إذا كنت تعيش في الولايات المتحدة وتجد قيمة السلع التي تشتريها لا تزال مرتفعة عن مستوياتها قبل أعوام الأمر الذي يضعك أمام ضائقة مالية، فأنت من بين أكثر من 60 في المئة من الأميركيين الذين يقولون إن زيادة الأسعار تسبب صعوبات مالية لهم ولأسرهم.
ويقول ثلاثة أشخاص من بين كل خمسة أميركيين إن ارتفاع الأسعار يسبب صعوبات مالية لهم ولأسرهم، وفق استطلاع أجرته مؤسسة غالوب البحثية في أبريل الماضي وأعلنت نتائجه منتصف مايو.
ووصف 46 في المئة من البالغين في الولايات المتحدة المشاركين في الاستطلاع معاناتهم بسبب ارتفاع التضخم بـ"المعتدلة", لأنها لا تعرض مستوى معيشتهم للخطر، فيما قال 15 في المئة إن معاناتهم "شديدة" وتؤثر على مستوى معيشتهم الحالي.
والتضخم ببساطة يمثل ارتفاع الأسعار أو انخفاضها، وتقاس بما يعرف بـ"سلة المستهلك" وهي عبارة عن مجموعة متنوعة من "السلع والخدمات" المرتبطة بالمعيشة، والتي تشمل المواد الغذائية الأساسية والخدمات الضرورية للحياة مثل المسكن أو التنقل أو غيرها.
وعلى سبيل المثال، إذا كان سعر سلعة ما 10 دولارات، إذا زادت لتصبح 11 دولار فهذا يعني زيادة نسبتها 10 في المئة، وإذا انخفضت إلى 9 دولارات فهذا يعني نقصانها بـ10 في المئة، أما إذا استقرت على الثمن ذاته فهذا يعني معدل تضخم صفري.
ومنذ أقل من بضعة أعوام يأخذ التضخم منحى تصاعديا والذي بدأ بتداعيات جائحة كورونا وأثرها على الإغلاقات التي أثرت على سلاسل الإنتاج، وما تبعها من أزمات عالمية كان آخرها الحرب الروسية على أوكرانيا، والتي أثرت على أسعار الطاقة والسلع والمنتجات المختلفة.
ارتفاع معدلات التضخم تسبب بحالة من الاستنفار لدى البنوك المركزية والمؤسسات المالية، ما دفعها باللجوء إلى المبادئ الاقتصادية برفع أسعار الفائدة لمواجهة التضخم.
وعادة ما يلجأ الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) إلى كبح التضخم من خلال رفع سعر الفائدة الأساسي بهدف زيادة تكاليف الاقتراض على الأفراد والشركات، على افتراض أن يؤدي ذلك إلى زيادة تكلفة الإنفاق على الجميع، ودفعهم إلى خفض إنفاقهم ما يعني تراجع الطلب في الأسواق على السلع والخدمات، وبالتالي إبطاء التضخم.
ورغم رفع الفائدة مرات متتالية، إلا أنه لم يفلح في خفض التضخم إذ لا تزال المستويات أعلى مما كانت عليه سابقا، فيما يشكو العديد من الأميركيين من تآكل الدخل.
ومنذ العام الماضي، رفع الاحتياطي الفيدرالي معدلات الفائدة الرئيسية عشر مرات.
ولم تفلح تصريحات جيروم باول، رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، في إعطاء جرعة من الأمل للأسواق حول أثر رفع أسعار الفائدة في إبطاء وتيرة التضخم، بعدما قال إنه "لم يتضح بعد ما إذا كانت هناك حاجة لمزيد من رفع أسعار الفائدة وسط حالة من الضبابية تحيط بتأثير كل من الزيادات السابقة وأحدث أزمة في القطاع المصرفي مع حقيقة أن التضخم أظهر أنه من الصعب السيطرة عليه".
ويهدف الاحتياطي الفيدرالي إلى خفض معدل التضخم على أساس سنوي إلى 2 في المئة، ولكن من الصعوبة تحقيق ذلك حتى عام 2025، وهو ما يتوقعه صندوق النقد الدولي في آخر مراجعاته للاقتصاد الأميركي.
