وجوه وقضايا

تأشيرة H-1B.. وصفة ماسك، وحلم أميركي لا يتحقق!

مروى صابر - واشنطن
10 يناير 2025

قبل أسابيع قليلة ودع الثلاثيني، أتال أغاروال، الولايات المتحدة بعد أكثر من سبع سنوات قضاها بين الدراسة والعمل؛ ليعود إلى مسقط رأسه بالهند.

أغاروال دخل الولايات المتحدة عام 2017 للحصول على ماجستير في مجال إدارة التكنولوجيا من جامعة كاليفورنيا سانتا باربرا، وقد نجح في مسعاه.

لكن الدرجة العلمية لم تكن جل مبتغاه، فالشاب الهندي كانت تراوده فكرة تكوين شركة تكنولوجية ناشئة.

ولم لا وهو في كاليفورنيا التي على أرضها تجتمع أكبر شركات التقنية في مكان واحد: وادي السيليكون.

طموح أغاروال اصطدم بقوانين الهجرة الأميركية؛ فتأشيرة دخوله كطالب لا تدعم خطته في البقاء وتأسيس مشروعه.

يقول الشاب الهندي: "اضطررت للبحث عن عمل، وهنا تحصلت على تأشيرة (اتش 1 بي)".

مشوار أغاروال مع التأشيرة أخذه إلى قلب جدل الهجرة في أميركا!

(اتش 1 بي) هي تأشيرة عمل مؤقتة، تُمنح لحملة البكالوريوس والشهادات الأعلى في تخصصات تقنية.

في أميركا الآن، يطالب كثيرون بإلغاء تأشيرة (اتش 1 بي)، بينما يقود الملياردير الأميركي إيلون ماسك معسكر المدافعين عنها، كوصفة لجلب الكفاءات لقطاع التكنولوجيا.

وصفة إيلون ماسك وحلم أغاروال

ظن أغاروال أن تأشيرة (أتش 1 بي) ستكون المفتاح السحري الذي سيمنحه الغطاء القانوني المطلوب لتحقيق حلمه الأميركي، لكنه سرعان ما اكتشف أنه كان واهما.

أدرك الشاب الهندي بعد فترة بسيطة أن هذه التأشيرة تربط وجوده في الولايات المتحدة بصاحب العمل، وأنه حال فقد وظيفته سيتعين عليه ترك البلاد في غضون 60 يوما، إلا إن حالفه الحظ ووجد شركة أخرى تكفل له الاستمرار ضمن برنامج (أتش 1 بي).

"في طريقي للاجتماع الأسبوعي مع مديري كل يوم جمعة، كان فكري ينصب على سؤال واحد، وهو: ماذا لو فقدت وظيفتي اليوم؟."

سؤال عادة ما يجر وراءه أسئلة أخرى كما يقول أتال أغاروال "إذا فقدت وظيفتي كيف سأحزم متعلقاتي؟، ماذا سأفعل بشأن عقد إيجار المنزل؟."

عاش أغاروال حالة الخوف والقلق هذه لأكثر من ثلاث سنوات حتى جاء اليوم المشؤوم وتخلت عنه شركته.

"هذا نوع من العبودية." هكذا وصف أغاروال تجربته مع تأشيرة (اتش 1 بي) للعمل في الولايات المتحدة.

ويوضح: "لكنها تصبح نوعا من العبودية، فقط، عندما لا يكون لديك طريق للحصول على البطاقة الخضراء."

بحسب الشاب الهندي، وحدها الإقامة الدائمة أو ما يعرف بالبطاقة الخضراء تعطيك الحق في تقرير مصيرك.

ويضيف: "لا تذهب للولايات المتحدة إلا إن كنت على يقين بأنك ستحصل على البطاقة الخضراء، ولديك جدول زمني واضح لذلك".

الطريق إلى البطاقة الخضراء

رغم أن تأشيرة (اتش 1 بي) لا تمنح حاملها الإقامة الدائمة، يقول ناصر فياض المحامي المختص بقوانين الهجرة، إلا أنها خطوة أولى مهمة.

