اقتصاد الصين.. هل تنفجر الفقاعة قريبا؟
أصابت جائحة كورونا الاقتصاد الصيني بحالة دوار. لا يزال عاجزا عن استعادة توازنه.
تضخّم بكين بيانات الناتج المحلي الخام لإغراء الازدهار الاقتصادي الغابر بالعودة.
لكن الصينيين يعضون بقوة على ما بقي من المدخرات، وهم ينظرون إلى الأرقام الرسمية بريبة.
حتى أن مسؤولين كبارا في الدولة والحزب الشيوعي أخذوا يجرأون على التشكيك علنا بصحة البيانات الرسمية.
حتى الأرقام، التي ترسم صورة وردية عن حالة الاقتصاد، أخذت تتراجع هي الأخرى في الآونة الأخيرة.
في ديسمبر الماضي، سجل مؤشر تطور مداخيل السندات الحكومية أدنى مستوياته على الإطلاق، إذ انحدر إلى أقل من 2 في المئة.
ويعكس هذا الانخفاض الحاد حالة انعدام الثقة في مستقبل السندات الحكومية، والاقتصاد الصيني عموما، في مواجهة خطر الانكماش.
ولا يشعر المستثمرون وحدهم بعدم الثقة، بل عامة المواطنين أيضا، لهذا يعزف الصينيون منذ سنوات عن الإنفاق إلا للضرورة القصوى.
أرقام رسمية متفائلة لا يصدقها حتى المسؤولون
عقب رفع القيود المرتبطة بجائحة كورونا، توقعت السلطات الصينية عودة النشاط إلى حركة الاستهلاك لدفع عجلة النمو الاقتصادي مجددا.
السيناريو الوردي لم يتحقق، وتعمقت شكوك الصينيين بشأن اقتصادهم مع تفاقم أزمة القطاع العقاري.
التصدير من أجل "البقاء"
تعكس أرقام التصدير القياسية المسجلة في الصين خلال الربع الأخير من 2024 "ضعف السوق الداخلية وليس قوة الاقتصاد،" يقول لموقع "الحرة" البروفسور ويليام كيربي، الأستاذ في كلية إدارة الأعمال في جامعة هارفارد.
ويضيف كيربي، وهو مختص في الشأن الصيني، إن كثيرا من "المستثمرين الصينيين يسعون للتصدير لأنهم لا يستطيعون بيع منتجاتهم في أسواق بلادهم نظرا لضعف مؤشر الاستهلاك".
ينطبق ذلك على صانعي السيارات، وخصوصا الكهربائية، وشركات النسيج ومؤسسات التقنية العالية.
يوضح البروفيسور كيربي أن الأرقام الصادرة عن السلطات الصينية "متفائلة جدا، ما يعني أن النمو الحقيقي أقل من ذلك بكثير".
"لذلك، فسعي الشركات الصينية للتصدير هو مجهود يهدف للبقاء وتحقيق الأرباح أو على الأقل تجنب الإغلاق وليس فقط سياسة حكومية موجهة"، وفقا لكيربي.
ويقول المحلل السياسي الأميركي، المحامي غوردن تشانغ، بدوره، إن نسبة نمو الناتج الداخلي الخام كانت في حدود صفر في المئة.
تشانغ، الذي عمل في الصين وهونغ كونغ نحو عقدين من الزمن، يوضح في حديث مع موقع "الحرة" أن "تلك النسبة قد تكون أعلى قليلا أو أقل قليلا لكنها تراوح مكانها حول صفر في المئة".
"من أهم مؤشرات الركود الاقتصادي التدفق الكبير للأموال بطرق مشروعة وغير مشروعة خارج الصين، ما تسبب في انخفاض قيمة اليوان أمام الدولار الأميركي"، يتابع تشانغ.
ومن المؤشرات الهامة كذلك، بحسب تشانغ، انخفاض الطلب على سندات الحكومة الصينية.
في نوفمبر الماضي، شكك رئيس الوزراء الصيني السابق، لي كيكيانغ، في صحة الإحصاءات الرسمية، ومنها تلك الخاصة باستهلاك الكهرباء وحجم البضائع المنتجة.
ويلفت كيربي إلى أن إجبار المؤسسات الجامعية المختصة في الاقتصاد على اعتماد الأرقام الرسمية في أبحاثها يلقي ظلالا من الشك على نتائج دراساتها.
لكن الحادثة الأكثر إثارة، وفقا لكيربي، كانت تصريح، غاو شان وون، رئيس الاقتصاديين في المؤسسة الحكومية للأوراق المالية، أن نسبة نمو الناتج المحلي الخام أقل من 2 في المئة، وتابع وون قوله: "نعلم أن الأرقام الرسمية ستكون دائماً 5 في المئة".
وون لم يظهر علنا منذ ذلك التصريح.
يرجح كيربي أن السلطات منعت وون من الحديث لوسائل الإعلام.
مدن أشباح وفقاعة العقارات
تعود أزمة العقارات الصينية إلى ثلاثة أسباب رئيسية، وفقا للبروفيسور كيربي.