بيانات التضخم
وارتفع مؤشر أسعار المستهلكين في الولايات المتحدة، في أبريل، بسبب زيادة تكاليف البنزين والإيجارات، بينما ظل التضخم الأساسي قويا مع ارتفاع أسعار السيارات المستعملة.
وقالت وزارة العمل، في مطلع مايو، إن المؤشر ارتفع 0.4 في المئة، في أبريل، بعد صعوده 0.1 في المئة، في مارس، وخلال 12 شهرا حتى أبريل، زاد المؤشر 4.9 في المئة بعد ارتفاعه خمسة في المئة على أساس سنوي، في مارس، بحسب تقرير لوكالة رويترز.
ووصل مؤشر أسعار المستهلكين السنوي إلى ذروته عند 9.1 في المئة، في يونيو الماضي، في أكبر زيادة له، منذ نوفمبر عام 1981، ويتراجع حاليا مع انحسار أثر ارتفاع أسعار الطاقة العام الماضي بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.
وباستثناء المواد الغذائية ومكونات الطاقة المتقلبة، ارتفع مؤشر أسعار المستهلكين 0.4 في المئة في أبريل ليتطابق مع المكاسب في مارس. وصعد ما يسمى بمؤشر أسعار المستهلكين الأساسي مدعوما بأسعار السيارات المستعملة، التي زادت لأول مرة منذ يونيو الماضي.
وخلال 12 شهرا حتى أبريل، ارتفع مؤشر أسعار المستهلكين الأساسي 5.5 في المئة بعد صعوده 5.6 في المئة في مارس.
الآثار التراكمية للتضخم
وتكشف بيانات التضخم في الولايات المتحدة إلى أنها وصلت إلى أدنى مستوى في عامين، ولكن الآثار التراكمية على مدى الأعوام القليلة الماضية لا تزال تؤثر على المستهلكين، بحسب غالوب، خاصة لذوي الدخل المنخفض الذين يقل دخلهم السنوي للأسرة عن 40 ألف دولار.
وحتى مع تراجع التضخم فقد أدى ذلك إلى توسيع "الآلام المالية" التي يشعر بها الأميركيون، ويسبب مشقة لأسرهم، ويمثل أكبر مشكلاتهم المالية، ما يعني أن التباطؤ الأخير الذي تكشفه البيانات لم "يفعل الكثير" لتوفير الراحة للأميركيين، وقد يتطلب الأمر مزيدا من التغييرات "الدراماتيكية في الأسعار" حتى تهدأ الآثار الضارة للتضخم، وفق "غالوب".
ويقول حوالي 65 ممن يقل دخلهم عن 100 ألف دولار إن ارتفاع الأسعار أثر على معيشتهم بشكل متوسط وشديد، وهو ما يقوله أيضا نحو 45 في المئة ممن يزيد دخلهم السنوي عن 100 ألف دولار سنويا.
ويعتبر "التضخم" وارتفاع الأسعار المشكلة الأولى التي يقول 35 في المئة من الأميركيين البالغين إنها أبرز مشكلة مالية واقتصادية تواجههم، وفق استطلاع آخر لغالوب، وهي تعتبر النسبة الأعلى في نحو عقدين.
"ضريبة خفية تسرق جيوب الفقراء"
بروفيسور "الاقتصاد التطبيقي" في جامعة جون هوبكنز، ستيف هانك، وصف التضخم الحالي بأنه "ضريبة خفية تسرق جيوب الناس، وسواء كانت مخفية أو معلنة، لا أحد في الولايات المتحدة أو حتى في أنحاء العالم يحب دفع هذه الضريبة".
وقال في تصريحات لموقع "الحرة" إن هذا التضخم الذي يشبه الضرائب "يجعل الناس فقراء، وبما يؤثر على الجميع بالمجمل، ولكن تأثيراته واضحة على الطبقة الوسطى التي تتقلص".
ويشرح هانك، الذي عمل ضمن فريق المستشارين الاقتصاديين للرئيس الأميركي الأسبق، رونالد ريغان، أن "ضريبة التضخم الخفية تؤدي إلى تآكل الدخل وحتى المدخرات للناس".
