أميال قليلة تفصل بين مناطق عيش أثرياء العاصمة واشنطن وفقرائها، لكن الفرق بينها شاسع إلى درجة يخال المرء معها أنه في عالمين مختلفين تماما.
من ناحية، منازل تتوفر فيها كل مقومات الرفاهية والسيارات الفخمة ومحلات راقية تليق بمستوى عيش القاطنين في المنطقة، ومن الناحية الأخرى أحياء متواضعة تأوي عائلات تشتغل لساعات طوال من دون أن تتمكن من سد حاجياتها الأساسية.
كذلك حال ماريا، وهي أميركية من أصول مكسيكية في عقدها الرابع وأم لثلاثة أطفال.
تغادر ماريا منزلها شرق نهر الأناكوستيا يوميا في الصباح الباكر للتوجه إلى المركز التجاري حيث تشتغل كعاملة نظافة. وتعمل ماريا، التي تبدو آثار التعب واضحة على محياها، لساعات طوال حتى تتمكن من مساعدة زوجها العاطل عن العمل منذ الأزمة المالية التي ضربت الولايات المتحدة سنة 2008.
وترفض ماريا الإفصاح عن الأجر الذي تتقاضاها لقاء عملها، لكنها تشير في المقابل إلى شعورها بالعجز أمام تنامي مطالب أطفالها وعدم قدرتها على تلبية احتياجاتهم. وتقول "لولا مساعدة بعض الجمعيات التي أقصدها وزوجي للحصول على المؤونة الأسبوعية والخدمات الصحية لما استطعنا العيش."
ولا تخفي ماريا هواجسها من أن يسقط أبناؤها "في فخ الجريمة والمخدرات نظرا للتناقضات الصارخة بين نمط عيش ذوي الدخل المحدود وجيرانهم في الضفة الأخرى من المدينة نفسها."
واشنطن...عاصمة المتناقضات
هذه الفوارق جعلت واشنطن تحتل المرتبة الثالثة في تصنيف المدن الأميركية الأكثر تناقضا من حيث مستوى الدخل سنة 2012، حسب تقرير لمعهد دي سي للسياسة الضريبية.
ففي الوقت الذي يبلغ فيه معدل دخل الخمسة في المئة من أغنياء المدينة 473.000 دولارا سنويا، لا يتجاوز معدل دخل الأسر الأكثر فقرا 10.000 آلاف دولار.
وهكذا يرزح %23 نحو من سكان واشنطن تحت عتبة الفقر نظرا لغلاء المعيشة وارتفاع إيجارات العقارات.
ولاحظت جمعية "بريد فور ذي سيتي" التي تقدم الدعم لاسيما في مجالي الغذاء والصحة لضعفاء منطقة واشنطن ارتفاعا يتراوح بين عشرة و15 في المئة في عدد الأشخاص الذين يلجأون إلى خدمات مركزيها، بعد قرار الكونغرس عدم تمديد الزيادة المطلوبة في برنامج المساعدات الغذائية "سناب" والتي كانت تهدف إلى الحد من تداعيات الانكماش الذي شهدته البلاد بين 2008 و2009.
وحسب مدير العلاقات العامة في الجمعية براين بانكس، فإن غالبية الأشخاص الذين يستفيدون من خدمات المؤسسات الغذائية يعملون بدوام كامل.
الحلم الأميركي في خطر؟
لطالما نظر الكثيرون إلى الولايات المتحدة على أنها "أرض الفرص" وتشبثوا بالحلم الأميركي الذي يحقق الرفاهية وإمكانية الارتقاء الاجتماعي لكل من يعمل بجد. لكن التباين "الشديد" في الدخل والثروة الذي تشهده البلاد منذ بضعة سنين أصبح يضع الحلم الأميركي أمام تحد كبير.
فوفقا لآخر تقرير أصدره مكتب التعداد الأميركي بداية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي فإن عدد من يعيشون تحت عتبة الفقر قد بلغ في الولايات المتحدة 49.7 مليون شخص سنة 2012، أي ما يعادل 16 % من المجتمع الأميركي.
وضمن هذه الفئة، تعاني أكثر من 10 ملايين عائلة عاملة من ذوي الدخل المحدود لتلبية حاجياتها الأساسية، وهو ما يعني أسرة من أصل ثلاث أسر أميركية.
واتسعت الهوة بين الواحد في المئة من الأميركيين الأكثر ثراء وباقي الشعب لتصل إلى مستوى غير مسبوق منذ سنة 1928، استنادا إلى دراسة أعدها الخبير إيمانويل سايز من جامعة كاليفورنيا.
وكشفت الدراسة أنه في الفترة الممتدة ما بين 2009 و 2012، استحوذت شريحة الأغنياء التي يتجاوز دخلها السنوي 394.000 دولارا في السنة، على 95% من مجموع دخل العائلات في البلاد.
ورغم الأزمة المالية التي عرفتها البلاد خلال السنوات الماضية، ازدادت مداخيل هذه الفئة ب31.4% في الوقت الذي لم تنم فيه مداخيل ال99% من باقي الشعب الأميركي سوى ب0.4% في أحسن الأحوال.
وعن الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة، أشار أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأميركية في واشنطن إدمون غريب في تصريح لموقع الحرة بأصابع الاتهام إلى سياسات الإدارة الأميركية لاسيما في مجالي التعليم والهجرة.
