وجوه وقضايا

المسؤولية الطبية في مصر.. عكاز حماية المرضى أم ضماد كفاءة الأطباء!

غادة غالب - واشنطن
25 يناير 2025

تستيقظ فجرا، تلملم أغراضها سريعا، ثم ترتدي عباءتها السوداء وتسند زوجها الذي لا يمكنه السير إلا بمساعدة عكازين، بعدما بُترت إحدى قدميه. قبل رحيلهما تتأكد أن طفلهما، آدم، ذو الـ7 أعوام، في عناية جيرانهما.

تنطلق في رحلة "عذاب يومية" لأحد مستشفيات وسط العاصمة المصرية القاهرة، حيث يخضع زوجها لعملية غسيل الكليتين.

بدأت معاناة سمية، وهي سيدة أربعينية يناديها كل من يعرفها بأم آدم، كما ترويها لموقع "الحرة"، عندما "أجمع أكثر من طبيب على أن خطأ طبيا وقع أثناء عملية إزالة المرارة تسبب في إصابة زوجها محمد بفشل كلوي، نتج عنه فيما بعد مضاعفات أخرى وصلت لبتر إحدى قدميه".

أضيف اسم محمد إلى لائحة طويلة ممن تعرضوا لأخطاء طبية رصدتها وسائل الإعلام في مصر على مدى سنوات، في غياب إحصاء رسمي يحصر عددها.

قفزت هذه القضية من جديد إلى واجهة الأحداث وباتت محل نقاش مجتمعي واسع بعد طرح الحكومة، في ديسمبر الماضي، لمشروع قانون المسؤولية الطبية، الذي يتضمن مواد تتيح معاقبة الأطباء بالحبس والغرامة بسبب الأخطاء الطبية.

مئات المستشفيات الحكومية في مصر تخضع للقانون الجديد
"يوم أسود في تاريخ الصحة".. مخاوف في مصر من تداعيات قانون "تأجير المستشفيات الحكومية"
دخل قانون "منح التزام المرافق العامة لإنشاء وإدارة وتشغيل وتطوير المنشآت الصحية"، المعروف بقانون "تأجير المستشفيات الحكومية"، في مصر حيز التنفيذ بعد أن صدق عليه الرئيس عبد الفتاح السيسي الاثنين رغم اعتراضات برلمانيين ونقابة الأطباء والعديد من المؤسسات المهنية والاجتماعية والحقوقية الأخرى. 

مشروع قانون ترفضه نقابة الأطباء

أثار مشروع قانون المسؤولية الطبية خلافا كبيرا بين الحكومة والبرلمان، من جهة، ونقابة أطباء مصر، من جهة أخرى، بعدما وافق مجلس الشيوخ المصري، في 24 ديسمبر 2024، على نسخته الأولى، تمهيدًا لإحالته على مجلس النواب (الغرفة الثانية للبرلمان) لمناقشته وإقراره.

خلال مناقشته بمجلس الشيوخ، رفضت نقابة الأطباء المصرية كل المواد التي تُقر الحبس في القضايا المهنية أو الحبس الاحتياطي.

وقالت إن لجنة الصحة بمجلس الشيوخ لم تستجب لأي من مطالب النقابة "العادلة المطبقة في العالم كله"، ودعت إلى جمعية عمومية طارئة في الثالث من يناير، لتأكيد رفضها مسودة القانون، قبل أن تعلن في 7 يناير، إرجاءها لمدة شهر، وذلك عقب توافق مبدئي داخل لجنة الصحة على تعديلات تتعلق بإلغاء مادة الحبس الاحتياطي للأطباء واستبدالها بغرامة مالية.

وكانت المواد 27 و28 محل الجدل الأكبر، بعدما ساوت بالحبس والغرامة بين من يرتكب أخطاء طبية ومن يرتكب أخطاء طبية جسيمة.

كما اعترضت النقابة على المادة 29 التي أعطت جهات التحقيق الحق في حبس الطبيب احتياطيا ومده على ذمة التحقيق، بحسب بيان النقابة.