"معظم من ينجح في الحصول على تأشيرة (اتش 1 بي) ويدخل البلاد، ويكون جادا في عمله، يُقدم صاحب عمله كخطوة ثانية طلبا للسلطات لمنحه (الموظف) البطاقة الخضراء حتى تستفيد (الشركة) منه لمدة أطول."

مدة تأشيرة (أتش 1 بي) ثلاث سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، بما لا يتجاوز ست سنوات.

إن حالفك الحظ، ووجدت صاحب عمل يكفل لك البطاقة الخضراء فهذا لا يعني أنك ستحصل عليها فورا، بحسب أغاروال، فبعض المهاجرين ومنهم الهنود يواجهون تأخيرا في الحصول على الإقامة الدائمة قد يستمر لعشرات السنين.

غيا أميركية لأبوين مهاجرين من الهند، نشرت على حسابها الشخصي على منصة تيك توك تقول إن والديها دخلا الولايات المتحدة بتأشيرة (أتش 1 بي) لكنهما لم يحصلا على الإقامة الدائمة إلا بعد ما يقرب من 15 عاما، بسبب التأخير في البت في الطلبات من طرف إدارة الهجرة.

تحدد الولايات المتحدة عدد البطاقات الخضراء التي تصدرها كل عام، لكن طلبات الحصول على بطاقة الإقامة الدائمة تتجاوز بكثير هذا العدد، ما يؤدي إلى حدوث تراكم أو تكدس.

بنهاية السنة المالية 2023، بلغ عدد الطلبات المتراكمة (أو المتكدسة) للحصول على البطاقة الخضراء 4 ملايين و300 ألف طلب، وفق آخر إحصاء لدائرة الهجرة.
أما التراكم في طلبات الحصول على البطاقات الخضراء لغرض العمل تحديدا، فقد بلغ في العام نفسه، مليون و800 ألف طلب، بينها مليون و 100 ألف طلب من موظفين هنود، وفق معهد كاتو البحثي في العاصمة واشنطن، الذي يدعو لتوسيع نطاق حرية الأفراد وتقليص دور الحكومات.

يحصل الهنود كل عام على نصيب الأسد (70 في المئة) من تأشيرات (أتش 1 بي) التي تصدرها الولايات المتحدة، يليهم الصينيون، فالكنديون.

ولا يولي العرب اهتماما كبيرا لهذه التأشيرة، بحسب المحامي المختص في قوانين الهجرة ناصر فياض، رغم تفوقهم في مجالات الهندسة والطب على حد قوله.

تأشيرة تثير الجدل

باتت (أتش 1 بي) محل اهتمام وجدل كبيرين مؤخرا، خاصة بعد إعلان الرئيس المنتخب دونالد ترامب دعمه لاستمرار منح هذه التأشيرة، رغم سياساته المتشددة تجاه الهجرة، ومعارضة بعض أنصاره داخل الحزب الجمهوري.

إذ يدخل ترامب البيت الأبيض هذا الشهر، واعدا بترحيل جميع المهاجرين الموجودين في الولايات المتحدة بشكل غير قانوني، وبفرض تعريفات جمركية على الواردات للمساعدة على خلق المزيد من فرص العمل للمواطنين الأميركيين.

لكن صناعة التكنولوجيا الأميركية تعتمد بشكل كبير على برنامج تأشيرة (أتش 1 بي) لتوظيف العمال الأجانب المهرة للمساعدة على إدارة مشاريعها، وهي قوة عمل يقول منتقدوها إنها تقلل من أجور المواطنين الأميركيين.

وتمنح الولايات المتحدة، عبر نظام القرعة، سنويا، 65 ألف تأشيرة (أتش 1 بي)، إضافة إلى 20 ألف تأشيرة للمهنيين الأجانب الذين يحملون درجة الماجستير أو أعلى من جامعة أو مؤسسة تعليمية أميركية.

ويجادل منتقدون لهذا البرنامج بأنه يأتي على فرص العمل المتاحة أمام المواطنين الأميركيين.