ويقول إدمون غريب إن "البرامج التربوية في المدارس الأميركية لا تهيئ الطلاب في غالب الأحيان بالشكل الكافي للحصول على وظائف بدخل جيد ولا توفر التدريب المهني الضروري لذلك."
ويضيف "إن الوضع مرتبط كذلك بانخفاض عدد الوظائف الناتج إما عن نقل أنشطة الشركات الكبرى إلى الدول النامية نظرا لكلفة اليد العاملة المنخفضة أو عن تزايد أعداد المهاجرين إلى الولايات المتحدة."
وفي نظر غريب، فإن "قبول هؤلاء المهاجرين بأجور أقل من تلك المتعارف عليها يحرم المواطنين الأميركيين من عدد من الوظائف."
ويرى أن الهوة بين الفقراء والأثرياء تزيد من الاحتقان والضغوطات الشعبية، مذكرا في هذا الإطار بحركة "لنحتل وول ستريت" التي كانت من بين مطالبها الأساسية تخفيض الامتيازات التي يتمتع بها ذوو الدخل المرتفع.
ونشر الرئيس الأميركي باراك أوباما الأربعاء على حسابه الشخصي على موقع تويتر مجموعة من التغريدات يؤكد فيها مسؤولية الحكومة في تقليص الهوة بين الأثرياء وذوي الدخل المحدود، معتبرا أن "تنامي الفوارق بين الطبقات في الولايات المتحدة وانعدام فرص الارتقاء الاجتماعي يضر بالديمقراطية في البلاد."
و استعرض أوباما كذلك خطته لرفع الحد الأدنى للأجور من 7.25 إلى 10.10 دولارا بالإضافة إلى خلق أكثر من 140.000 منصب شغل للحد من هذه الظاهرة.
الولايات المتحدة على قائمة البلدان الأقل عدالة في توزيع الدخل
تحتل الولايات المتحدة المرتبة الرابعة في تصنيف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية للدول التي تشهد فوارق كبيرة في الدخل بعد الشيلي والمكسيك وتركيا.
وسبق للمنظمة أن حذرت من عواقب هذه الظاهرة التي شكلت "أحد أسباب الأزمة المالية في الولايات المتحدة، حيث دفعت بالأسر إلى تعويض ضعف مداخيلها باللجوء إلى القروض المجازفة."
وسجلت المنظمة كذلك ضرورة الحد من الامتيازات الضريبية الممنوحة "بشكل غير معقول لذوي الدخل المرتفع."
وللتذكير، حاولت حكومة أوباما أكثر من مرة تمرير قانون لتخفيف الامتيازات التي منحها الرئيس السابق جورج بوش للأثرياء الأميركيين من دون جدوى.
يعتبر الخبير الاقتصادي زيد البرزنجي أن من أبرز أسباب تنامي الفوارق في الولايات المتحدة وفرة الطلب على الكفاءات العالية، ما أدى إلى ارتفاع أجور وتعويضات هذه الفئة، في الوقت الذي تتوجه فيه الشركات التي تحتاج للكفاءات البسيطة إلى دول العالم الثالث.
ويتابع "إن البطالة وتقليص حجم المساعدات الحكومية لفائدة ذوي الدخل المحدود عمقت هذه الفجوة."
ويوضح الخبير الاقتصادي أن خيار الطبقة المتوسطة الدخل "الاستثمار في العقار الذي انخفضت قيمته بسبب الأزمة المالية ساهم بشكل أكبر في تعميق الفرق مع الأثرياء"، مضيفا أن الاستثمار في العقار لم يمثل مشكلا بالنسبة للأثرياء لأنه يشكل جزءا بسيطا من ثرواتهم عكس ما هو الحال بالنسبة للطبقة المتوسطة.
هل من حل لتحقيق العدالة الاجتماعية؟
للتذكير، لقد أحرزت الولايات المتحدة 45 نقطة في مقياس "جيني" لقياس عدم المساواة، حسب وثيقة صادرة عن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، علما بأن المقياس يتراوح ما بين 0 نقطة بالنسبة للدول التي توفر نسبة عالية من المساواة في الدخل و100 حيث تنعدم المساواة بشكل تام.
يؤكد أستاذ العلوم السياسية إدمون غريب أنه "بإمكان الحكومة عمل الكثير للحد من هذه الظاهرة عبر توفير برامج لإعادة تأهيل محدودي الدخل وخلق فرص عمل جديدة أو وقف الهجرة إلى الولايات المتحدة."
ويعتبر إدمون غريب أن "فرض ضرائب على الطبقات الميسورة التي تحصل على حصة الأسد من الدخل والأرباح من شأنه كذلك تقليص الهوة بين الأغنياء والفقراء."
ويشاطره الرأي الخبير الاقتصادي زيد البرزنجي بالقول إن من "أهم السياسات التي من شأنها تقليص الهوة هي تلك التي تشجع ذوي الدخل البسيط على استكمال الدراسة مثلا عن طريق قروض دراسية أو بتغطية كاملة لمصاريف الدراسة."
ويبدي الخبير أسفه لتراجع مثل هذه السياسات في السنين الأخيرة لتفسح المجال للمساعدات الاستهلاكية التي قد لا تكون مجدية بالشكل الكافي.
وفي خضم كل هذا، تستمر معاناة الأسر الأميركية لتلبية متطلباتها بينما لا يزال الملايين من الشباب يحلمون بأن تطأ أرجلهم أرض الحلم الموعود.