وقال إن "ضريبة التضخم الخفية تؤثر على الفقراء وذوي الدخل المحدود بشكل أكبر من الأغنياء، لأن لا خيار أمامهم سوى إنفاق كل دخلهم، ولهذا تشبه ضريبة التضخم المخفية ما يعرف بـ(الضريبة التنازلية)".
و"الضريبة التنازلية" تمثل عادة "النسبة المئوية من الدخل التي تدفع كضريبة، وهي تنخفض كلما زاد المبلغ الخاضع للضريبة"، وهي تعني أن "النسبة المئوية من الدخل التي تدفعها الفئات منخفضة الدخل أكبر من الفئات ذات الدخل المرتفع".
وقد تبدو هذه الضريبة "شكلا عادلا من الضرائب، لأن الجميع بغض النظر عن مستوى دخلهم يدفعون مبلغا ثابتا، ولكن في الواقع تدفع هذه الضريبة الفئات ذات الدخل المنخفض لدفع نسبة أكبر من الآخرين، والتي قد لا تستخدم كنسبة حقيقة من الدخل، ولكن يمكنك رؤيتها بشكل مباشر في الضرائب التي تدفع على: البنزين، والتبغ والكحول، وبعض السلع الفاخرة والخدمات، والمجوهرات والعطور والسفر"، على حد تعبيره.
وبعض هذه الضرائب التنازلية قد تكون على شكل رسوم يدفعها الجميع بغض النظر عن الدخل مثل "رسوم التراخيص، ومواقف السيارات، ورسوم الدخول للمتاحف والحدائق، ورسوم عبور الطرق والجسور والأنفاق"، بحسب هانك.
"معركة شاقة"
وحتى مع تراجع بيانات التضخم على أساس سنوي من 9.1 في المئة إلى 5 في المئة، إلا أن ضغوط ارتفاع الأسعار تشكل ما تصفه صحيفة "واشنطن بوست" بـ"معركة شاقة للمستهلكين والسياسيين وصناع السياسة".
وتظهر البيانات الأخيرة للتضخم أن أسعار الكهرباء حاليا تكلف أكثر بـ10 في المئة عما كانت عليه قبل عام، فيما زادات تكاليف الغذاء والمسكن بأكثر من 8 في المئة، عما كانت عليه سابقا.
ميكي ليفي، كبير الاقتصاديين في "بيرنبرغ كابيتال ماركتس"، قال للصحيفة إن "الانخفاض التدريجي للتضخم لا يجعل الناس يشعرون به"، مضيفا أن استمرار الناس برؤية ارتفاع الأسعار يزيد من "الإحباط بشأن التضخم".
ليز آن سوندرز، خبيرة اقتصادية في مؤسسة تشارلز شواب، أوضحت أن "التضخم مسألة فردية للغاية، فالجميع يختبره بطريقة مختلفة تماما".
وقالت لواشنطن بوست: "نحن المحللون الاقتصاديون مهووسون بالقراءات الشهرية للبيانات.. ولكن ليس هذا ما يهم معظم الناس.. إنهم يفكرون في الأمر من حيث المبلغ الذي ينفقونه عند شراء الطعام أو دفع الإيجار".
وتحذر الصحيفة من أن يؤدي استمرار ارتفاع الأسعار لما وصفته بـ"التضخم العنيد"، والذي "سيعزز من قلق المسؤولين في الاحتياطي الفيدرالي، وسيبدأ المستهلك والشركات في توقع استمرار مثل هذه الزيادات ، ويخلق دورة تشكل تحديا أكثر ديمومة في مواجهة البنوك المركزية".
ويخشى الاحتياطي الفيدرالي حدوث "تضخم معمم في الاقتصاد"، بحسب تصريحات لليزا كوك، العضو في مجلس حكامه، في أبريل الماضي.
وأشارت كوك إلى أن مختلف مقاييس التضخم "عادت من مستوياتها المرتفعة، إلا أنها تبقى مرتفعة، مما يشير إلى تضخم معمم في الاقتصاد".
وأضافت أن "السؤال الكبير هو ما إذا كان التضخم سيستمر في مساره التراجعي وبأي سرعة".