واتخذ أميركيون من شبكات التواصل الاجتماعي ساحة لانتقاد برنامج تأشيرات (أتش 1 بي)، والمطالبة بإلغائه، وقالوا إن الشركات تجلب الأجانب لا لوجود نقص في سوق العمل الأميركية بل لتدفع لهم رواتب أقل.

لكن وبحسب محامي الهجرة ناصر فياض، هذا الأمر غير صحيح، إذ يلزم القانون الأميركي صاحب العمل أن يدفع للموظف حامل تأشيرة (أتش 1 بي) الراتب السائد أو المتعارف عليه.

يقول صاحب هذا الحساب على تيك توك، إن القول بإن صناعة التكنولوجيا بحاجة لبرنامج تأشيرات (أتش 1 بي) "كذبة".

@didyoujustblockmelmao

this is a really old technique

♬ original sound - feed the kids socialist

ويضيف في مقطع فيديو حظي بآلاف المشاهدات، "هذا مجرد غطاء.. إنهم يجلبون الناس عبر (أتش 1 بي) لأنها (التأشيرة) تمنحهم كامل السيطرة على هؤلاء الموظفين."

في نوفمبر الماضي، تجاوز معدل البطالة في الولايات المتحدة 4% بحسب مكتب إحصاءات العمل.

ويبلغ معدل البطالة في مجالات التقنية تحديدا، 2.5 %، وفق رابطة صناعة التكنولوجيا والحاسبات (CompTIA)ومقرها ولاية إلينوي.

تتسائل المتحدثة في مقطع الفيديو أدناه، عما إن كان هناك رابط بين تسريح تسلا التي يملكها إيلون ماسك لما يزيد عن ألفي موظف في أوستن بولاية تكساس هذا العام، وحصول الشركة على موافقات في العامين السابقين لاستقدام عدد مماثل من الموظفين الأجانب من الخارج بتأشيرة (أتش 1 بي).

@orangebirdtx

#liberalsoftiktok #leftistsoftiktok #progressive #tesla #elonmusk #h1bvisa

♬ original sound - orangebirdtx

 

ماسك الذي سيكون مسؤولا مع رجل الأعمال من أصل هندي فيفيك راماسوامي عن وزارة الكفاءة الحكومية في إدارة ترامب الثانية، يقود بشراسة معسكر الدفاع عن برنامج تأشيرات (أتش 1 بي)، وهو ما يجعله في مرمى نيران المعسكر المضاد.

ويتهم الأميركي، جو كلارك، شركة تسلا باستبدال الموظفين الأميركيين بآخرين أجانب، مستغلة أن تأشيرة (أتش 1 بي) تمنح صاحب العمل اليد عليا.

ويردف في مقطع فيديو نشره على حسابه على تيك توك، "هؤلاء الموظفون لن يتركوا الشركة، لأن هذا يعني أنهم سيخسرون تأشيرة دخولهم إلى الولايات المتحدة".

@joeclark207

#trump #musk #vivek #maga #republican #visa #jobs #hypocrisy #life #greed

♬ original sound - joeclark207

 

استفاد إيلون ماسك نفسه وهو من جنوب أفريقيا، من هذا التأشيرة، قبل حصوله لاحقا على الجنسية الأميركية.

وتأتي شركته، تسلا، في المرتبة 16 بين أكثر الشركات تقديما وطلبا لتأشيرات (أتش 1 بي)، وفق المؤسسة الوطنية للسياسات الأميركية (NFAP) وهي مؤسسة فكرية غير حزبية تركز على قضايا التجارة والهجرة.

وبحسب NFAP، زادت تسلا في عام 2024 بشكل كبير عدد الموظفين المعينين لديها عبر برنامج تأشيرات "أتش 1 بي" بعدما وافقت دائرة الهجرة على منح الشركة 742 تأشيرة من هذا النوع.

وكانت تسلا قد حصلت على 328 تأشيرة (اتش 1 بي) في 2023.

يقول محامي الهجرة ناصر فياض، إن التأشيرة التي يعود تاريخ العمل بها إلى 1990، لعبت ولا تزال تلعب دورا في جعل الولايات المتحدة أهم دولة اقتصاديا، فقد ساعدت البلاد على استقطاب العقول من حول العالم.

