لعل الولايات المتحدة هي البلد الوحيد في العالم الذي يعاني من عجز في الموازنة قدره 1,1 تريليون دولار ومعدلات بطالة تقترب من ثمانية بالمئة، ورغم ذلك ينفق المرشحون السياسيون فيه مليارات الدولارات على الانتخابات.
إعلانات تليفزيونية مليئة بالاتهامات والمعلومات المغلوطة في أغلب الأحيان على نحو تؤكد الدراسات أنه يؤثر بشكل مباشر على القرار الانتخابي وبالتالي على هوية الفائز، جماعات ضغط تسعى لزيادة نفوذها في واشنطن، مئات الملايين من الدولارات المتدفقة على المرشحين .. كل هذه عناصر المشهد الانتخابي الأميركي الذي يجعل الناخب يقف حائرا ويدفع الخبراء إلى التحذير من إفساد الديموقراطية الأميركية وتهميش الطبقات الفقيرة وتركيز النفوذ في يد الأغنياء فقط.
وبحسب دراسة أجراها "مشروع ويسليان لوسائل الإعلام" فقد بث المرشحان أوباما ورومني والجماعات المؤيدة لهما أكثر من مليون إعلان في هذه الانتخابات بزيادة قدرها 40 بالمئة عن انتخابات 2008.
فإلى أي مدى تؤثر الأموال على السياسة الأميركية؟ وهل تقوض جماعات الضغط الديموقراطية في الولايات المتحدة؟ وكيف أثر الإعصار ساندي على الانتخابات الرئاسية قبل أيام قليلة على انطلاقها؟.
يقول الدكتور بروس كين، الأستاذ الزائر للعلوم السياسية بجامعة كاليفورنيا في بيركلي إن "مشكلة المساهمات المالية في الحملات الانتخابية المقدمة من جماعات المصالح لا تتعلق بتوجيه الأموال للتأثير على السياسات التي يتبناها المرشحون لكن بالتأثير على نتائج الانتخابات ذاتها".
وطالب كين بفرض قيود على مساهمات الجماعات الخاصة المعروفة باسم "جماعات اللوبي" في الحملات الانتخابية.
وقال إن هذه الأموال التي تقدمها الجماعات الخاصة ليست بالضرورة "رشاوى" غير أخلاقية من نوع ما، لكن فرض قيود عليها سوف يؤدي إلى إعادة توزيع القوة السياسية لتكون بعيدة عن أصحاب المال.
أول مرشح بليوني
المخاوف من تأثير المال على السياسة الأميركية أمر يتجدد مع كل انتخابات في الولايات المتحدة لكنها ازدادت حدة بسبب الزيادة القياسية في التبرعات المجموعة ومستويات الإنفاق غير المسبوقة من المرشحين.
فالرئيس باراك أوباما، الذي أنفق على حملته الانتخابية عام 2008 نحو 730 مليون دولار، أصبح بالفعل صاحب أول حملة انتخابية تتجاوز المليار دولار في التاريخ الأميركي، بعدما تمكن المرشح الديموقراطي وعناصر حملته من جمع تبرعات بقيمة 1.06 مليار دولار حتى منتصف أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وبالمثل تمكن المرشح الجمهوري من جمع 951 مليون دولار حتى منتصف أكتوبر/تشرين الأول، وبالنظر إلى وتيرة جمع التبرعات من حملته فقد بات من المؤكد أنه تجاوز حاجز المليار دولار أيضا.
يذكر أن الكونغرس كان قد أدخل تعديلا عام 1997 على القانون الفدرالي للحملات الانتخابية الصادر عام 1971، للحد من الإنفاق الانتخابي في الانتخابات الفدرالية لمنع نفوذ جماعات المصالح الخاصة، إلا أن المحكمة العليا تدخلت لاحقا لتحكم بأن أجزاء مهمة من هذا القانون غير دستورية وتنتهك حقوق حرية التعبير ما فتح الباب مجددا أمام جماعات الضغط لممارسة نفوذها على العملية الانتخابية.