كيف ارتفعت تكاليف المعيشة؟
الخبير الاقتصادي الأميركي، ديفيد باين، قال إن "الناس يشعرون أنهم أصبحوا أكثر فقرا، رغم تثبيط معدلات التضخم عما كانت عليه في ذروتها، أواخر عام 2021، إلا أن قيمة كل شيء أصبحت أعلى مما كانت عليه، بدءا من المواد الغذائية ووصولا إلى كل سلعة أو خدمة".
وأوضح في رد على استفسارات موقع "الحرة" أن معدلات التضخم "أطاحت حتى بزيادة الدخل التي حصل عليها بعض العاملين في تجارة التجزئة، إذ أن ارتفاع تكاليف المعيشة، خاصة للاحتياجات الأساسية مثل المسكن والطعام والسيارات، كانت أكبر من الزيادات في الرواتب".
وقال باين، وهو أحد الاقتصاديين في مجموعة "كيبلينغر" الاقتصادية ومسؤول سابق في وزارة التجارة الأميركية: "إنه التضخم.. تسبب في تآكل قيمة المدخرات والدخل، فكل شيء يكلف أكثر".
وفي حساب مقارنٍ لتكلفة المعيشة والدخل أجراه باين تبين أن "الدخل والأسعار ارتفعت بمقدار ثابت منذ بداية جائحة كورونا، في فبراير من عام 2020 وحتى أبريل الماضي، وبما يعادل 17 في المئة" في الولايات المتحدة.
ويشرح أن "التوقيت كان له دورا حاسما في مسألة شعور الناس بالتضخم، إذا أن الأجور زادت خلال الفترة ما بين فبراير 2020 وحتى ديسمبر من العام ذاته، بنسبة 5 في المئة، بينما لم تتجاوز الزيادة في الأسعار بشكل عام الـ 1 في المئة، وهو ما جعل الجميع يشعرون بأنهم أصبحوا أكثر ثراء".
ولكن "منذ مطلع 2021 وحتى أبريل الماضي، بدأت الأسعار تأخذ اتجاها صاعدا وكأنها في مارثون لتتجاوز الزيادات في الرواتب، حيث ارتفعت الأسعار بنسبة 17.5 في المئة خلال هذه الفترة، مقابلة زيادات في الرواتب أقل من 12 في المئة"، بحسب باين.
ويستطرد أن هذه النتائج تُظهر أن الجميع كانوا في "وضع جيد خلال الأوقات الماضية، ولكن الجميع شعروا بأنهم أكثر فقرا.. فيما أصبح البعض في وضع أسوأ مما كانوا عليه، خاصة بعد القفزات في أسعار بعض الأساسيات مثل أثمان المنازل، إذ وجد العديد من الأفراد أنهم غير قادرين على تحقيق حلم امتلاك منزل خاص بهم".
دوغ ماكميلون، الرئيس التنفيذي لمجموعة متاجر "وول مارت"، قال في تصريحات، في فبراير الماضي، إنه "قد نسمع أن أرقام التضخم بدأت في الانخفاض، ولكن علينا أن نتذكر أن هذه الأرقام تتراكم منذ عامين".
وأضاف "لذلك حتى وإن تراجعت أسعار بعض السلع الاستهلاكية بنسبة 3 إلى 5 في المئة، فهي لا تزال أعلى بنسبة 15 في المئة عما كانت عليه سابقا".
هل تنزلق الطبقة الوسطى؟
ولا يشعر الأميركيون بتراجع الأسعار، رغم أن التضخم في أقل مستوياته منذ عامين لأمر "بسيط جدا، إذ أن ارتفاع الأسعار لم ينخفض بدرجة كافية وهي مستمرة في الزيادة، حتى لو كانت أقل بشكل طفيف عما كانت عليه من قبل، فيما بقيت الأجور والرواتب بالمعدلات ذاتها"، بحسب ما قال الخبير الاقتصادي ورئيس معهد السياسة العالمية، باولو فون شيراك، لموقع "الحرة".
ولا يعتقد شيراك أن أرقام التضخم الحالية ستؤدي إلى "انكماش الطبقة المتوسطة أو انزلاقهم ضمن الطبقة الفقيرة"، مشيرا إلى أن هذا لا يعني أن "خياراتهم في الإنفاق بالحرية ذاتها التي كانوا يتمتعون فيها سابقا"، وتسبب "التضخم المصاحب لعدم زيادة في الدخل بتقييد خيارات ملايين الأميركيين، خاصة فيما يتربط بالإنفاق التقديري".