ويضيف أن الولايات المتحدة تعتمد على الاقتصاد الحر، وهو ما يحدد متطلبات وحاجة السوق، وعليه فالحديث عن أن تأشيرات العمل من هذه الفئة تنال من فرص عمل المواطنين الأميركيين "ما هو إلا استهلاك للسياسة يُستعمل لمناهضة الهجرة والمهاجرين."

أما أتال أغاروال فقد تمكن أخيرا من تأسيس شركته الناشئة، والتي تستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي في مساعدة الراغبين في الهجرة إلى بلد آخر، عبر تقديم المعلومات اللازمة لهم قبل اتخاذ هذا القرار المصيري.

يقول في نهاية حديثه مع موقع "الحرة" إنه ورغم تحفظاته على تأشيرة "أتش 1 بي" يؤيد الإبقاء عليها، لكن مع إدخال بعض الإصلاحات بما يحمي حقوق الموظف الأجنبي ويخدم المجتمع الأميركي.

مروى صابر

وجوه وقضايا

الجانب المظلم من حقيقة الذكاء الاصطناعي

ضياء عُطي
21 مارس 2025

لتقنيات الذكاء الاصطناعي أثر إيجابي على كثير من مجالات حياتنا اليومية، لكن ما قد يخفى عن كثيرين هو تأثيراتها الضارة على الحياة بشكل عام: الحياة على هذا الكوكب.

استهلاك شركة مايكروسوفت من الكهرباء في عام 2023، على سبيل المثال، تجاوز 24 تيراواط، أي أكثر من استهلاك بلد مثل الأردن، أو حتى السعودية.

ويزيد الاستخدام المفرط للطاقة غير النظيفة لإنتاج الكهرباء من تداعيات الانبعاثات الضارة على البيئة. 

إلى جانب الكهرباء، يستخدم قطاع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي كميات هائلة من المياه لتبريد الأجهزة المعالجة للخوارزميات المعقدة.

الجبهة الأمامية

مراكز البيانات هي الجبهة الأمامية في الصراع نحو تصدر مجال الذكاء الاصطناعي.

هذه المراكز ليست حديثة العهد، فقد أُسس أول مركز معني بالبيانات في جامعة بنسلفانيا الأميركية عام 1945 لدعم ما عُرف حينها كأول كمبيوتر رقمي متعدد الأغراض، "ENIAC" اختصارا.  

هذه المراكز هي العمود الفقري للحوسبة الحديثة المعنية بتخزين كميات ضخمة من البيانات ومعالجتها.

تلك البيانات تكفل استمرار تشغيل كافة المواقع العاملة عبر شبكة الإنترنت، ما يسهل عمل الهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب.

لكن ظهور الذكاء الاصطناعي، التوليدي منه تحديدا، مثل خدمات "تشات جي.بي.تي" و"جيميناي" مثلا، غيّر "دراماتيكيا" في عمل مراكز البيانات، وفقا لمقال نشره معهد ماساتشوستس للتقنية "أم آي تي". 

واليوم، تتكون تلك المراكز من بنايات صناعية كبيرة، في داخلها مجموعة من الأجهزة الإلكترونية الضخمة.

داخل تلك البنايات هناك أجهزة تخزين البيانات الرقمية وخوادم الاتصالات والحوسبة السحابية، التي تمكن من تخزين ومعالجة البيانات.

بين عامي 2022 و 2023 ارتفعت متطلبات مراكز البيانات من الطاقة، في أميركا الشمالية، من 2,688 ميغاواط إلى 5,341 ميغاواط، وفق تقديرات علماء.

جزء من هذا الارتفاع مرتبط بالاحتياجات التي فرضها الذكاء الاصطناعي التوليدي، وفق "أم آي تي".

عالميا، بلغ استهلاك مراكز البيانات من الطاقة، في عام 2022، 460 تيراواط.

