سحر أرناؤوط - بيروت
خلال تغطيتي لأشرس المعارك التي شهدها لبنان على فترات مختلفة، بدءا من حرب "عناقيد الغضب" إلى "حرب تموز" إلى معارك نهر البارد فمعارك عرسال وبعدها معركة فجر الجرود، استرجع في ذاكرتي اليوم تفاصيل كل تلك التغطيات، كانت محفوفة بخطر كبير لكني اعترف اليوم أنني لم أكن أسيرة الخوف أو التردد في التواجد بأكثر المناطق سخونة، كنت دوما أتسلح بالشجاعة ليس لأنني اتقن اكتسابها بل لأني أعي جيدا هدفي.. الأمر يستوجب مني الكثير من الوعي ومعرفة هوية الخطر ومصدره.
كانت الإجراءات الوقائية في هذه المواقع تتطلب مني كمراسلة ميدانية أن التزم بوضع الخوذة وارتداء السترة الواقية من الرصاص.. تجربة اكسبتني الكثير من المناعة، مناعة مهنية في مواجهة كل التحديات هذه التحديات التي قادتني في 2011 للدخول إلى عمق أحياء حمص بداية الأزمة السورية.. كانت مشاعر الخوف والقلق تعتري محيطي، خوف أمي أن أتعرض لإصابة قد تكون قاتلة..
اليوم في عصر الكورونا، أجد نفسي أواجه تحد من نوع آخر، اليوم تبدلت الأولويات فباتت سلامة العائلة أولا قبل كل شيء، قبل زمن الكورونا كان الواجب المهني أولا.
اليوم بات الخوف على أقرب الناس لي، أمي.. أخوتي.. زوجي.. ابنتي، وصرت افتراضيا "أنا مصدر هذا الخطر".
كان من الصعب جدا أن التزم الحجر الذاتي في وقت تتعرض فيه الإنسانية إلى أشرس هجوم من جرثومة غير مرئية تلقب علميا بـcovid 19 لكن عمليا هي شبح الموت.
تبدلت المصطلحات الصحفية وأساليب العمل اليومية، لم تعد رسائلي المباشرة تأتي من قلب الحدث فالمسافة الاجتماعية التي فرضتها كورونا على كل الناس سرى مفعولها على مقابلاتي مع الضيوف، تفصل بيننا شاشة كومبيوتر، وسيلة التواصل خدمة السكايب.
ولأن مقتضيات المعركة دوما ما تتطلب مني أخذ كل الاحتياطات الواجبة، باتت الكمامة إحدى هذه الأدوات وبات المعقم يلازم الكاميرا والمايكروفون. تغطيتي اليومية لتداعيات هذا الفيروس الغامض، وضعتني على تماس مع أوجاع الناس وهواجسهم..
أكثر ما كان يثير اهتمامي هو محاولة معرفة ما يحصل داخل مستشفى رفيق الحريري الطبي مثلا. وبدأت تتردد مصطلحات جديدة دخلت إلى قاموس الإعلام، غرف العزل، الحجر الصحي، أجهزة التنفس، غرف الانعاش، وغيرها الكثير..
خلال إحدى المكالمات الهاتفية التي أجربتها مع الممرضات في القسم الخاص بكورونا، سألت إحداهن كم مضى من الوقت وهي في هذا القسم المستحدث منذ شهر فبراير الماضي، ساد صمتها لبضعة ثوان حسبتها زمنا، قبل أن تطلق تنهيدة عميقة وبكلمات ترتجف حروفها وصوت خافت حزين، قالت لم أر ابنتي منذ أكثر من شهر، وأنا كلي شوق لأغمرها لأتلمس يديها الصغيرتين لأضمها إلى قلبي، ولن أتمكن من الاقتراب منها فور عودتي إلى المنزل في أقرب فرصة، عمر ابنتها لا يتجاوز السنة والنصف..
هي أكثر اللحظات التي لا تزال تحفر في عمق نفسي ألماً، هكذا أجبرني فيروس كورونا أيضا أن انفصل عن ابنتي، وأفرض عليها الحجر المنزلي لدى جدتها وأحرص على عدم زيارة أمي ورؤية ابنتي خوفا على سلامتهما، والتزاما بواجب مهني و إنساني..
في عملي الصحفي وتحديدا كمراسلة واجهت الكثير من الأحداث منها ما كان متوقعا ومنها ما لم يكن بالحسبان، الكورونا واحدة منها. يكفي أن أذكر يوما ما إني كنت شاهدة على العصر الكوروني وثقت يومياتها في تقاريري ولا تزال التغطية مستمرة..