و"الإنفاق التقديري" أو الذي يعرف أيضا باسم "الإنفاق الاختياري،" يمثل في أبسط تعريفاته "مجموعة من النفقات غير الأساسية والتي قد تشمل النفقات الترفيهية أو تلك التي ترتبط بنمط حياة معين"، مثل شراء أثاث جديد أو تغيير السيارة أو الإنفاق على الرحلات السياحية.
ويبدو أن التضخم لم يتضمن الحاجات الأساسية فحسب، إذ وصل لسلع ومنتجات الأثرياء، إذ قال المدير التنفيذي، فيليب بلونديو، أن أسعار حقائب "شانيل" الباهظة قد تزيد مرة أخرى، في سبتمبر المقبل، بحسب وكالة بلومبيرغ.
وتجري شانيل عادة مراجعة لأسعار الحقائب مرتين خلال العام، إذ ارتفعت أسعارها، في مارس الماضي، بمتوسط 8 في المئة، وتقول إن هذه الارتفاع تتماشى مع تضخم "تكلفة مدخلات الإنتاج، وتقلب العملات".
وأشار بلونديو إلى أن أسعار بعض منتجاتها زادت بنسبة 17 في المئ،ة خلال عام 2022.
ولكن في الوقت ذاته، يرى شيراك أن عدم هبوط بعض فئات الطبقة المتوسطة ليصبحوا ضمن طبقة الفقراء لا يعني أن "دخولهم لا تتآكل"، وهي معادلة طبيعية عندما يرتفع التضخم ويبقى الدخل ثابتا، وهو ما يعني أن "الناس أمام خيار مواجهة ارتفاع الأسعار من دون أي حماية"، ولهذا "أصبح التضخم على رأس أولويات الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لاستخدام أدواته المختلفة لتحقيق استقرار في الأسعار".
ويضيف أن التضخم يؤثر على الجميع ولكن "الفقراء الأكثر تأثرا حيث ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء والاحتياجات الأساسية تأخذ حصة كبيرة من دخلهم، بينما يكون تأثر الأغنياء بدرجة أقل إذ تبقى لديهم قدرة أكبر على تحمل زيادة الأعباء".
وكان التضخم قاسيا "بشكل خاص" للعائلات الأكثر فقرا في الولايات الولايات المتحدة، والتي تعتمد على المساعدات الغذائية والطبية، ومع توقف العديد من برامج الدعم التي ظهرت خلال جائحة كورونا، يتجه المزيد من المتسوقين إلى محلات التجزئة ذات الأسعار المنخفضة، ويتراجعون عن شراء الأشياء غير الضرورية بما في ذلك الملابس.
ووفق بيانات مكتب تعداد الولايات المتحدة بلغ معدل الفقر الرسمي، في عام 2021، حوالي 11.6 في المئة، ما يعني وجود 38 مليون شخص في الولايات المتحدة في حال فقر.
وتشير إلى أن معدلات الفقر الرسمية انخفضت للأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 18 عاما، ولكنها زادت للأشخاص الذي تتجاوز أعمارهم 65 عاما.
الدخل الكافي لتلبية الأساسيات
ويقدر الأميركيون أن الأسرة المكونة من أربعة أفراد تحتاج إلى حد أدنى من الدخل يبلغ 85 ألف دولار سنويا، وهي زيادة كبيرة عما كانت عليه التقديرات قبل عقد، بحسب استطلاع آخر لمؤسسة غالوب أجرته، في أبريل الماضي.
وخلصت نتائج الاستطلاع إلى أن الارتفاع في الدخل الضروري لإعالة أسرة مكونة من أربعة أفراد "يسلط الضوء على الضغوط الاقتصادية التي تواجه الأسر الأميركية، إذ لا يزال التضخم المرتفع مستمرا للعام الثاني".
وتضاعفت نسبة الأميركيين الذين يعتقدون أن الأسرة بحاجة إلى أكثر من 100 ألف دولار بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة، حيث يرى 30 في المئة من الأميركيين أن تلبية احتياجات أسرهم تتطلب دخلا يزيد عن 100 ألف دولار، بينما كانت هذه النسبة قبل عقد لا تتجاوز 10 في المئة.