وتحتل مراكز البيانات المرتبة 11 بين الأكثر استهلاكا للكهرباء سنويا حول العالم، وهي مرتبة وسط بين فرنسا (463 تيراواط) والسعودية (371 تيراواط)، وفقا منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

وبحلول 2026، تشير "أم آي تي"، إلى أن استهلاك مراكز البيانات للكهرباء قد يصل إلى 1,050 تيراواط، ما قد يرفعها إلى المرتبة الخامسة، بين اليابان وروسيا.

الذكاء الاصطناعي التوليدي وحده ليس العامل الوحيد، يوضح المعهد التقني، لكنه "دافع أساسي" باتجاه زيادة الطلب على الطاقة والمياه. 

تستخدم تلك المراكز كميات ضخمة من الطاقة الكهربائية، وتكون لديها مصادر طاقة بديلة عند انقطاع التزويد أو في حالات الطوارئ، ما يمكّنها من الاستمرار في العمل.

لكن توفير الطاقة الكافية لتشغيل تلك المراكز أصبح تحديا في ظل ارتفاع الطلب العالمي على الطاقة.

الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قدّم خطة لتطوير الطاقة النووية في الولايات المتحدة تحظى بدعم لافت من جمهوريين وديمقراطيين على حد السواء، وقد تشكل الحل الأكثر رفقا بالبيئة.

البروفسور آناند راو من جامعة كارنيغي ميلون أوضح لموقع "الحرة" أنه بالإضافة إلى الاستخدام المكثف للطاقة الكهربائية، ظهرت معضلة جديدة أمام تلك المراكز.

الأجهزة الإلكترونية الضخمة التي تستهلك كميات كبيرة من الطاقة ترتفع حرارتها إلى درجات عالية جدا، ما يؤثر على قدرتها، وقد يؤدي حتى إلى تلفها.

قد يبدو ذلك غريبا لأول وهلة، ولكن على عكس حاسوبك الصغير الذي يستعمل مروحة أو اثنتين لتبريد رقاقاته الإلكترونية، تستخدم أجهزة مراكز البيانات الماء للتبريد.

تدخل آلاف الغالونات من الماء إلى مبادل حراري يشغل شبكة ضخمة ومتشعبة من الأنابيب والمبردات تمتد إلى كافة الأجهزة الكهربائية والإلكترونية، دون أن يلامس الماء، طبعا، أيا من الدارات الكهربائية.

ومثلما هو الحال بالنسبة للكهرباء، يضع استهلاك تلك الكميات الكبيرة من الماء ضغطا كبيرا على الموارد المحلية للمنطقة حيث تكون مركز البيانات.

بات من الواضح أن استدامة عمل تلك المراكز أصبحت مرتبطة بتأمين موارد كبيرة من الكهرباء والماء.

لكنّ هناك حلولا أخرى، بحسب البروفيسور راو، مثل استخدام النيتروجين للتبريد عوضا عن الماء.

رغم أن النيتروجين متوفر بكميات كبيرة، إذ يمثل نحو 78 في المئة من الهواء في الغلاف الجوي للأرض، فإن استخدامه للتبريد مكلف كثيرا، ما يجعل الماء خيارا اقتصاديا أفضل.

حلول مبتكرة تعيقها "الهلوسة"

عوضا عن بذل جهد كبير في محاولة تبريد الأجهزة الإلكترونية، لماذا لا يتم استخدام أجهزة تطلق حرارة أقل، ما يعني بالضرورة أنها تستهلك كمية أقل من الطاقة؟

قد يخيل إليك أن هذه فكرة مثالية بعيدة عن الواقع، ولكن، مرة أخرى، يتحول الخيال إلى حقيقة.

تجري منذ مدة أبحاث تهدف لتطوير ما اصطلح على تسميته بحواسيب الكوانتوم التي تُعرف أيضاً باسم الحواسيب الكمومية.

اعتماد هذا النوع من الحواسيب على "فيزياء الكم" جعلها قادرة على القيام بعدد ضخم من الحسابات في وقت قصير ما جعلها تستخدم كمية طاقة أقل.

البيانات المعروفة بالإنكليزية بكلمة "بايت" وتعتمد نظام الرياضيات الثنائي المكون من رقمين هما 0 و1، وهو النظام المستخدم في الحواسيب.