تاريخيا، ومنذ ثمانينيات القرن الماضي، لم يتوقف سوق العقارات الصيني عن النمو إلى جانب ارتفاع مستمر في الأسعار، لذلك كان يقصده الصينيون للادخار والاستثمار.
لكن تواصل بناء العقارات بشكل زاد كثيرا عن حاجة السوق، حوله إلى "فقاعة" سرعان ما انفجرت.
ملايين الشقق الفارغة ينخرها الإهمال ولا تجد من يسكنها عقب انفجار "فقاعة العقارات"
ويكمن السبب الثاني في عدم تمتع الصينيين بحق ملكية الأرض.
طبقا للقوانين الشيوعية، يستطيع المواطن الصيني شراء شقة، لكن الأرض تبقى ملكا للدولة.
كان الصينيون، منذ عهد سلالة تانغ الملكية بين القرنين السابع والعاشر، يتمتعون بحق امتلاك الأراضي. وعندما حلت جمهورية الصين الشعبية عام 1949، وضعت كافة الأراضي تحت سلطة الدولة وملكيتها.
تقوم الحكومات المحلية بتأجير قطع الأرض للأفراد والمطورين العقاريين والشركات، لمدد قد تمتد إلى عقود.
وكان دخل تأجير الأراضي ـ وهنا يكمن السبب الثالث ـ أهم مصدر لتمويل الحكومات المحلية خلال العقود القليلة الماضية.
لكن تلك المنظومة انهارت مع انتشار جائحة كورونا وبداية أزمة قطاع العقارات.
بدأ الانهيار رسميا عقب إعلان عملاق العقارات الصيني "تشاينا إيفرغراندي" إفلاسه عام 2021.
وبقي أكثر من 7.2 مليون شقة ومنزل من دون سكان، إضافة إلى ملايين الشقق الأخرى التي لم يكتمل بناؤها بسبب توقف المشاريع.
وتفاقمت ظاهرة "مدن الأشباح" في الصين مع وجود أحياء كاملة بمئات المباني الفارغة من البشر.
انهيار المعجزة؟
خسر الصينيون من 30 إلى 40 في المئة من قيمة أصولهم نتيجة أزمة قطاع العقارات المتزامن مع كورونا.
يقول تشانغ إن ملايين الشقق والمنازل بقيت فارغة ولا تجد من يقطنها بسبب انفجار "الفقاعة العقارية".
وتضررت ميزانيات الحكومات المحلية بعدما أجبرتها السلطة المركزية على تمويل جهود مكافحة جائحة كورونا وتكاليف الإغلاق والعلاج والمستشفيات الميدانية، وغيرها.
ومع توقف مداخيل تأجير الأراضي وركود سوق العقارات، أصبحت الحكومات المحلية عاجزة حتى عن دفع رواتب موظفيها، بمن فيهم رجال الشرطة.
في المقابل، شجعت الحكومة المركزية على رفع الرسوم الخاصة بالمعاملات الإدارية، وأضافت، بذلك، عبئا ماليا آخر إلى أعباء المواطن الصيني.
وفي سعيها المحموم للحصول على تمويل، لاحقت إدارات الشرطة والاستخبارات المحلية المتأخرين عن دفع الضرائب في أنحاء البلاد.
كيربي: الدولة الغنية لا يمكن أن يكون فلاحوها فقراء
وفي الأرياف، لم يتمكن الفلاحون من تقدير قيمة الأرض الزراعية للحصول على قروض بسبب احتكار الدولة ملكية الأراضي.
أما المصرف الزراعي الصيني، وهو ثاني أكبر بنك في العالم من حيث الأصول، "فآخر همه تمويل الفلاحين،" حسب كيربي، الذي يضيف أن "الدولة الغنية لا يمكن أن يكون فلاحوها فقراء".
تتفاخر السلطات الصينية بأن سياستها أدت إلى نقل ملايين الأشخاص من الفقر إلى الطبقة المتوسطة، ومن العمل في الريف إلى العمل في المناطق الصناعية.
ووصفت ذلك بـ"المعجزة".
لكنها لا توفر بيانات عن خسائر ملايين المواطنين الذين فقدوا مدخراتهم، أو جزءا كبيرا منها، عقب انهيار سوق العقارات.
كراهية الرفاهية
رغم أن لديها نظام رعاية اجتماعية، لا تعد الدولة الشيوعية "دولة رفاه اجتماعي" مقارنة ببعض الدول النامية.
ربما لأن الرئيس الصيني، شي جين بينغ، يرفض فكرة أن تقدم الدولة مساعدات للمواطنين المحتاجين.
في أكثر من مناسبة، قال شي إنه "لا يؤمن بدولة الرفاه الاجتماعي لأنها تخلق جيلا من المواطنين الكسالى".
يقول صندوق النقد الدولي إن شبكة الرعاية الاجتماعية في الصين ضعيفة وغير عادلة، إذ رغم ضعفها لا تغطي جميع المواطنين المحتاجين بنسب عادلة.
