تستعد هيلاري كلينتون لمغادرة إدارة الرئيس باراك أوباما بعد أربع سنوات من عملها كوزيرة للخارجية الأميركية، نالت خلالها استحسان الأميركيين وإشادتهم، مما أثار العديد من التكهنات حول مستقبلها السياسي.
ورغم غيابها القسري عن الساحة بسبب وعكة صحية تعرضت لها خلال شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، إلا أن استطلاعا للرأي أجرته مؤسسة "بابليك بوليسي بولينغ" الأسبوع الماضي أظهر أنها من أبرز الشخصيات المرشحة لخوض غمار انتخابات 2016 الرئاسية.
وعزز هذه التكهنات، إعلانها مؤخرا خلال حفل بروتوكولي صغير في وزارة الخارجية أنها لا ترى نفسها "متقاعدة" بعد ولو أنها ستسلم حقيبتها لخلفها في غضون بضعة أيام. وكان مجلس الشيوخ الأميركي قد وافق على ترشيح السناتور جون كيري لتولي حقيبة الخارجية خلفا لهيلاري كلينتون.
وكان أوباما قد وصف كلينتون بأنها "استثنائية ولا تكل"، وقال إن التاريخ سيذكرها كواحدة من أفضل وزراء الخارجية الأميركيين، مشيرا إلى جهودها في "استعادة مصداقية أميركا في العالم"، خصوصا وأنها أمضت أكثر من 400 يوم متنقلة من بلد إلى آخر.
وقد التقت كلينتون خلال فترة وجودها على رأس الدبلوماسية الأميركية، العديد من المسؤولين الدوليين، كما سعت إلى الوصول لشرائح المجتمع المختلفة. فقد حثت الطلاب في الجامعات على العمل الدؤوب، والتقت مجموعات كبيرة من ممثلي المجتمع المدني وشجعتهم على المطالبة بحقوقهم لاسيما النساء منهم، كما تحدثت في مؤتمرات دولية كثيرة ودعت إلى عالم أفضل.
التزام بحقوق الإنسان
وزارت كلينتون 112 دولة خلال فترة توليها المنصب، كان للشرق الأوسط نصيب كبير منها. "ورغم أنه ما يزال من المبكر تقييم إرث كلينتون في الشرق الأوسط بدقة"، حسبما قالت آذر نفيسي مديرة الحوارات الثقافية في معهد سايس التابع لجامعة جونز هوبكنز ومؤلفة كتاب Reading Lolita in Tehran، إلا "أنني لطالما أعجبت بشغفها والتزامها بحقوق الإنسان وحقوق المرأة، الذي تعدى موقفها السياسي".
وقالت نفيسي إن "كلينتون كانت منفتحة ومرنة فيما يتعلق بالسياسات تجاه الشرق الأوسط، فقد تعاملت مع كل حالة بطريقة مختلفة".
الربيع العربي
وخلال وجود كلينتون على رأس الخارجية الأميركية، شهد الشرق الأوسط حراكا شعبيا غير مسبوق فاجأ واشنطن، وأفقدها حلفاء تقليديين ساهموا إلى حد بعيد في الإبقاء على الاستقرار السياسي من المنظور الأميركي. فقد فرضت أحداث الربيع العربي، التي بدأت في تونس أواخر عام 2010 وامتدت إلى مصر واليمن وليبيا والبحرين وسورية، على السياسة الأميركية التكيف مع نتائجها.
وفي هذا الإطار، قال الباحث في معهد الشرق الأوسط في واشنطن محمد المنشاوي "إن التغيير في الشرق الأوسط حصل أمام عينيها"، مشيرا إلى أنها كانت ضمن "معسكر الكبار مع وزير الدفاع ومدير وكالة الاستخبارات المركزية الذين كانت نظرتهم إلى الشرق الأوسط تقليدية وهدفهم هو تحقيق الاستقرار".
ولفت الباحث في المعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن (Chatham house) نديم شحادة إلى أن كلينتون كانت "موافقة منذ البداية على ضرورة حصول تغيير جذري في السياسة الأميركية بالنسبة للشرق الأوسط"، مشيرا إلى أنها كانت مع سياسة الحوار والتفاوض مقابل سياسة الاشتباك التي انتهجها الرئيس السابق جورج بوش. وهذا "ما جعلها تدير الأزمات بدل محاولة إيجاد حلول لها"، حسب رأي شحادة.
ووافقت أمل خوري رئيسة قسم دراسات السلام والنزاعات الدولية في جامعة غيلفورد كولدج في ولاية نورث كارولينا على أن واشنطن اعتمدت على إدارة الأزمات في الشرق الاوسط بدلا من حلها، مشيرة إلى مراوحة النزاع الإسرائيلي الفلسطيني مكانه على سبيل المثال.
"سنوات ناجحة"
واعتبر كريم بيطار مدير الأبحاث في معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (IRIS) في باريس أنه "بالمجمل كانت سنوات كلينتون في الخارجية الأميركية ناجحة"، مشيرا إلى أنها "إذا أرادت أن تترشح للرئاسة الأميركية عام 2016، فإن خبرتها الدبلوماسية ستلعب دورا إيجابيا في تحقيق طموحها". وقال بيطار إن "البعض يتهمها بأنها كانت باردة كثيرا لا تعبّر عن عواطفها، ولكن لا أحد يستطيع أن ينكر أنها كانت تدرس الملفات بدقة وأنها عملت بكل جهد للدفاع عن مصالح أميركا في المنطقة".
