تستخدم الصين استراتيجية "فخ الديون" للسيطرة على دول "نامية" – مصدر الصورة: فرانس برس
تستخدم الصين استراتيجية "فخ الديون" للسيطرة على دول "نامية" – مصدر الصورة: فرانس برس

برزت الصين كأحد أكبر المقرضين للدول النامية، وبينما تهدف هذه السياسة في ظاهرها إلى تعزيز البنية التحتية والنمو الاقتصادي، إلا أنها سياسة "نفوذ" وفقا لمختصين.

وتتهم بكين باستخدام ما يُعرف بدبلوماسية فخ الديون، لتحقيق مصالح اقتصادية تستأثر فيها بثمار المشاريع الممولة، أو حتى الاستيلاء عليها.

فضلا عن ذلك، تغرق الدول المستهدفة بالديون، وتصبح تحت نفوذ بكين.

تحدث محمد العبادي، وهو محام وخبير في قوانين الاقتصاد والاستثمار الدولي، عن وجود 3 وجهات نظر حول النفوذ الصيني.

الأولى: وهي وجهة النظر الصينية، التي تتحدث عن أن هذه الاستراتيجية هي "مخلص العالم" من النظام الاقتصادي الأحادي، والانتقال إلى نظام آخر "أكثر عدلا" للدول النامية.

أما وجهة النظر الثانية: وهي الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، حيث تحذر من هذا النفوذ الذي يحقق مصالح الصين فقط، بينما تقع الدول النامية والفقيرة في فخ القروض والديون الصينية، وتعجز عن الوفاء بالتزاماتها.

أما وجهة النظر الثالثة وفقا للعبادي: تحتاج إلى "القليل من الحياد الأميركي" و"الكثير الكثير من الشفافية الصينية" التي قال إنها "مشكلة الصين مع كل العالم".

ورغم أن مشاريع البنية التحتية تهدف نظريا إلى تعزيز النمو الاقتصادي للبلدان، فقد وُجد أن العديد منها يعاني من ضعف الجدوى الاقتصادية. 

يرى مراقبون، أن عددا من المشاريع الممولة من الصين، تعطي الأولوية للمصالح الاستراتيجية والاقتصادية لبكين على احتياجات التنمية للدول المقترضة.

على سبيل المثال، يُنظر إلى مشاريع، مثل السكك الحديدية الممتدة إلى موانئ نائية أو مطارات غير مستغلة بشكل كاف، على أنها تخدم احتياجات الصين في مجال التصدير وسلسلة التوريد.

ويظهر أن تلك المشاريع، لا تعالج التحديات المحلية الملحة مثل التعليم أو الرعاية الصحية أو التخفيف من حدة الفقر.

قال العبادي لقناة "الحرة" إن "عدم كشف الصين الكثير من التفاصيل حول الشروط التي وضعتها لمنح القروض والديون لتنفيذ مشاريع البنية التحتية، يعرقل جهود المراقبين لتحديد طبيعة القروض وتقييمها، وهل تدعم الدول المقترضة وتزيد من نموها الاقتصادي".

تركز الصين في سياستها الاستثمارية على تمويل مشاريع البنية التحتية الكبيرة مثل الطرق، والموانئ، والسكك الحديدية في الدول النامية من خلال قروض تقدمها مؤسسات مثل بنك التصدير والاستيراد الصيني وبنك التنمية الصيني.

ومع أن هذه المشاريع تسوق على أنها تعزز التنمية المحلية، فإنها غالبا ما تخدم المصالح الصينية، بما في ذلك تسهيل نقل الموارد الطبيعية إلى الصين، وتعزيز تجارتها العالمية.

قال ويليام يانغ مراسل شبكة صوت أميركا في تايبيه إن "الصين ضخت مليارات الدولارات في أفريقيا لبناء خطوط سكك حديد وموانئ ومشاريع أخرى، لتصبح القوة المهيمنة هناك".

وأضاف خلال مقابلة مع قناة "الحرة": "تستخدم هذا النفوذ في التأثير والحصول على الدعم الذي قد تحتاجه من الدول الأفريقية في بعض القضايا".

ووفقا ليانغ، كانت هناك محاولات من واشنطن لإعادة "الانخراط الأميركي" في القارة الأفريقية وتقديم الولايات المتحدة نفسها كحليف موثوق.

لكن مراسل الإذاعة الأميركية، أشار إلى أن التحرك الصيني السريع الذي سبق الخطوات الأميركية المتأخرة بنحو عشرين سنة، يجعل من الصعب أن تحقق الولايات المتحدة هذا الهدف.