واعترضت النقابة كذلك على المادة 18، التي تجيز استعانة جهات التحقيق بتقرير اللجنة الفنية التي تفصل في درجة الخطأ الطبي أو حدوثه من قبل الطبيب أو نتيجة مضاعفات طبية، مطالبة بأن يكون تقرير اللجنة ملزما.

ووسط تصاعد الجدل، أكد مجلس الوزراء المصري في بيان أن مشروع قانون المسؤولية الطبية يهدف إلى دعم "الحقوق الأساسية لمتلقي الخدمة الطبية أيًا كان نوعها، والارتقاء بتنظيم هذه الحقوق، مع توحيد الإطار الحاكم للمسؤولية المدنية والجنائية التي يخضع لها مزاولو المهن الطبية".

وبحسب ذات البيان، يتضمن القانون إنشاء "لجنة عليا للمسؤولية الطبية وحماية المريض" تكون تابعة لرئيس مجلس الوزراء من أجل "إدارة المنظومة الصحية في الدولة من خلال آليات محددة قد يتم التوسع فيها مستقبلا بعد تقييم التجربة وقياس نتائجها".

لكن الأمين العام الأسبق لنقابة الأطباء، الدكتور إيهاب الطاهر، يرى أن "مشروع قانون المسئولية الطبية المعروض لم يستوف الحد الأدنى المطلوب لمعايير القانون المأمول، إذ يحوي سلبيات خطيرة تؤثر سلبا على المنظومة الصحية وعلى المريض والطبيب في آن واحد".

ويذكر في حديث لموقع "الحرة": "من المعروف أن محاسبة الأطباء في قضايا ممارسة المهنة بمعظم دول العالم تصدر له قوانين علمية وليست جنائية، لأن الغرض هو حصول المريض على حقه والحد من نسبة حدوث الأخطاء ودون وقوع ظلم على الأطباء أو التأثير سلبا على المنظومة الصحية"

ويضيف الطاهر "أما المشروع الحالي فهو قد يؤدى لما يسمى بالطب الدفاعي وذلك بامتناع عدد من الأطباء عن التدخل الناجع لعلاج الحالات المعقدة، خوفا من سيف الحبس والعقوبات المبالغ فيها، ما يؤثر سلبيا على المريض".

أرواح الناس مش لعبة

"لازم يكون فيه عقاب شديد لأن أرواح الناس مش لعبة"، بصوت مبحوح يعرف من يسمعه أنه يخرج من جسد معلول، يحكي محمد، زوج سمية، لموقع "الحرة"، بداية مأساة قلبت حياته رأسا على عقب.

يقول محمد:" قبل ثلاث سنوات، خضعت لعملية استئصال للمرارة بالمنظار، وكان من المفترض أن يستغرق الأمر بضع ساعات ثم أتوجه إلى المنزل في غضون يوم أو يومين بالأكثر، إلا أنني استيقظت بعد شهر لأجد نفسي في غرفة العناية المركزة، نتيجة دخولي في حالة إغماء، بين الحياة والموت، بسبب خطأ طبي نتج عنه فشل كلوي".

المضاعفات الصحية لـ"عم محمد"، كما يحب أن يُطلق عليه، لم تتوقف عند هذا الحد، فنتيجة الغسيل المستمر للكلى ونظرا لكونه مريض بداء السكري من النوع الأول، فقد أصيب بالغرغرينا وبترت قدمه اليسرى.

يرى محمد أن إقرار قانون يتيح حبس الطبيب الذي يُخطئ هو خطوة جيدة تحمي المرضى وتجبر ذويهم، لكنه يقول إن الحديث عن استبدالها بغرامة مالية يعد تعويضا عمليا ومناسبا للمتضررين.

ويوضح أنه بسبب حالته المرضية، توقف عن العمل في ورشة النجارة التي كان يمتلكها قبل أن يبيعها لسداد ديونه، فاضطرت زوجته للعمل في المنازل.

"غلطة الدكتور دا بتدفع ثمنها أسرة كاملة، وعملنا محاضر واشتكينا، ومفيش حد سمع صوتنا"، على حد تعبير سمية، التي قالت إنها تعيش مع زوجها "رحلة عذاب وخوف يومية"، تبدأ منذ لحظة دخولها المستشفى ولا تنتهي إلا بخروجها منه مع زوجها حيا.