ففي عام 2010 أصدرت المحكمة العليا قرارا بأغلبية خمسة قضاة إلى أربعة مفاده أن التعديل الأول من الدستور الأميركي يمنع الحكومة من فرض قيود على الانفاق السياسي المستقل من جانب المؤسسات والاتحادات بعد أن رفعت جماعة "Citizen United" دعوى أمام المحكمة العليا ضد المفوضية الفدرالية للانتخابات اعترضت فيها على منعها من بث فيلم ينتقد هيلاري كلينتون قبل 30 يوما من الانتخابات التمهيدية للحزب الديموقراطي التي خسرتها كلينتون أمام منافسها آنذاك السناتور باراك أوباما.
واستندت مفوضية الانتخابات في قرار المنع، الذي ألغته المحكمة العليا، إلى قانون إصلاح الحملات الانتخابية الذي تم تبنيه عام 2002، وكذلك إلى حكم صادر من المحكمة الفدرالية في مقاطعة كولومبيا عام 2008 والذي يحظر إنفاق أموال من جانب اتحادات أو مؤسسات على بث إعلانات تتضمن أسماء المرشحين قبل 60 يوما من أي انتخابات عامة أو 30 يوما من أي انتخابات تمهيدية.
ومن الأمور الملفتة للنظر أن القضية لم تتعرض للمنع الفدرالي الذي مازال ساريا على المساهمات المباشرة من المؤسسات أو الاتحادات للمرشحين أو الأحزاب السياسية الأمر الذي جعل هذه المؤسسات ترى في الجماعات الخاصة بديلا للمرشحين ما مكن هذه الجماعات من جمع ملايين الدولارات وإنفاقها على المرشحين سواء بدعم برامجهم أو انتقاد برامج المنافسين.
انتخابات 2012
وانعكس قرار المحكمة العليا بشكل مباشر على انتخابات 2012 حيث كان لإطلاق يد المؤسسات والاتحادات في تقديم التبرعات للجماعات الخاصة أثره الكبير على الإنفاق الانتخابي الذي قد يصل إلى ستة مليارات دولار في انتخابات الرئاسة والكونغرس وحكام الولايات والمجالس المحلية.
ففي عام 2008 بلغ إجمالي الإنفاق من جانب أكبر 9 جماعات خاصة 25,8 مليون دولار بينما من المتوقع أن يبلغ هذا الرقم 98,7 مليون دولار في انتخابات 2012 تقدمها 313 جماعة خاصة.
ويقول الخبراء إن هذه الجماعات غالبا ما تكون مسؤولة عن أكثر الإعلانات إثارة للجدل حيث أنها لا تتوخى في أغلب الأحيان الصدق في المعلومات التي تقدمها عبر هذه الإعلانات وتقوم باقتطاع تصريحات للمنافسين ذات دلالات غير صحيحة.
المرشحون بدورهم يقومون بفعل أشياء مماثلة لكن بنسب أقل مخافة أن يكون لذلك أثر سلبي على حملة المرشح نفسه.
ففي إعلان لحملة أوباما يظهر مجموعة من العمال وهم يتحدثون عن "معاناتهم" بعد شراء شركة "باين كابيتال" التي كان ميت رومني أحد أكبر المساهمين فيها لمصنع كانوا يعملون فيه، ويقولون إن الشركة قامت بتسريح عمال مصنعهم وإشهار إفلاسه رغبة في المكسب السريع، رغم أن حملة رومني تقول إن الأخير لم يكن مسؤولا في "باين كابيتال" عند حدوث هذه الأشياء.
وفي إعلان مماثل لحملة رومني، يتركز الحديث على قانون الرعاية الصحية للرئيس أوباما مع ربطه ببرنامج الرعاية الصحية لكبار السن والإشارة إلى أن هذا البرنامج سيتأثر سلبا بالقانون المعروف باسم "أوباما كير"، رغم أن الدراسات التي تم إجراؤها في هذا الصدد تنفي وجود مثل هذا التأثير.