دبلوماسية "فخ الديون"، مصطلح عرف على أنه السياسة التي تستخدمها الصين عند منحها القروض بشروط صارمة، مثل معدلات فائدة مرتفعة وفترات سداد قصيرة، ما يجعل من الصعب على الدول الفقيرة الوفاء بالتزاماتها.

وفي المحصلة، تكسب الصين نفوذا على الدول الأضعف اقتصاديا، من خلال إجبارها التنازل عن السيطرة على الأصول الاستراتيجية عندما لا تتمكن من سداد قروضها.

أبرز مثال على هذه السياسة، سيريلانكا، عندما أخفقت في سداد ديونها المتعلقة بميناء هامبانتوتا، ما دفعها إلى تسليم إدارة الميناء لشركة صينية بموجب عقد إيجار لمدة 99 عاما. 

سباق دولي من أجل المستقبل مركزه قلب القارة الأفريقية - رويترز
في قلب أفريقيا.. لماذا تتنافس الولايات المتحدة والصين على هذه الدولة الكبرى؟
"هواتفنا المحمولة أصبحت ممكنة إلى حد كبير بفضل موارد جمهورية الكونغو الديمقراطية". هذه العبارة الصغيرة التي أدلى بها مفوّض الأمم المتّحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، تلخص أهمية كبيرة تتمتع بها دولة أفريقية وجعلتها ساحة للتنافس على النفوذ بين الصين والولايت المتحدة.

غالبا ما تنفذ المشاريع الممولة من الصين بواسطة شركات ومقاولين صينيين، مما يقلل من فرص مشاركة العمالة المحلية ويضعف الاقتصاد الوطني.

علاوة على ذلك، تسببت بعض هذه المشاريع في آثار بيئية واجتماعية سلبية، مثل تشريد المجتمعات المحلية وتدمير النظم البيئية.

أبرز مثال: سد باكو في كينيا، وتهديده لنهر تانا، الذي يعد مصدرا رئيسيا للتنوع البيولوجي وسبل العيش.

تسبب السد في تغيير تدفق المياه، ما أضر بالأراضي الرطبة التي تُعد موطنا لأنواع نادرة من الحيوانات والنباتات ، وشرد المجتمعات المحلية التي تعتمد على النهر للزراعة والصيد.

وتعاني ممارسات الإقراض الصينية من غياب الشفافية، وغالبا ما تكون شروط القروض والاتفاقيات غامضة وغير متاحة للعلن، ما يثير الشكوك بشأن المساءلة المالية ويفتح المجال أمام الفساد، وبالتالي، يقلل من الفوائد التنموية للمشاريع.

مشهد عام من مدينة دمشق - رويترز
مشهد عام من مدينة دمشق - رويترز

التوجه نحو "الخصخصة" في سوريا قد يكون الخيار الوحيد المتاح لدفع العجلة الاقتصادية في سوريا وتحريك عمل المؤسسات المتهالكة، لكن في المقابل يجب أن تكون هذه العملية مبنية على شروط وإجراءات، وإلا.. "ستكون مدخلا للفساد"، وفقا لخبراء وباحثين.

وبعد سقوط نظام الأسد ألمح مسؤولو الإدارة الجديدة في دمشق إلى نواياهم المتعلقة بهذا الصدد، وبينما أشاروا أولا إلى اعتزامهم "تبني نموذج السوق الحر" كشفوا قبل يومين عن خطط يفكرون بها بالفعل.

هذه الخطط تطرق لها وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، قائلا لـ"فاينانشال تايمز"، الأربعاء، إن الإدارة السورية الجديدة تخطط لخصخصة الموانئ والمصانع الحكومية، وتسعى لجلب الاستثمارات الأجنبية وتعزيز التجارة الخارجية.

يهدف هذا المسعى، بحسب الشيباني لإجراء إصلاحات اقتصادية وإنهاء عقود من الزمن كـ"دولة منبوذة".

لكن الوزير أشار في المقابل إلى تحديات تتمثل بإيجاد مشترين للمؤسسات التي كانت في حالة "تدهور" لسنوات في بلد "محطم ومعزول عن الاستثمار الأجنبي".

ما "الخصخصة"؟

"الخصخصة" هي عملية تحويل ملكية أو إدارة الأصول والخدمات التي تمتلكها الدولة (مثل الشركات الحكومية أو الموانئ) إلى القطاع الخاص بهدف تحسين الكفاءة، جذب الاستثمار، وتقليل العبء المالي على الدولة.

