"أزمة ارتفاع تكلفة المعيشة ستكون من أكبر المخاطر العالمية خلال السنتين القادمتين"، هكذا صنف المنتدى الاقتصادي العالمي في تقريره لعام 2023 أزمة ارتفاع أسعار الحاجات الأساسية التي حددها بالمواد غير المستهلكة مثل الغذاء والسكن.
وأوضح المنتدى في تقريره للنسخة الـ 18 بعنوان "المخاطر العالمية – 2023" أن أزمة التضخم التي تسببت في ارتفاع الأسعار بدأت قبل جائحة "كوفيد 19"، ثم استمرت التكاليف في الازدياد مرة أخرى في عام 2022، بسبب الاضطرابات المستمرة في تدفقات الطاقة والغذاء، نتيجة الحرب الروسية على أوكرانيا.
مخاطر متوقعة
ويقدم التقرير السنوي تصورات المخاطر العالمية المتوقعة على الاقتصادات والمجتمعات على مدى العامين المقلبين، من أزمات الديون وانهيار الدول والبطالة والركود الاقتصادي، إلى أزمات توفير المواد الأساسية وغلاء المعيشة، بالإضافة إلى الارتفاع المتواصل والسريع للتضخم.
ولمواجهة زيادة الأسعار على المستوى المحلي، ذكر التقرير أن حوالي 30 دولة حول العالم فرضت قيودا عدة منها حظر صادرات الغذاء والطاقة العام الماضي، مما أدى إلى زيادة التضخم العالمي وحدوث تقلبات كبيرة في أسعار السلع الأساسية.
وبحسب التقرير، وصل مؤشر أسعار منظمة الأغذية والزراعة في مارس من العام الماضي إلى أعلى مستوى له منذ إنشائه عام 1990. ومن المتوقع أن تستمر أسعار الطاقة في الارتفاع بنسبة 46 بالمئة في المتوسط عام 2023 وهذا سيضع قدرة سلاسل التوريد العالمية على الصمود في اختبار صعب. وقد يؤدي ذلك إلى زيادة ارتفاع أسعار الفائدة، ما يزيد من مخاطر أزمة الديون والانكماش الاقتصادي طويل المدى.
"الاضطرابات الاجتماعية وعدم الاستقرار السياسي"، كانت محل تركيز من المنتدى، الذي أوضح في تقريره أنها نتائج حتمية لاستمرار أزمة تكلفة المعيشة العالمية التي ستؤثر بشكل أكبر على القطاعات الأكثر فقرا في المجتمع، وستحرمهم من الوصول إلى الاحتياجات الأساسية. وأشار إلى أنه بسبب زيادة أسعار الوقود وحدها، شهدت حوالي 92 دولة احتجاجات أدى بعضها إلى اضطرابات سياسية ووفيات.
ديون الأسر
أزمة أخرى سلط التقرير الضوء عليها وهي استمرار ارتفاع ديون الأسر في العديد من دول العالم رغم حدوث بعض التحسن بعد انخفاض حدة فيروس كورونا. كما وصلت معدلات الرهن العقاري العالمية إلى أعلى مستوى لها منذ أكثر من عقد بزيادة بلغت 35 بالمئة في مدفوعات الرهن العقاري لأصحاب المنازل. وقد تبع ذلك أيضا تضخم الإيجارات في الولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال، ومن المقدر أن يصل إلى ذروته بأكثر من 8 بالمئة في مايو العام الحالي. كما سيتأثر المتقاعدون بسبب فشل المعاشات التقاعدية في مواكبة ارتفاع التضخم.
دول متضررة
وأشار المنتدى إلى دول بعينها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا باعتبارها من أشد المتضررين بأزمة تكلفة المعيشة وتوفر الضروريات الأساسية وبالتالي عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي وهي تونس وغانا وباكستان ومصر ولبنان الصومال والسودان وجنوب السودان وسوريا. وأوضح أن هذه الدول تعتبر من الأسواق الناشئة الفقيرة التي تواجه بالأساس أزمات في الغذاء والطاقة والديون وهذا سيجعلها معرضة لسيناريو إنساني كارثي من الجوع والفقر خاصة مع استمرار اعتمادها على الاستيراد.
وقال الخبير الاقتصادي ورئيس معهد السياسة العالمية، باولو فون شيراك، في حديثه لموقع "الحرة" إن أزمة تكلفة المعيشة بالفعل أضرت العديد من دول العالم المتقدم بما فيها اليابان وأوروبا والولايات المتحدة الأميركية التي تحاول تقليص معدل التضخم عبر قرارات كبيرة مثل زيادة الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي) أسعار الفائدة بواقع 25 نقطة أساس، الثلاثاء الماضي.
