بدت حلب، كعادتها، مدينة مزدحمة في يومها الصيفي المشمس. كانت الفرصة سانحة لقضاء معظم اليوم في التعرف إلى "الشهباء" والتجول في محيط القلعة الأثرية والسوق القديم الذي تفوح منه رائحة الزعتر الحلبي وصابون الغار اللذين يحرص كل قادم إلى المدينة أن يشتريهما من السوق التاريخية.
كل شيء بدا طبيعيا.
لا جديد، أصوات المزامير تزحم الفضاء، والبشر يحيطون بقلعة حلب. لا جديد سوى مزيد من الصور للرئيس السوري بشار الأسد والأعلام الوطنية التي وضعت على الجدران في مسعى لإظهار مزيد من التأييد في مقابل المظاهرات التي كانت تخرج هنا وهناك بين حين وآخر.
آثرت التجوال داخل المدينة القديمة والقلعة الأثرية التي تتوسط الحي القديم، وقلت: عساني أنعش طاقتي بعصير التوت من عربة صغيرة ارتدى صاحبها اللباس التقليدي، وعلى مذياع علقه على طرف العربة كان صوت الرئيس السوري بشار الأسد يخطب في مجلس الشعب عن أحداث درعا والظروف التي تعصف بالبلاد للمرة الأولى منذ عقود.
لم تكن إمارات الاهتمام بادية على الشارع، لا بخطاب الرئيس الأسد، ولا حتى بالمظاهرات التي خرجت في مدن سورية عديدة دعما للمظاهرات التي اندلعت في درعا واتُهمت فيها السلطات السورية بزج الجيش في قتل مدنيين.
حتى دمشق التي قدمت منها في ذلك الصباح لم تبد ملامح سكانها أي تعبير يوحي بالرضا ولا الاستياء.
كان بالإمكان ملاحظة أن مظاهرة قد تخرج في شارع ما، وفي الشارع الآخر يقارع صوت الباعة صوت القصف على الجانب الآخر.
كان ذلك في 31 آذار/ مارس 2011، أي بعد نحو أسبوعين من بدء "المؤامرة على سورية" كما تقول الحكومة، و"الثورة" كما يقول من خرجوا ضد النظام السوري.
دخلت المسجد الأموي للمرة الأولى كي أستريح تحت ظل أعمدته التي تبث حجارتها رطوبة وراحة نفسية.. ورحت ألهي نفسي بالتقاط صور لأطفال يتراكضون في باحته الواسعة.
هذه عادة أهالي المدينة. يتسوقون من المحال الأثرية الملاصقة للمسجد، وبعد الانتهاء، يأتون للمسجد، فيتوضأ ويصلي من يريد أن يصلي، ويستريح من أتعبت أقدامه أرصفة السوق الحجرية، ويلهو من يلهو من الأطفال في الباحة الواسعة.
نسوة بالعباءة الحلبية السوداء يتبادلن أطراف الحديث. رجل بلحية طويلة وعباءة يقرأ القرآن فيلتف حوله الأطفال، وسياح يتفحصون خبايا التاريخ بين هذا الجدار أو ذاك.
لم أدر حينها أنها ستكون آخر صور يمكنني التقاطها لذلك المسجد الذي ودعته قبل ثلاثة أعوام، ليتحول منذ عام ونصف العام إلى أطلال.
عندما قلبت صوري القديمة، قفزت وجوههم من الصور إلى ذاكرتي، وتساءلت: ماذا حل بهم؟
هل أجبرهم ارتطام الرصاص على جدرانهم إلى إخلاء المنازل؟ هل دفنوا تحت الأنقاض عندما تهاوى برميل متفجر عليهم في غرفة النوم؟ هل أصبح بعضهم معارضا مسلحا يقاتل في حيه، أم أنه يقاتل على الجانب الآخر مع القوات النظامية "لطرد المقاتلين الأجانب" من بلده؟
هاتان صورتان التقطهما في ذلك اليوم، وتتلوهما اثنتان التقطتا بعد المعارك التي شهدها المسجد من زوايا مقاربة.
أحدث نفسي اليوم: ماذا لو أني عرفت أن المسجد الأموي في حلب سيتعرض إلى ما تعرض إليه؟ لصورت كل حجر فيه ذاك اليوم، وودعته.
طريق سالك بصعوبة
كان بي شيء من الوجل عند اقترابي من الحدود الجنوبية لقرية الريحانية التركية تمهيدا لعبور الأسلاك الشائكة إلى قرية أطمة بريف إدلب. تلك هي مرتي الأولى التي تجرأت فيها على عبور الحدود دون جواز سفر أو تفتيش.
أطلق أحد حراس الحدود الأتراك النار في الهواء لإخافتي وسمحوا لي بعبور الأسلاك بعد جلسة تحقيق تحت ظل شجرة الزيتون بدأت بصفعتين وانتهت بمصادرة هاتف وجهاز إنترنت فضائيين.