ساندي والإعلانات السلبية
ومع نهاية آخر مناظرة بين أوباما ورومني في ال22 من الشهر الماضي، أدرك المرشحان أن الإعلانات التليفزيونية والتجمعات الانتخابية أصبحت وسيلتهما للوصول إلى الناخبين المتأرجحين والمستقلين لاسيما في عدة ولايات متأرجحة يحمل ناخبوها بأيديهم مصير كلا المرشحين.
لكن مع دخول الإعصار ساندي إلى الحلبة، والدمار الكبير الذي ألحقه بولايات الساحل الشرقي لاسيما نيوجيرزي ونيويورك، حصل الرئيس أوباما على فرصة ذهبية لاستعادة عجلة القيادة في هذا السباق المتقارب والظهور مرة أخرى بمظهر القائد المتماسك الذي يقود البلاد بثبات في أوقات الأزمات.
هذا التطور دفع رومني والجماعات المؤيدة له إلى تكثيف الإعلانات التليفزيونية التي تهاجم أوباما وتروج لسياسات رومني أملا في منع المرشح الديموقراطي من الحصول على دفعة قوية قد تبقيه في البيت الأبيض وتقضي على أمال منافسه الجمهوري.
وكان لاضطرار المرشحين لإلغاء لقاءات انتخابية لهما في عدد من الولايات الحاسمة بسبب الإعصار ساندي أثر كبير على مخططاتهما للأيام القادمة، حيث ركز المرشحان والجماعات المؤيدة لهما على الإعلانات التليفزيونية وخصصوا لها ملايين الدولارات.
فخصصت حملة رومني 17,2 مليون دولار للإعلانات التليفزيونية في الأسبوع الأخير من الحملة الانتخابية من بينها 5,1 مليون في ولاية أوهايو التي اضطر المرشح الجمهوري لإلغاء تجمعات انتخابية بها بسبب الإعصار رغم أنه يدرك تماما أن الوصول إلى البيت الأبيض يمر عبر هذه الولاية التي لم ينجح أي مرشح جمهوري في الفوز بالانتخابات الرئاسية دون الفوز بها.
بدورها سعت الجماعات المؤيدة لرومني لتكثيف الإعلانات التليفزيونية هي الأخرى فخصصت جماعة "Restore our future" 20 مليون دولار في العديد من الولايات خلال الأسبوع الأخير من الحملة الانتخابية نحو البيت الأبيض، فيما تعتزم مجموعات أخرى هي American crossroads وCompanion group وCrossroads GPS إنفاق 17,2 مليون دولار على إعلانات تليفزيونية تركز بالأساس على مهاجمة سجل أوباما على مدار السنوات الأربع الماضية.
ومن بين الإعلانات التي مولتها جماعة "Restore our future" هذا الإعلان الذي يشبه الاقتصاد الأميركي بمريض في غرفة الرعاية المركزة يموت بسبب سياسات أوباما.
من جانبها خصصت حملة أوباما 28 مليون دولار للإعلانات التليفزيونية في الأسبوع الأخير من بينها 6,5 مليون دولار في ولاية أوهايو بمفردها.
وبدورها تعهدت جماعات مؤيدة لأوباما بانفاق ملايين أخرى على إعلانات تليفزيونية خلال الأسبوع الأخير من الحملة الانتخابية.
حيث خصصت جماعة “Priorities USA Action” 9,5 مليون دولار لإعلانات الأسبوع الأخير من الحملة من بينها 2,7 مليون دولار في ولاية أوهايو التي كانت هدفا لإعلانات تتهم رومني بتفضيل أصحاب الملايين ومحاولة القضاء على الطبقة الوسطى كما يظهر في هذا الإعلان.
تأثير الإعلانات
وتفسر دراسة مشتركة بين جامعتي كولومبيا وستانفورد حول تأثير الإعلان على الانتخابات، تركيز أوباما ورومني ومؤيديهما الشديد على الإعلانات التليفزيونية حيث تؤكد هذه الدراسة أن "الإعلان قد يغير نتيجة الانتخابات بشكل كامل لاسيما إذا كانت حظوظ المرشحين متقاربة".