وفيما يتعلق بالحلول التي من الممكن أن تتخذها هذ الدول لمكافحة الأزمة، أوضح أن تداعيات أزمة ارتفاع تكلفة المعيشة ستستمر لا محالة بما فيها خسارة العديد من الموظفين وظائفهم وارتفاع نسب البطالة والفقر. لكنه يختلف مع التقرير حول موعد انتهاء الأزمة الحالية خاصة بالنسبة للولايات المتحدة التي توقع أنها ستتغلب عليها بنهاية عام 2023 وليس 2025.
"كارثة إنسانية شديدة"
وبشأن دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تعاني بشكل أكبر، يرى شيراك أن الحلول تكاد تكون منعدمة أمام هذه الدول. وأوضح أن دولة مثل مصر تعاني من وضع اقتصادي شديد السوء بسبب ما اعتبره "سوء إدارة صاحبها قرارات اقتصادية خاطئة".
وأشار إلى أن دول أخرى مثل باكستان ولبنان على حافة الانهيار ومن المتوقع تعرضهما إلى "كارثة إنسانية شديدة". وأوضح أن الحل الوحيد أمام دول الشرق الأوسط هو تلقي المساعدات من المنظمات والمؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد بالإضافة إلى ضرورة أن تسرع دول العالم المتقدم في توفير حزم ومساعدات مالية إلى هذه الدول.
فرصة الخروج من المأزق
ومن جانبه يرى الخبير الاقتصادي ورئيس مركز العاصمة للدراسات الاقتصادية، خالد الشافعي، أن أزمة تكلفة المعيشة تؤثر على جميع دول العالم حاليا ومن المتوقع أن تستمر خاصة مع توقع تفاقم الصدام بين الولايات المتحدة الأميركية والصين.
وقال لموقع "الحرة" إن دول الشرق الأوسط مثل مصر وتونس ولبنان تعاني بشكل أكبر من غيرها لعدة أسباب أبرزها ضعف الرقابة الحكومية على الأسواق والأسعار، الاعتماد الكلي على الاستيراد، عدم دعم الصناعات المحلية، ضعف نظام الدعم الاجتماعي والاقتصادي للقطاعات الفقيرة في المجتمع، بالإضافة إلى الفساد وسوء الإدارة.
وبعكس رأي شيراك بشأن الحلول الممكنة أمام دول الشرق الأوسط، يرى الشافعي إن هذه الدول خاصة العربية منها لديها فرصة هائلة للخروج من هذا المأزق العالمي إذا قررت الاتحاد على المستوى الاقتصادي والتجاري للوصول إلى صيغة توافقية لتحقيق الاكتفاء الذاتي في الغذاء والطاقة.
وتابع أن الدول العربية لديها العديد من الامتيازات التي من الضروري استغلالها، إذ أن أغلب الدول تتمتع بهدوء وسلام نسبي واستقرار على عكس ما يحدث في أوروبا والغرب عموما، فضلا عن وفرة الموارد الطبيعية من أراض خصبة وطاقة، وهذا يجعلها قادرة على التركيز على تعزيز الشق التجاري والاقتصادي.
"الإرادة السياسية والتوقف على الاعتماد على الغرب" هما العاملان الأساسيان الذي يرى الشافعي ضرورة تواجدهما لتحقيق مثل هذا الاتحاد. وأوضح أنه في الوقت الحالي وقعت أغلب الدول العربية بالفعل اتفاقات سلام مع إسرائيل وهذا يساعد على تهدئة الأوضاع في المنطقة العربية.
وأشار إلى دولة مثل مصر تتمتع حاليا ببنية تحتية متطورة بالإضافة إلى توفر الأيدي العاملة وهذا يجعلها قادرة على توطين الصناعات الحيوية واستقبال المزيد من الاستثمارات لتقليل الواردات وتخفيف عجز الميزان التجاري وعدم توافر العملة الأجنبية.
وأكد أنه في الوقت الحالي بدأت مصر بالفعل في التعاون مع دول مختلفة مثل العراق والأردن لتبادل سد النقص في الموارد، فعلى سبيل المثال ستصدر مصر للعراق الأيدي العاملة مقابل الحصول على الطاقة، كما اتفقت مصر مع الأردن على إيصال الغاز لإسرائيل من مصر عبر الأردن. كما تسعى مصر جلب المزيد من الاستثمارات الخليجية خاصة في قطاع العقارات.
وأوضح أن دولة مثل السودان تحاول الاتفاق مع عدد من دول الخليج لاستغلال مواردها من الأراض الخصبة مقابل مساعدتها في سداد ديونها لحل أزماتها.
وخلص الشافعي إلى استمرار اعتماد دول الشرق الأوسط ذات الأسواق الناشئة والضعيفة على تلقي مساعدات الغرب ليس إلا مضيعة للوقت وخسارة للفرص المتاحة لأن أغلب هذه الدول بما فيها واشنطن وبكين وروسيا وأوروبا لديهم مشاكلهم الخاصة التاي يحاولون التعامل معها.