قيل لي على إثرها، إن السلطات التركية تسهل العبور وتتغاضى عن الدخول إلى سورية والخروج منها، لا سيما للنازحين الذين كانوا يتوافدون بالمئات على مختلف نقاط العبور. لكن الأتراك كانوا في بعض الأحيان يشددون إجراءاتهم الأمنية خوفا على أمنهم الداخلي.
أضحى ذلك الطريق معروفا للجميع لا سيما للصحافيين من مختلف أنحاء العالم الذين كانوا يتوافدون على مناطق الشمال السوري بمساندة من الجيش السوري الحر، الذي كان قادته وعناصره يؤمنون وقتها بأن الصحافة وسيلة للمساندة في صراعهم مع الأسد.
القرى الحدودية وعلى خلاف مدن الداخل، بدأت تعج بالنازحين من مختلف المدن والقرى السورية، فالبعض قدم إليها تمهيدا لعبور الحدود، وآخرون آثروا الاستقرار فيها بعيدا عن القصف.
المزيد من التوغل داخل الأراضي السورية يظهر حجما أكبر من الصراع، كل جدار تجد عليه شعارات إما مؤيدة للنظام السوري بقيت منذ الفترة التي بسط فيها سيطرته، وإما شعارات جديدة تطالب برحيله وإسقاطه.
هذه هي دورة حياة الشعارات:
تخرج المظاهرة فتنتشر الشعارات على الجدران، يقتحم الجيش المنطقة فيمحو جنوده الشعارات السابقة ويكتبون أخرى، ثم يأتي المقاتلون المعارضون فيكتبون شعارات جديدة، وهكذا دواليك.
على الطريق آثار المعارك واضحة في البيوت المهدمة والدبابات والآليات العسكرية المحترقة هناك وهناك.
في إحدى قرى جبل الزاوية في ريف إدلب، وقف شاب أمام قبر ينضب فيه الورود بعناية وهدوء تارة، ويجلس ينظر إليه بهدوء تارة أخرى مبديا كل الاهتمام. اقتربت وسألت عن هذه العلاقة الحميمة مع القبر، أجاب على مضض أنه قبر أمه التي قضت في قصف مدفعي قبل نحو ثلاثة أشهر. أخبرني مرافقي بأن الشاب يقضي ساعات يوميا إلى جوار أمه.
إرهاصات تشدد
على أحد الحواجز التي أنشأها إسلاميون كما يبدو من لباسهم وحديثهم في شهر أيار/ مايو من عام 2012، ارتفعت أعلام سوداء كتب عليها "لا إله إلا الله". كان هؤلاء يرفضون، كما أخبروني، تصنيفهم على أنهم من مقاتلي القاعدة، وإنما كجماعات سورية "إسلامية" محاربة تقاتل جنبا إلى جنب مع مقاتلي الجيش الحر.
برفقتي هذه المرة مصورة صحافية أميركية من مجلة "تايم". وبالرغم من أنها أبدت تخوفا في البداية من تلك الأعلام التي ذكرتها بمقاتلي القاعدة في أفغانستان حيث غطت الحرب، إلا أننا عدنا أدراجنا إلى القرى الحدودية بسلام.
لكن هذه الصورة تغيرت في واحدة من قرى ريف إدلب. فبينما كنت أحتسي كوبا من الشاي مع مصوري قبيل غروب الشمس، خرج في الجانب الآخر من الشارع مقاتل أجنبي لإصلاح عطل كهربائي في غرفة يقطن فيها إلى جانب مجموعة من المقاتلين الأجانب.
سألت أبا علي، الرجل الذي استضافنا في منزله: ما سر هؤلاء؟
قال لي إنهم مقاتلون أجانب قدموا من العراق وأفغانستان، ولا يرغبون في التواصل مع أحد.
سألته إن كان يرى في وجودهم مشكلة، فأجاب بنبرة تبدي عدم الاهتمام، "لا يعجبني تعاملهم مع الآخرين، لكنهم قلة لا يضرنا وجودهم ما داموا يقاتلون الأسد".
مدينة أشباح
بحثت عن سكان لأتحدث إليهم عما جرى في مدينتهم من تفاصيل في الأيام القليلة الماضية، لكن مدينة الأتارب التي شهدت معارك طاحنة بين قوات النظام السوري ومعارضيه قبل أيام من وصولي، كانت منازلها قد فرغت من سكانها، وبدت مدينة أشباح.
عزز ذلك الشعور الدمار الهائل الذي تعرضت له المدينة جراء المعارك، وقد كانت الأتارب مدينة صناعية تعج بالناس خلال ساعات النهار قبل أن يبدأ الصراع المسلح الذي انتهى بمعركة شرسة في الأول من تموز/ يوليو 2012.
بالصدفة، التقيت بسيدة تلهفت للحديث معي وراحت تشرح لي ما تعرض له منزلها من دمار، وكيف تهشم زجاج غرفة النوم خلال رقادها بساعات الليل، معززة راويتها بشظايا الصواريخ التي استقرت في زوايا المنزل.