ولفت بيطار إلى أن السنوات الأربع الأخيرة كانت سنوات صعبة بالنسبة لكلينتون، فلا "يمكننا أن ننكر حصول أخطاء بالمعنى السياسي.. وأحد هذه الأخطاء، ربما، التعبير عن دعمها للرئيس المصري السابق حسني مبارك في آخر أسبوع قبل سقوطه.. الثوار الشباب في مصر سيتذكرون مقولة كلينتون أنها تعتبر مبارك عضوا في عائلتها".
ولكن "رغم علاقات واشنطن مع الأنظمة العربية التي طالها الربيع العربي"، أضاف بيطار، "حاولت كلينتون من خلال سياستها الوقوف إلى جانب الشعوب العربية وحيّت ثوراتهم، في وقت سعت فيه للحفاظ على المصالح الأميركية".
ولأن سياسة واشنطن الخارجية لا تحددها وزيرة الخارجية فقط، قال بيطار إن "الرئيس أوباما سعى إلى تفادي الخلافات بسبب طبعه المعتدل، مما انعكس على أداء كلينتون التي أدارت السياسة الخارجية بطريقة حساسة"، مضيفا "عندما تزور 112 بلدا في عالم يتغير بسرعة وثورات عديدة، فإن مجرد أن لا يحصل أي خطأ فادح هو أمر إيجابي ويعتبر نجاحا".
أحداث بنغازي
غير أن تداعيات أحداث القنصلية الأميركية في بنغازي في 11 سبتمبر/أيلول الماضي ما تزال تتفاعل في الولايات المتحدة، خصوصا وأن كلينتون مثلت في 23 يناير/كانون الثاني الجاري أمام الكونغرس وأدلت بشهادتها حول الاعتداء المسلح الذي أودى بحياة أربعة أميركيين بينهم السفير كريستوفر ستيفنز.
وأكدت كلينتون في شهادتها أن هجوم "بنغازي لم يأت من فراغ"، وأضافت أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ أن "الثورات العربية أربكت ديناميكيات السلطة ومزقت قوات الأمن في أنحاء المنطقة"، داعية إلى استخلاص العبر من هجوم بنغازي.
كما شددت على أن الدبلوماسية الأميركية لا يمكن أن تتراجع في مواجهة التحديات الجديدة التي تطرحها التغيرات الجيوسياسية، مشيرة إلى أنه على الولايات المتحدة مواجهة "بيئة التهديدات المتغيرة".
وقد وصف عضو لجنة العلاقات الخارجية السناتور الجمهوري راند بول، خلال تصريحات صحافية، ما حصل في بنغازي بأنه "خطأ كبير".. لافتا إلى انعكاسه السلبي على مستقبل كلينتون السياسي.
كذلك، رأى منشاوي أن هذه الحادثة "أساءت إلى سنوات إدارة كلينتون للدبلوماسية الأميركية"، مشيرا إلى أن "التاريخ سيذكر أنها كانت وزيرة خارجية عندما قتل السفير الأميركي في بنغازي".
غير أن خوري قللت من انعكاس هذه الحادثة، رغم خطورتها، على طموح كلينتون، وقالت "لا أعتقد أن حادثة بنغازي ستؤثر على مستقبل كلينتون السياسي، لأن كل ما يحدث خارج الولايات المتحدة لا يدخل في حساب المناورات السياسية الداخلية".
كلينتون والنزاع في سورية
ومن المقرر أن تغادر كلينتون وزارة الخارجية يوم الجمعة فيما تبقى العديد من الملفات الساخنة مفتوحة، وأبرزها وأكثرها إلحاحا الصراع المسلح في سورية الذي بدأ منذ 22 شهرا، وأدى إلى مقتل أكثر من 60 ألف شخص، حسب آخر حصيلة للأمم المتحدة.
فقد انتقد نديم شحادة أداء الإدارة الأميركية عموما وأداء كلينتون خصوصا فيما يتعلق بالتطورات في سورية. وقال "إذا أردت أن أقيّم إرث كلينتون بالنسبة للمسألة السورية، فإني سأجدها سلبية خصوصا وأن واشنطن لم تطرح يوما خيار التدخل وتغيير النظام، بل اكتفت بمطالبة الرئيس السوري بالرحيل".
بدوره، أكد منشاوي أنه "لا يوجد حماس قوي لدى كلينتون لتغيير السياسة الأميركية بالنسبة لسورية"، مشيرا إلى أن "سياسة واشنطن تجاه الأزمة السورية تنحصر برفض تام للتورط العسكري وبالدعم الأدنى للجيش الحر".
ورغم أن ما يجري في سورية "هو ثورة شعبية" تشبه الثورات العربية من حيث أسبابها الاقتصادية والديموغرافية، حسب بيطار، إلا أنها من أصعب الأزمات في الشرق الأوسط، على حد تعبيره.
وفي وقت يؤخذ على واشنطن بأنها لم تتحرك في سورية بشكل كاف، قال بيطار "لم يكن هناك العديد من الخيارات، خصوصا وأن ذكريات حرب العراق ما تزال قوية في واشنطن"، مشيرا إلى أن الولايات المتحدة حاولت أن تدير الأزمة عبر حلفاء لها مثل السعودية وقطر وتركيا". وقال بيطار "ربما إذا ترشحت كلينتون للرئاسة عام 2016 سيؤخذ عليها موقفها تجاه سورية بأنها لم تساهم في إزاحة (الرئيس) بشار الأسد في وقت أسرع ".
شاهد زيارات وزيرة الخارجية الأميركية إلى الشرق الأوسط على خريطة أكبر