لكن حواسيب الكم تعتمد على "الكيوبتات"، التي بإمكانها أن أن تكون في حالتي 0 و1 في نفس الوقت، وهو ما يعرف باسم التراكب الكمومي.

مكنت تلك الخاصية الفريدة هذه الحواسيب من إظهار قدرة كبيرة على فك المعادلات المعقدة وتقديم أجوبة متطورة على أسئلة مركبة، عبر معالجة العديد من المعادلات والمسائل في نفس الوقت.

وبالطبع، استخدمت حواسيب الكم في تطوير النماذج اللغوية للذكاء الاصطناعي، لكن الأجوبة التي قدمتها كانت "غير مستقرة".

وتعبير "غير مستقرة" يعبر عنها أحياناً بـ "الهلوسة"، حسب ما أوضح لموقع "الحرة"، كل من سام رزنيك، الباحث في معهد الأمن والتكنولوجيا الناشئة في جامعة جورج تاون الأميركية، والبروفيسور راو.

هذه "الهلوسة" البرمجية تتمثل في تقديم نموذج الذكاء الاصطناعي إجابات خاطئة وغير منطقية أو مخالفة للواقع أو عبثية لا معنى لها.

مجتمع الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي يسعى لتحسين قدرات حواسيب الكم، للاستفادة من قدراتها الفريدة خصوصا من ناحية الوصول إلى نفس النتائج لكن بجهد أقل ووقت أقصر.

سباق العمالقة

ويتوالى سباق السيطرة على هذه التكنولوجيا التي فتحت أبواب الأرباح المالية الضخمة والسيطرة السياسية وحتى العسكرية، وسط مخاوف من تهديدها حرية التفكير والتعبير.

خلال الأسابيع القليلة الماضية شهدت تطبيقات الذكاء الاصطناعي نموا صاروخيا وحققت أرقاما فلكية.

ارتفع عدد مستخدمي "تشات جي.بي.تي" نهاية فبراير بنسبة 33 في المئة مقارنة بنفس العدد في ديسمبر الماضي ليصل إلى 400 مليون مستخدم أسبوعيا.

ومن أهم مستخدمي "تشات جي.بي.تي" نجد بنك "مورغان ستانلي" الاستثماري وشركات كبرى مثل "تي موبايل" و"مودرنا" و"أوبر".

أما نموذج "ديب سيك" الصيني، فارتفع عدد مستخدميه 12 مرة خلال شهر يناير الماضي، ليصل الآن إلى معدل 700 ألف مستخدم أسبوعيا.

والتحقت شركة "أكس.أيه.آي" بالركب، ومنذ طرحها نموذج "غروك 3" ارتفع عدد مستخدميه من 4.3 مليون إلى 31.5 مليون مستخدم يوميا، وذلك خلال 3 أسابيع فقط.

وزعمت الشركة المنتجة لنموذج "ديب سيك" الصيني أنه يقدم خدمة أقل كلفة ومماثلة لنظيره الأميركي "تشات جي.بي.تي" من شركة "أوبن أيه آي".

سرعان ما خرج نموذج أميركي آخر بعد أقل من شهر، يسمى "غروك 3"، ليقدم قدرات أكبر.

شركة "أكس أيه آي"، التي أسسها إيلون ماسك عام 2023، تقول إن نموذج "غروك 3" هو الأفضل حتى الآن.

ظهور "ديب سيك" شكل صدمة ليس للباحثين المختصين بل للأسواق العالمية وحتى السياسة الدولية.

"ديب سيك" اعتمد تقنية تسمى استخلاص النماذج، يقول رزنيك في حديثه لموقع "الحرة".

تعتمد هذه التقنية على طرح آلاف من الأسئلة على نموذج "تشات جي.بي.تي"، لفهم طريقة تحليله للمعلومات.

أي لفهم طريقة تفكيره، والتعلم منها عبر التدرب على ذلك النموذج.

وبناء على ذلك قام الباحثون الصينيون ببناء نموذج "ديب سيك"، باستخدام الأجوبة المقدمة من "تشات جي.بي.تي".