ويبلغ خط الفقر للأسرة الأميركية المكونة من أربعة أفراد المحدد فيدراليا بـ30 ألف دولار سنويا، بينما يرى أميركيون أن المتوسط لتلبية الاحتياجات الأساسية يبلغ 85 ألف دولار سنويا.
وفي عام 2013، كان متوسط الدخل المتوقع لتلبية الاحتياجات الأساسية للأميركيين عند مستوى 58 ألف دولار، بينما كان خط الفقر الفيدرالي يبلغ 23 ألف دولار.
وتؤكد غالوب أن هناك زيادة كبيرة في الدخل الذي تحتاجه الأسر لتلبية حاجاتها الأساسية، وهو ما يعكس ارتفاع معدلات التضخم.
ولا يظهر تأثير التضخم على الطبقات الفقيرة أو المتوسطة فحسب، بل حتى من يجنون أكثر من 100 ألف دولار سنويا يرون أن هذا الدخل بالكاد يكفي لتغطية حاجات عائلة مكونة من 4 أفراد.
وتختلف التقديرات بالنسبة لاحتياجات العائلة بحسب الموقع الجغرافي، إذ قال من يسكنون في شرقي الولايات المتحدة إن المتوسط الذي تحتاجه العائلة سنويا يبلغ 98 ألف دولار، فيما قال من يسكنون ولايات الغرب الأوسط أنهم بحاجة لنحو 76 ألف دولار سنويا، وتعكس هذه الفروقات الاختلافات في تكاليف المعيشة والإيجارات وأسعار المنازل.
وارتفع الدخل الشخصي المتحقق للأميركيين، في أبريل، إلى 80 مليار دولار، في زيادة طفيفة عما كان عليه في مارس، فيما زادت قيمة نفقات الاستهلاك الشخصي إلى 152 مليار دولار، بينما بلغت قيمة "الدخل الشخصي المتاح للإنفاق" 79.4 مليار دولار، بحسب بيانات "مكتب الولايات المتحدة للتحليل الاقتصادي" (BEA).
وتمثل "قيمة الدخل الشخصي" مجمل "الإيرادات التي يتلقاها الشخص والتي قد تتأتي بشكل مباشر من رواتب أو من المشاركة في امتلاك منازل أو أعمال أو أصول تدر دخلا"، فيما تمثل قيمة "نفقات الاستهلاك الشخصي" مجموع ما يتم دفعه مقابل السلع والخدمات، وهي تمثل مؤشرا للأسعار والتي تعكس بالنهاية التضخم أو الانكماش.
أما "الدخل الشخصي المتاح للإنفاق" فهو يمثل المبلغ المتاح للإنفاق أو الادخار بعد دفع عبء الضرائب بشكل عام.
وتكشف البيانات أن دخول الأميركيين التي شهدت زيادات طفيفة، خلال أبريل الماضي، كان سببها ارتفاع في "التعويضات وإيرادات الدخل الشخصي" والتي في أغلبها جاءت من القطاع الخاص، وفوائد أرباح استثمارات شخصية.
وتشير البيانات إلى أن هناك تراجعا في دخول الأميركيين المرتبطة التي تأتي من "المنافع الاجتماعية الحكومية".
وتعكس الزيادة في نفقات الاستهلاك الشخصي للأميركيين عن ارتفاع، في أبريل، بنحو 87 مليار دولار، حوالي 65 مليار دولار منها كانت على السلع، والتي كانت بسبب زيادة الإنفاق على التأمين والرعاية الصحة والسيارات وقطع الغيار.
المحللان إيان شيبردسن وكيران كلانسي، من "بانثيون ماكروإيكونومكس" أشارا إلى أن المستهلكين ربما كانوا على استعداد للإنفاق عندما استخدموا المدخرات التي جمعوها خلال إغلاقات جائحة كوفيد، لكن نسبة إنفاق المدخرات تباطأت، بحسب تقرير نشرته وكالة فرانس برس.
وأوضحوا أنه في الوقت ذاته، قد تؤدي الضغوط التي يواجهها القطاع المصرفي إلى تشديد شروط الائتمان، ما يصعب على الأسر والشركات الحصول على قروض.
