن الاستقرار في دول الخليج في أسعار الصرف، يعود بالنهاية إلى أنها دولة نفطية، والدولة لا تزال تتحكم بالاقتصاد وتقدم الدعم والمساعدات، وهي مسؤولة عن تقديم الخدمات بأسعار رمزية، وهي لديها ملاءة مالية عالية، وديونها قليلة.
وفيما يتعلق بلبنان قال المشهداني، إن انخفاض قيمة الليرة اللبنانية إلى مستويات قياسية، يعود إلى سوء إدارة البنك المركزي، الذي أثر على المصارف اللبنانية بعدما استولى على احتياطياتها من الدولار، بذرائع مختلفة.
وخلال ثلاث سنوات، خسرت الليرة أكثر من 95 في المئة من قيمتها أمام الدولار، وأصبح ثمانون في المئة من السكان تحت خط الفقر، وفق الأمم المتحدة.
وتوصل لبنان مع صندوق النقد الدولي في أبريل الماضي إلى اتفاق مبدئي على خطة مساعدة بقيمة ثلاثة مليارات دولار على أربع سنوات، تطبيقها مرتبط بالتزام الحكومة تنفيذ إصلاحات.
وتعتبر الأزمة الاقتصادية المتمادية الأسوأ في تاريخ لبنان، وتترافق مع شلل سياسي يحول دون اتخاذ تدابير تحد من التدهور وتحسن من نوعية حياة السكان.
ويتفق الخبير الاقتصادي نحاس، مع ما قاله المشهداني "إن هناك عوامل تدفع باستقرار أسعار صرف الدولا في الدول الخليجية، إذ أنها تعتمد على إنتاج النفط وتصديره، وغالبية هذه الحركات المالية تجري بالدولار".
وأشار إلى أن هذه الدول لديها "الملاءة المالية" و"فوائض مالية" يمكنها دعم اقتصادها وعملتها بها، مضيفا أن هناك دول أخرى لديها فوائض مالية كبيرة من بيع النفط مثل العراق أو ليبيا، ولكنها لديها مشاكل هيكلية في الاقتصاد تحرمها من التنمية.
ويتوقع البنك الدولي في أحدث تقاريره الذي صدرة أواخر أكتوبر الماضي، أن تنمو اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي بنسبة 6.9 في المئة في عام 2022 قبل أن تنخفض إلى 3.7 في المئة و2.4 في المئة في عامي 2023 و2024 على التوالي.
ويتوقع البنك أن يقترب مجموع إجمالي الناتج المحلي لدول مجلس التعاون الخليجي من تريليوني دولار في عام 2022. في حال استمرت دول المجلس في العمل كالمعتاد، فإن إجمالي ناتجها المحلي سينمو إلى 6 تريليونات دولار بحلول عام 2050.
أما إذا عمدت هذه الدول إلى تنويع اقتصادها يمكن لنمو إجمالي الناتج المحلي أن يتجاوز 13 تريليون دولار بحلول عام 2050.