الانهيار
يقول المحلل السياسي الأميركي، المحامي غوردن تشانغ، إن الاقتصاد الصيني مهدد بالانهيار.
وتسعى بكين منذ مدة لتفادي الانهيار عبر ما يسميه بـ "جدار العملة"، أي تحكم الدولة في أسعار الصرف بقطع النظر عن بيانات الأسواق الحقيقية.
لكن صمود ذلك الجدار ليس مضمونا نظرا للمشاكل الهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد الصيني.
بدلا عن رفع الاستهلاك المحلي، تعتمد بكين على الزج بالسيولة المالية على شكل استثمارات لتحفيز المشاريع الموجهة للتصدير.
دعم بكين التصدير لحل مشاكل الاقتصاد الهيكلية يضعها في مسار تصادمي مع سياسة فرض التعريفات الجمركية للرئيس الأميركي دونالد ترامب.
توفر الصين ثلث الإنتاج الصناعي العالمي، لكنها تحتل المرتبة العاشرة من حيث حجم الاستهلاك، حسب ما يوضح البروفيسور كيربي.
يزداد التحدي أمام بكين، حتى على صعيد التصدير، مع تبني دول عدة سياسات حمائية تتضمن تعريفات جمركية على المنتجات الصينية.
ويعتزم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، فرض تعريفات جمركية على البضائع الصينية ابتداء من فبراير القادم.
وكان الرئيس بايدن قد فرض بدوره تعريفات جمركية على عدد من المنتجات الصينية، مثل السيارات الكهربائية وبطاريات الليثيوم وألواح إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية، وغيرها.
ويشبّه البروفيسور كيربي الوضع مع الصين بما كان عليه الحال مع تصدير السيارات اليابانية إلى الولايات المتحدة في سبعينيات القرن الماضي.
بعد فرض تعريفات جمركية كبيرة، توصلت واشنطن وطوكيو لاتفاق قام بموجبه صانعو السيارات اليابانيون بنقل منشآت الإنتاج إلى الولايات المتحدة.
لكن الفرق الجوهري بين الحالتين، يضيف كيربي، هو أن اليابان حليف قوي للولايات المتحدة في حين أن الصين خصم استراتيجي.
إدارة ترامب الثانية.. ما يلوح في الأفق؟
يوم تنصيبه، في العشرين من يناير الجاري، نشر البيت الأبيض تفاصيل خطة ترامب الاقتصادية للتجارة الدولية.
إلى جانب فرض تعريفات جمركية على الصين، تتضمن الخطة إجراءات لمواجهة التلاعب بقيمة العملة.
وتهدف إجراءات ترامب إلى الحد من العجز التجاري الأميركي مع أبرز الشركاء الدوليين مثل الصين والاتحاد الأوروبي.
وبعد مكالمة هاتفية "جيدة جدا" أجراها - قبيل تنصيبه - مع الرئيس الصيني، قال ترامب إنه "يتوقع حل عديد المشاكل مع الرئيس شي وأنه سيبدأ في ذلك فور".
وفي بادرة رمزية، غيرت الصين، في 16 يناير، الترجمة الصينية لاسم وزير الخارجية الأميركي الجديد، ماركو روبيو.
لتجاوز حظر السفر والعقوبات التي تفرضها بكين على روبيو منذ 2020، على الأرجح.
روبيو صرح خلال جلسة تأكيد تعيينه أمام الكونغرس أن الصين تشكل التهديد الأكبر للولايات المتحدة.
"الحزب الشيوعي الصيني هو الخصم الأخطر الذي تواجهه هذه الأمة"، قال روبيو للمشرعين الأميركيين.
وقال الناطق باسم الخارجية الصينية، غوو جيان كون، من جهته، إن بلاده "تسعى لتقوية الحوار والاتصالات مع الولايات المتحدة".
وقد يكون تصريح كون مؤشرا على استعداد بكين للقبول بتسوية أو حل وسط تجاه موقف ترامب، خصوصا وأن وضعها التفاوضي أضعفته مشاكلها الاقتصادية المعقدة.
لكن تحتاج الصين، لحل أزماتها الاقتصادية، إلى إصلاحات تعالج الخلل الهيكلي للاقتصاد الصيني، الذي ظهر جليا إثر انفجار "فقاعة العقارات".
لذلك لا تزال بكين تبحث عن قاطرة جديدة للاقتصاد، تعيده إلى نسب نموه السريعة السابقة، بعيدا عن قطاع العقارات.
ومع حلول موسم أعياد رأس السنة الصينية الجديدة، التي تبدأ اليوم، سيغادر ملايين العمال نحو قراهم لزيارة ذويهم، ما يعني استمرار انخفاض كل من مؤشر الاستهلاك وحجم الإنتاج الصناعي، الذي لم يتجاوز 49.1 نقطة في شهر يناير.
أما مؤشر نمو الخدمات فلم يتجاوز 50.2 نقطة، ما يعني أن الاقتصاد الصيني يقف على حافة الإنكماش.