"تآكل كارثي" للطبقة الوسطى
ويظهر استطلاع لمؤشر تكلفة الازدهار "COTI" في الولايات المتحدة آثارا "كارثية" على قدرة الطبقة الوسطى لتحمل التكاليف.
ويقيس هذا المؤشر عدد الأسابيع التي يحتاج الشخص العادي أن يعملها من أجل تغطية التكاليف الرئيسية لعائلة مكونة من أربعة أفراد، والتي تشمل احتياجات: الغذاء والمسكن والرعاية الصحية والنقل والتعليم.
وتظهر بيانات المؤشر أن الشخص الذي يعيش في الولايات المتحدة عليه أن يعمل 62 أسبوعا خلال العام، أي بأكثر من 10 أسابيع مما هو موجود في السنة أصلا، من أجل تلبية الحاجات الأساسية لأسرته، بحيث سيبلغ متوسط دخله السنوي أقل من 64 ألف دولار، فيما ستكون إجمالي التكاليف 75 ألف دولار سنويا، بحسب بيانات 2022.
5/ As the @AmerCompass Cost-of-Thriving Index shows, middle-class security on one income is no longer an option for typical families. In 1985, the median male worker needed 40 weeks of income to cover middle-class essentials. In 2022, he'd need 62 weeks. https://t.co/RDvdCTEp98 pic.twitter.com/R6SX1wrr3Q
— Oren Cass (@oren_cass) February 15, 2023
ووفق المؤشر ذاته كان الشخص في الولايات المتحدة يحتاج، في عام 1985، للعمل 40 أسبوعا في السنة لتغطية الاحتياجات الأساسية، إذ كان متوسط الدخل السنوي 23 ألف دولار، فيما كانت تكلفة المعيشة لا تتجاوز 18 ألف دولار سنويا.
وخلص المؤشر إلى نتيجة مفادها أنه لا يوجد "أي شخص يعمل كموظف يمكنه إعالة أسرته في أي مكان في الولايات المتحدة".
تقارير دولية تحذر من الأسوأ
ويؤكد المنتدى الاقتصادي العالمي في تقريره، لعام 2023، أن "أزمة ارتفاع تكلفة المعيشة ستكون من أكبر المخاطر العالمية خلال السنتين القادمتين"، مشيرا إلى ارتفاع أسعار الحاجات الأساسية مثل الغذاء والسكن.
وأوضح المنتدى في تقريره للنسخة الـ 18 بعنوان "المخاطر العالمية 2023" أن أزمة التضخم التي تسببت في ارتفاع الأسعار بدأت قبل جائحة "كوفيد 19"، ثم استمرت التكاليف في الازدياد مرة أخرى، في عام 2022، بسبب الاضطرابات المستمرة في تدفقات الطاقة والغذاء، نتيجة الحرب الروسية على أوكرانيا.
وسلط الضوء على استمرار ارتفاع ديون الأسر في العديد من دول العالم رغم حدوث بعض التحسن بعد انخفاض حدة فيروس كورونا.
وأفاد أن معدلات الرهن العقاري العالمية وصلت إلى أعلى مستوى لها منذ أكثر من عقد بزيادة بلغت 35 في المئة في مدفوعات الرهن العقاري لأصحاب المنازل. وقد تبع ذلك أيضا تضخم الإيجارات في الولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال، ومن المقدر أن يصل إلى ذروته بأكثر من 8 في المئة، في مايو من عام 2023. كما سيتأثر المتقاعدون بسبب فشل المعاشات التقاعدية في مواكبة ارتفاع التضخم.

وقالت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، كريستالينا غورغييفا، السبت، تعليقا على التضخم في الولايات المتحدة إن الطلب المرن وسوق العمل القوي شكلا "سيفا ذا حدين" بالنسبة للاقتصاد الأميركي.
وأضافت "قدما طبعا اندفاعة للأسر الأميركية، لكنهما ساهما أيضا في مزيد من التضخم المستمر كان متوقعا بالأساس".