ومع ارتفاع عدد مستخدمي الذكاء الاصطناعي تتزايد الحاجة إلى مزيد من مراكز البيانات، ما يعني، في المحصلة، استهلاكا أكبر للكهرباء والمياه، وما يصحب ذلك من تآكل لإمكانيات استمرار الحياة على كوكب الأرض.

مفاجآت بالجملة

الباحثان اللذان تحدثنا إليهما يخالفان الاعتقاد السائد بأن الصينيين لا يملكون  قدرات حاسوبية كبيرة نظرا لتأخرهم في مجال الرقائق الإلكترونية.

فمنظومة "ديب سيك" أصبحت تستخدم عددا كبيرا من الرقائق المصنعة من طرف شركة هواوي الصينية.

يكشف رزنيك لنا سرا آخر من خبايا الصراع الخفي للسيطرة على شعلة القيادة في مجال الذكاء الاصطناعي.

نموذج "ديب سيك" يعتمد على قدرات حاسوبية كبيرة، لكن السر يكمن في طبيعة الرقاقات الإلكترونية.

هناك نوعان رئيسيان من الرقاقات الإلكترونية المعتمدة في نماذج الذكاء الاصطناعي.

الرقائق المتقدمة مثل تلك المنتجة من شركة "إنفيديا"، ومقرها ولاية كاليفورنيا الأميركية، تعرف باسم رقائق "جي.بي.يو"، وتستخدم للعمليات المعقدة مثل تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي.

كلمة "جي.بي.يو" هي الاختصار الإنكليزي لمصطلح "graphic processing unit" أو (GPU) اختصارا، وتعني "وحدات معالجة الصور".

مكنت قدرات تلك الرقائق شركة "إنفيديا" من الوصول إلى قيمة سوقية تعادل نحو 3 ترليون دولار.

رقائق "جي.بي.يو" لم تكن في الأصل معدة للاستخدام في مجال الذكاء الاصطناعي.

"إنفيديا" عملت منذ تأسيسها عام 1993، في مجال الألعاب الإلكترونية أو ألعاب الفيديو، وأرادت الحصول على صور ذات نوعية جيدة، تضفي طابعا أكثر واقعية على ألعاب الفيديو.

في ذلك الوقت كانت شركات التكنولوجيا مثل "إنتل" الأميركية تعمل على إنتاج رقائق حواسيب تعرف باسم "سي بي يو"، وهو الاختصار الإنكليزي لكلمة "سنترال بروسيسنغ يونت"، أو "وحدات المعالجة المركزية".

الرقائق الإلكترونية لوحدات المعالجة المركزية هي الأساس للحواسيب لذلك فهي أكثر انتشارا، لكن طريقة عملها تجعلها أقل تقدما في مجال الحسابات المعقدة.

من خلال التجارب الأولى للنماذج الحديثة للذكاء الاصطناعي، تبين أن وحدات معالجة الصور المنتجة من شركة "إنفيديا"، هي الأفضل بسبب قدرتها على إجراء العمليات الحسابية المعقدة، مع حجم معالجة أكبر.

تحولت "إنفيديا" من شركة تعمل في مجال ألعاب الفيديو إلى المزود الرئيسي للشركات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي.

منذ أعوام تشهد الولايات المتحدة والصين نزاعا بشأن الرقاقات المستخدمة في الذكاء الاصطناعي

المفارقة أن التحول المفاجئ كان سبباً في قوة الصدمة الناجمة عن نجاح نموذج "ديب سيك".

القدرة على تقديم نموذج يستخدم قدرات حاسوبية أقل تقدماً وضع مستقبل شركة "إنفيديا" في مرمى الشك وأثر على التداولات في الأسواق.

وأصبحت رقاقات "إنفيديا" طلبا أساسيا لدى كبرى شركات التقنية مثل "أمازون" و"غوغل" و"ميتا" و"مايكروسوفت" وغيرها.

لكن الاهتمام بذلك الحدث تجاوز عالم المال والأعمال.

ضياء عُطي