وضربت الدراسة مثلا على ذلك بالانتخابات الرئاسية عام 2000 التي ربحها الرئيس الجمهوري السابق جورج بوش الابن أمام المرشح الديموقراطي آل غور، حيث قالت الدراسة التي أعدها بريت غوردون وويسلي هارتمان، إنه إذا لم يتم استخدام الإعلانات على الإطلاق في هذه الانتخابات فإن نتائج ثلاث ولايات كانت ستتغير من مرشح لآخر الأمر الذي كان سيؤدي بدوره إلى تغيير نتيجة الانتخابات وإدخال آل غور إلى البيت الأبيض بدلا من جورج بوش.
ويتوقع مركز السياسات التفاعلية المعني برصد الإنفاق على الحملات الانتخابية أن يصل إجمالي الإنفاق على الانتخابات الرئاسية في العام الجاري 2.6 مليار دولار.
وتظهر تقارير رسمية صادرة عن المفوضية الفدرالية للانتخابات أن إجمالي الإنفاق على الحملات الانتخابية في الموسم الحالي تجاوز أي أرقام سابقة، حيث أنفقت الجماعات المستقلة 342 مليون دولار على الأقل على إعلانات تليفزيونية ووسائل أخرى لتحفيز الناخبين على التصويت لمرشح بعينه.
ورغم أن التقارير تصنف هذه الجماعات على أنها مستقلة إلا أن الواقع يقول إنها تنتمي إلى منافس بعينه لكن بصورة غير مباشرة لأن القانون يحظر وجود صلة مادية بين الجانبين ويفرض شروطا على التمويل الممنوح للمرشح الرئاسي بينما يعطي هذه الجماعات حرية أكبر في جمع التبرعات من المؤسسات والأفراد والاتحادات العمالية وتوجيه هذه التبرعات كما تشاء.
ومن أصل 44 جماعة سياسية عملت على جمع التبرعات لدعم مرشح بعينه في الانتخابات الرئاسية أو التمهيدية التي جرت في الحزب الجمهوري، يحتفظ الجمهوريون بنصيب الأسد بواقع 34 جماعة أيدت مرشحين للحزب أو هاجمت المرشح الديموقراطي باراك أوباما، الذي حصل بدوره على دعم عشر جماعات مؤيدة له أو منتقدة للمرشح الجمهوري ميت رومني.
وأنفقت الجماعات المؤيدة للجمهوريين 281 مليونا و900 ألف و808 دولارات على أنشطتها الدعائية مقابل 60 مليونا و119 ألفا و159 دولارا للجماعات المؤيدة للديموقراطيين.
ولم يقتصر الحال على السباق الرئاسي فقط بل امتد ليشمل انتخابات الكونغرس حيث جمع الحزبان 718 مليونا و323 ألفا و236 دولارا لانتخابات مجلس النواب بواقع 419 مليونا للجمهوريين و299 مليونا للديموقراطيين.
كما جمع الحزبان لانتخابات مجلس الشيوخ 337 مليونا و211 ألفا و618 دولار بواقع 146 مليونا للجمهوريين و191 مليونا للديموقراطيين.
وبحسب الأرقام الرسمية فقد تصدرت شركات ومسؤولي وول ستريت قوائم المتبرعين بإجمالي 164 مليون دولار أنفقتها على جماعات سياسية حتى أوائل سبتمبر/أيلول الماضي لغرض التأثير على الانتخابات.
وأظهرت هذه الأرقام التي نشرها مركز السياسات التفاعلية أن 60 بالمئة من تبرعات وول ستريت ذهبت للجمهوريين بعد أن كان هؤلاء قد فضلوا عام 2008 المرشحين الديموقراطيين ومنحوهم 57 بالمئة من تبرعاتهم.
ومن المقرر أن يتوجه الناخبون الأميركيون إلى مراكز الاقتراع غدا الثلاثاء لاختيار ساكن البيت الأبيض في السنوات الأربع القادمة، وأعضاء مجلس النواب وثلث أعضاء مجلس الشيوخ و11 من حكام الولايات وعدد من المشرعين في المجالس المحلية.