وأشارت إلى أن الاحتياطي الفيدرالي سيحتاج لسعر فائدة "أن يكون أعلى إلى حد ما لفترة أطول" إذا أراد أن ينجح في إعادة مستوى التضخم إلى هدفه الطويل الأجل والمتمثل بنسبة 2 في المئة، بحسب غورغييفا.
وأوضحت غورغييفا في تصريحات، الأربعاء، أن التضخم بشكل عام في العديد من الدول "في ذروته"، لأن المصارف المركزية ترفع معدلات الفائدة، أما "التضخم الأساسي فلا يزال لا يتراجع كما يجب، ويعود ذلك في المقام الأول إلى عدم تراجع أسعار الأغذية".
وقالت: "معدلات الفائدة مرتفعة، وستبقى مرتفعة لفترة أطول، لكننا نتوقع أن يتغير المشهد في العام 2024 ومطلع العام 2025".
ويتوقع الصندوق أن يزيد نمو إجمالي الناتج المحلي الحقيقي في الولايات المتحدة بنسبة 1.7 في المئة هذا العام، بزيادة عن نسبة 1.6 في المئة المتوقعة في وقت سابق هذا العام، قبل أن يتباطأ إلى واحد في المئة، في العام 2024.
وأشارت المؤسسة إلى أن معدل البطالة في الولايات المتحدة سيرتفع بشكل طفيف "مع نمو متباطئ ولكن قوي" يدفعه نحو زيادة إلى 4.4 في المئة بحلول نهاية 2024.
وسجل الاقتصاد الأميركي انتعاشا طفيفا من بداية 2023 نتيجة رفع معدلات الفائدة مرات عدة للتعامل مع التضخم، بينما يتوقع الاحتياطي الفيدرالي أن تدخل البلاد في ركود بحلول نهاية العام.
وتمت مراجعة نمو إجمالي الناتج الداخلي في الفصل الأول على ارتفاع إلى نسبة 1.3 في المئة، وفق بيان لوزارة التجارة مطلع مايو التي أرجعت الأمر إلى رفع تقديرات الاستثمار في المخزون الخاص.
كيف سيتعامل بايدن مع التضخم؟
خلال العام الثاني للرئيس الأميركي، جو بايدن، في السلطة بدأ يدخل في مواجهة مع معضلة التضخم، والتي ترافقت مع عودة الاقتصاد للنمو، فيما تواجه واشنطن تحديات على صعيد السياسية الخارجية بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا.
ويؤكد تقرير نشرته وكالة فرانس برس أنه بالرغم من العقود الطويلة التي أمضاها بايدن في واشنطن وجلسات اجتماعية لا تحصى مع أصحاب الملايين، إلا أن هذا لم يحيد تعاطفه مع الطبقة العاملة، خاصة في ظل عيشه لطفولة بسيطة في مدينة سكرانتون في بنسيلفانيا.
كما لم تتغير الصورة الشخصية لبايدن أبدا، فهو لا يزال ملما بسياسات واشنطن، ويملك خبرة لا مثيل لها في شؤون الحكومة والسياسة الخارجية. لكنه أيضا ابن "الطبقة الوسطى" الذي يعرف ما يمر به شخص عادي في حياته.
وأشار التقرير إلى أن بايدن الناجي من نكسات سياسية ومن مآس شخصية منذ تسلمه منصبه، فاجأ العديد من المشككين بقدراته، فأشرف على مرحلة تعاف ناجحة من كورونا وانتعاش اقتصادي قوي.
ويرى بايدن أن أبرز مهمة له ترتبط بـ "كيف تعيد توحيد صفوف أمة مقسومة بين معسكرين؟" أي بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري،، وقال في يناير الماضي: "قلتُ إنني ترشحت لثلاثة أسباب". وتابع "أحدها كان استعادة روح أميركا. والثاني إعادة بناء البلاد.. والثالث توحيد البلد. وتبين أن الثالث هو الأكثر صعوبة".
ويعول بايدن على الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في التعامل مع التضخم، والذي عزز مجلس محافظيه، منتصف مايو، بتعيين فيليب جيفرسون نائبا لرئيس المؤسسة، كما عين الاقتصادية من أصول أميركية لاتينية، أدريانا كوغلر، عضوا في مجلس محافظي الاحتياطي، في خطوة لتعزيز التنوع في المؤسسة المالية.