مشاعر الخوف هذه لم تصب سمية وحدها، ففي أحد أروقة المستشفى، وتحديدا في قسم الجراحة العامة، يقف الدكتور محمود أبو العينين، وسط عدد كبير من الأهالي المكلومة والغاضبة التي جاءت تتفقد ذويها الذين تعرضوا لحادث انقلاب ميكروباص على الطريق الدائري، لكن بدلا من توجيه غضبهم للمسؤولين عن الحادث، قرروا لوم الأطباء المناوبين في هذا الوقت. 

لقطة من فيديو تفقد محافظ سوهاج لمستشفى وتعنيفه طبيبة
بعد انتشار فيديو "طبيبة المراغة".. رئيس الوزراء المصري ومحافظ سوهاج يقدمان الاعتذار
خلال ساعات من انتشار فيديو "إهانة" محافظ سوهاج لطبيبة خلال تفقده مستشفى المراغة المركزي على مواقع التواصل الاجتماعي، خرج رئيس الوزراء ليقدم اعتذاره بعد أن تصاعد الحديث عن الأزمة وتقديم مجلس نقابة أطباء المحافظة استقالاتهم. 

الطبيب كبش الفداء الوحيد

"المنظومة الطبية والصحية في مصر تعاني من أزمات عدة، فهل من الطبيعي أنه بدلا من تطويرها أن يكون الطبيب هو كبش الفداء الوحيد؟" بهذا التساؤل عبر أبو العنين، في حديثه لموقع "الحرة"، عن رفضه لمشروع القانون الجديد، وتحديدا البنود المتعلقة بعقاب الأطباء.

ويرى أنه "ليس من المطلوب أبدا تخويف أو إرهاب الطبيب أو أن تصبح المستشفيات مكان لتخويف الأطباء"، ويقول إنه "يعرف العديد من زملائه الذين قرروا بالفعل رفض استقبال وعلاج الحالات الحرجة والحساسة لخوفهم من إلقاء المسؤولية عليهم بمفردهم".

ويقول الطبيب إن "مشروع القانون لم يقدم تعريفات واضحة للتفرقة بين المضاعفات الطبية والخطأ الطبي والخطأ الطبي الجسيم".

ويوضح أبو العنين أن الأطباء بالفعل يشعرون بالخوف من عدم توفير الحماية الكافية لهم أثناء ممارستهم عملهم، وشهدنا بالفعل خلال السنوات الماضية، الكثير من الحالات التي يعتدي فيها أهالي المرضى على الطاقم الطبي ويحملونهم مسؤولية ما يحدث لذويهم.

ويؤكد أنه شهد بنفسه أكثر من "واقعة اعتدى فيها الأهالي على الطبيب بتهمة أنه المتسبب في تدهور حالة نزيل أصيب بالطعن بآلة حادة في مشاجرة، وذلك بدون دلائل أو إثباتات على ذلك، وفي ظل ضعف وجود عناصر الأمن التي تحمي الطبيب وباقي الطاقم الطبي المناوب وقتها".

ويرى الأمين العام الأسبق لنقابة الأطباء، الدكتور إيهاب الطاهر، في حديثه "للحرة" أنه "يجب إجراء تعديلات جوهرية على مشروع القانون، أبرزها وضع تعديل تعريف الخطأ الجسيم (الذي عقوبته حبس وغرامة)، ليكون علميا وغير قابل للتأويل، وإلغاء العبارات المطاطة، مثل الإهمال – الرعونة – عدم الاحتراز".

ويقول إنه "يجب أن يكون تعريف الإهمال الجسيم (الجريمة الطبية) هو وقوع ضرر نتيجة أحد الأسباب الحصرية الآتية، ممارسة المهنة بشكل متعمد خارج نطاق الترخيص في غير حالات الطوارئ، أو تعمد الإيذاء، أو العمل تحت تأثير مسكر أو مخدر، أو استخدام طرق علاجية تجريبية في غير حالات التجارب السريرية بضوابطها المعتمدة، أو العمل بالمخالفة لقوانين الدولة".