وتشمل عادة، كما يوضح الباحث الاقتصادي، مخلص الناظر، بيع أصول الدولة إلى مستثمرين من القطاع الخاص أو إدخال شراكات بين القطاعين العام والخاص.

لهذه العملية 3 مراحل تبدأ من "تحليل الأصول"، أي بمعنى تحديد القطاعات المؤهلة للخصخصة ودراسة جدواها الاقتصادية، وتليها عملية إعداد السياسات والتشريعات.

وبعد المرحلتين المذكورتين يتم تحديد القيمة السوقية للأصول من خلال دراسات مالية واقتصادية، وفقا للناظر.

الباحث يرى أن "الخصخصة أداة اقتصادية يمكن أن تكون فعالة لتحسين أداء الاقتصاد السوري، لكنها تحتاج إلى تنفيذ مدروس ومُحكم لضمان تحقيق الفوائد الاقتصادية دون تفاقم المشكلات الاجتماعية أو الاقتصادية".

و"إذا لم يتم التعامل مع هذه العملية بشفافية وعدالة، فقد تُسهم في زيادة الفقر وتفاقم الأزمات"، وفقا لما يشير إليه.

"فرص ومخاوف"

بلغة الأرقام فقد تقلص الناتج المحلي الإجمالي السوري بنسبة تزيد عن 50 بالمئة بين 2010 و2020، وأعيد تصنيف سوريا دولة منخفضة الدخل منذ 2018.

كما انخفضت قيمة العملة المحلية، وارتفعت معدلات الفقر، وباتت البلاد الآن بين الدول الـ 10 الأكثر انعداما للأمن الغذائي عالميا.

علاوة على ذلك، كان البنك الدولي قدّر الخسائر التراكمية للناتج المحلي الإجمالي السوري بين 2011 و2016 بحوالي 226 مليار دولار، وهو ما يفوق الناتج المحلي لسوريا في 2010 بأربع مرات.

ويقول الباحث والأكاديمي الاقتصادي السوري، فراس شعبو: "لدينا في سوريا الكثير من المؤسسات الفاشلة والمتهالكة. تكاليفها أكثر من إيراداتها".

ويضيف شعبو لموقع "الحرة" أن "الإدارة الجديدة عاجزة تماما عن إدارة كل شيء في البلد. لا مقومات ولا قدرة"، وعلى أساس ذلك من الطبيعي أن تلجأ إلى "الخصخصة"، على حد قوله.

هذه العملية ورغم أنها لم تكن معلنة على الملأ في عهد نظام الأسد المخلوع، إلا أن حكومته لجأت إليها بالتدريج خلال السنوات الماضية.

وكان ما سبق قد انعكس بمراسيم تشريعية وبقرارات فتحت الباب أمام مستثمرين داخليين وخارجيين للانخراط في قطاعات سيادية.

من بين هذه القطاعات مرفأ طرطوس الذي استثمرته شركة روسية لمدة 49 عاما، وأعلنت الإدارة الجديدة قبل أيام إلغائه من طرف واحد.

وتوجد أمثلة أخرى، بينها الاستثمارات الخاصة والمرتبطة بشركات، والتي استهدفت قطاعي الاتصالات والكهرباء. وأخيرا مطار دمشق الدولي.

ويعتبر الباحث شعبو أن "الخصخصة هي الحل المتاح حاليا في سوريا في ظل غياب الموارد والمساعدات".

لكنه في المقابل يشير إلى "إيجابيات وسلبيات" تكمن وراء التوجه نحو هذه العملية.

ولكي تسود الإيجابيات يجب أن "تضع الحكومة شروطا ناظمة لعملية الخصخصة، وحرصا على أن لا تتحول إلى بيع أصول وشروط إذعان"، وفقا لقول شعبو.

مدير البرنامج السوري في "مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية"، والدكتور في الاقتصاد، كرم شعار ومن جانبه يسلط الضوء على "مخاوف" تتعلق بشق قانوني.

ويوضح لموقع "الحرة" أن "حكومة تسيير الأعمال الحالية ليس من صلاحياتها أن تتخذ قرارات بهذا الحجم (الخصخصة)".

كما يقول إن "هذه العملية مرتبطة بشكل الدولة.. وبقرار جميع السوريين".

هل من تجارب سابقة؟

المخاوف ذاتها التي أشار إليها الباحث شعار تطرق إليها أستاذ القانون الدستوري السوري، سام دلة في منشور له على "فيس بوك"، يوم الخميس.