ويضيف أنه "يجب إلغاء أي غرامات كعقوبة على الخطأ الطبي الوارد، خاصة أن الخطأ الطبي في حدا ذاته ليس جريمة، لكن خطأ مهني وارد حدوثه بالعالم كله عند ممارسة مهنة الطب، على أن يتم تعويض المتضرر من صندوق التعويضات بالكامل".

وأكد على "أن الخطأ الطبي يجب أن يعامل بموجب قانون المسؤولية الطبية فقط لأنه ليس جريمة".

رفع كفاءة وجاهزية المنظومة الطبية

أما أستاذ جراحة العظام والعمود الفقري أحمد هاشم، فتطرق إلى جانب آخر من الأزمة الطبية في مصر، والذي يعتقد أنه عنصر أساسي في الأخطاء الطبية، حيث يقول إن "ضعف جاهزية المستشفيات والوحدات الصحية يؤثر سلبا على قدرة الطبيب في الوصول لأفضل النتائج العلاجية، وبالتالي إذا أرادت الحكومة إصلاح المنظومة الصحية وتقليل الأخطاء الطبية، فعليها أولا زيادة الإنفاق الحكومي على القطاع الصحي".

ويضيف في حديثه لموقع "الحرة": "لا أحد يغفل أن المنظومة الطبية في مصر، خاصة المستشفيات والوحدات الصحية التابعة للحكومة، تعاني من نقص في ميزانيتها، وهذا بدوره يؤثر على مدى جاهزية غرف العمليات وتوفر المواد العلاجية والتعقيمية، لدرجة أن الكثير من الأطباء يشترون الكثير من المستلزمات المطلوبة على نفقتهم الخاصة".

وخصص مشروع موازنة العام المالي الجديد 2025/2024 نحو 200 مليار جنيه لقطاع الصحة، وفقًا للبيان المالي للموازنة، ليمثل الإنفاق على الصحة في السنة المالية الجديدة 1.16% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بنسبة 1.25 % في العام المالي السابق 2023/2024، وهو ما يقل عن نصف الاستحقاق الدستوري.

وينص دستور 2014 على أن تلتزم الدولة بتخصيص ما لا يقل عن 3% للإنفاق على الصحة، وذلك بدءًا من السنة المالية 2017/2016.

وبينما يرغب "عم محمد" وغيره الكثير من المرضى في سن "قوانين عادلة لحماية حقوقهم وتعويضهم بشكل عادل وأسرهم"، يطالب أبو العنين ومثله العديد من الأطباء بضرورة "تحسين مناخ عمل الطواقم الطبية في مصر وتوفير بيئة مناسبة تحترم آدميتهم وتطور مهاراتهم".

غادة غالب

وجوه وقضايا

"اليهود البغداديون".. حكاية بصمات عراقية في الهند

رامي الأمين
23 أبريل 2025

يحكي الملحن البريطاني براين إلياس في مقطع فيديو عن خليط بين الطعام البغدادي اليهودي والتوابل الهندية. ما زال هذا الخليط يسكن ذاكرته ويشعر بطعمه في فمه، لما يعنيه من مزيج ثقافات في أطباق كانت تُعد بأيادي "اليهود البغداديين" في منطقة بايكولا في مدينة مومباي الهندية.

الفيديو واحد من عشرات الفيديوهات التي تنشرها الشابة البريطانية كيرا شالوم في حسابها "تاريخ المزراحي" The Mizrahi History على إنستغرام، لشهادات وذكريات لليهود المشرقيين من مختلف البلدان في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

شالوم التي تتحدّر من عائلة يهودية بغدادية عاشت في الهند حتى ستينيات القرن الماضي، تخصّص الكثير من وقتها، ومساحة كبيرة من حساباتها في وسائل التواصل الاجتماعي، للإضاءة على تاريخ ما يُعرف بـ"اليهود البغداديين".