ويوضح دلة أن "أي حكومة لا تملك الحق بالتصرف بهذه الأصول (التابعة للدولة) إلا بناء على تفويض واضح من أصحاب الحق ويضمن عدالة إعادة توزيع الموارد المُخصخصة".

ولا يكفي أن يكون هذا التفويض نتاج عملية ديمقراطية (حرة وعادلة) وإنما أن تتم ممارسته في إطار حوكمي يضمن المشاركة والشفافية ويفرض المساءلة، وفق دلة.

ويؤكد أن "الخصخصة تحتاج بداية بناء مؤسسات الدولة/دولة قانون: لاسيما قضاء كفء وعادل، وإدارة حكومية كفؤة وغير فاسدة".

وفي حال كانت العملية خارج الإطار المذكور ستكون "مجرد بيع لأصول الدولة وخلق (أوليغارشية) تسيطر على المجتمع وتحكم الدولة"، بحسب دلة الذي لفت إلى المثال الروسي.

وتقول التجارب السابقة إن اللجوء إلى "الخصخصة" في الدول التي تشهد مستويات مرتفعة من الفساد وتكتل الثروة بأيدي أطراف محددة دون وجود عدل في توزيع الثقل السياسي تكون "مدخلا مذهلا للفساد"، بحسب شعار.

وبينما يضيف الباحث وهو مدير البرنامج السوري في "مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية" أن ما سبق تعكسه حالة ألمانيا بعد انهيار جدار برلين وما حصل في روسيا أيضا يوضح أن الأمر لم ينسحب على بريطانيا مثلا.

ويتابع: "في بريطانيا ورغم الإشكاليات التي كانت تعاني منها لم تكن عملية التوجه فيها نحو الخصخصة مدخلا للفساد".

وارتبطت الحالة، حينها، بالشروط والإجراءات والبرنامج الاقتصادي الليبرالي الذي سارت عليه، رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر، في ثمانينيات القرن الماضي.

"فتح أبواب"

ولا يزال عمل الحكومة الجديدة في دمشق حتى الآن ضمن إطار مؤقت.

ومن المقرر أن تتشكل حكومة دائمة في شهر مارس المقبل، بحسب تصريحات سابقة لمسؤولين في الإدارة الجديدة.

من ناحية أخرى، وفي وقت تعيش فيه سوريا أزمات اقتصادية ومالية وتعاني مؤسسات من حالة ترهل كبيرة تواجه في المقابل معضلة تتعلق بإرث العقوبات الدولية التي تركها نظام الأسد قبل سقوطه.

وقد يكون ما سبق عائقا أمام التحول باتجاه عملية "الخصخصة"، بحسب الباحث الاقتصادي، شعبو.

وبالإضافة إلى ذلك يوضح أن التحول أيضا بحاجة "مؤسسات قوية وقادرة على فرض شروطها" من أجل منع تشكل اللوبيات والاحتكار.

كما يؤكد شعبو على فكرة أن تكون "الخصخصة مدروسة لا عشوائية"، مع مراعاة تشغيل الإيرادات وتشغيل العمالة وتحسين القطاعات التي تستهدفها.

وفي تقرير البنك الدولي بعنوان "مراقبة الاقتصاد السوري: الجيل الضائع" الصادر في يونيو 2022، تم التأكيد على أن النزاع المستمر منذ عقد قد دمر مكاسب التنمية في سوريا، حيث انخفض النشاط الاقتصادي بنسبة 50 بالمئة بين 2010 و2019.

كما أن التضخم المرتفع أثر بشكل غير متناسب على الفقراء والفئات الضعيفة.

وبالإضافة إلى التأثيرات المباشرة للنزاع، يعاني الاقتصاد السوري من آثار جائحة كورونا، الأزمات الإقليمية، والاضطرابات الاقتصادية العالمية.

ولا يعرف حتى الآن ما إذا كان المستثمرون الأجانب سيأتون إلى سوريا أم لا، كما يشير الباحث شعبو.

ويقول: "إذا لم ترفع العقوبات وبدأنا نرى حالة من الاستقرار سيكون دخول المستثمرين أمرا سابقا لأوانه".

ومع ذلك، يرى الباحث أن خطوة التحول نحو الخصخصة التي كشف عنها الشيباني بمثابة "فتح الباب على مصراعيه للمستثمر الداخلي والخارجي"، وهو الأمر الذي اتبعته الإمارات سابقا وتعمل عليه تركيا.