وصل هؤلاء بأعداد كبيرة إلى الهند في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ولم يبق منهم سوى أعداد قليلة ما زالت تعيش هناك.

في كتابها "اليهود البغداديون في الهند"، تقول المؤرخة الإسرائيلية شالفا ويل إن هذه الفئة من اليهود معروفة في الهند وخارجها رغم عددها القليل، ومعظمها يتحدث اللغة العربية بالإضافة إلى الإنجليزية والهندية.

يتحدر هؤلاء بحسب ويل، ليس من بغداد فحسب، بل أيضاً من مدن عراقية أخرى كالبصرة والموصل، وكذلك من سوريا واليمن وإيران وبخارى وأفغانستان. بهذا المعنى فإن التسمية لا تعني حصراً اليهود المتحدّرين من العاصمة العراقية، بل تشمل يهوداً مزراحيين (شرقيين) من مناطق مختلفة في الشرق الأوسط.

تشير الكاتبة الإسرائيلية إلى أن أول يهودي وصل الهند من بغداد كان يدعى جوزف سماح ورست سفينته في مرفأ سورات في غوجارات الهندية في عام 1730، وترك بغداد بحثاً عن فرص تجارية جديدة.

ومع بدايات القرن التاسع عشر بحسب الكاتبة، تحولت مومباي إلى ملجأ كبير لعدد من اليهود الناطقين بالعربية الذين هربوا من بطش داود باشا، آخر حكام العراق من المماليك في الفترة بين عامي 1816 و1831.

أما التاريخ المفصلي في ترسيخ الوجود اليهودي البغدادي في مومباي وتطورها الاقتصادي نتيجة ذلك، فكان مع وصول ديفيد ساسون وعائلته إلى المدينة في عام 1832، حيث عملوا في تجارة الأفيون قبل أن تصبح غير شرعية.

بَنَت هذه العائلة سيناغوغ (كنيس يهودي) في بايكولا في مومباي، وآخر حمل اسم إلياهو في وسط المدينة، ثم بعد أن أصبحت تجارة الأفيون غير شرعية انتقل آل ساسون إلى الاستثمار في انتاج وبيع أكياس الرمل المخصصة للدشم (تحصينات دفاعية) العسكرية في الحروب، وحققوا أرباحاً طائلة.

كما أسهم دايفد وألبرت ساسون في بناء ميناء تجاري في مومباي والعديد من المدارس والمستشفيات التي ما يزال بعضها موجوداً حتى اليوم.

صورة من أرشيف كيرا شالوم الخاص

في تقديرات لأعداد اليهود البغداديين، فإنها بلغت حتى الربع الأول من القرن العشرين نحو سبعة آلاف نسمة، لكنها سرعان ما انخفضت بشكل كبير مع منتصف القرن العشرين.

تربط ويل في كتابها بين نَيل الهند استقلالها في عام 1947 وبدء اليهود بالتفكير بالرحيل عنها، والسبب أن القوانين التي أقرتها الحكومة الهندية بعد الاستقلال ضيقت عمليات التجارة والاستيراد والتصدير، وحدّت من قدرة اليهود البغداديين على الاستثمار في التجارة وإيجاد فرص جديدة.

كما شكّل إعلان دولة إسرائيل في عام 1948 فرصة ليهود بغداديين للهجرة إليها، لكن معظمهم اختاروا بلداناً ناطقة بالإنجليزية، بينما بقي نحو ألفين منهم في الهند حتى سنوات لاحقة، قبل أن ينتقلوا إلى بريطانيا واستراليا وكندا وأميركا.

تقول كيرا شالوم إن عائلتها غادرت الهند في عام 1961، أي بعد سنوات طويلة من نيلها الاستقلال، وقبل تأسيس دولة إسرائيل.

حاولت شالوم أن تفهم من أقاربها سبب رحيل اليهود البغداديين من الهند، لكنها، كما تقول، لم تحصل على سبب مقنع، خاصة وأن "معاداة السامية لم تكن حاضرة بأي شكل من الأشكال في الهند، واندمج أهلها وغيرهم في المجتمع الهندي بشكل كامل، أي مع المسلمين والهندوس".

حتى حينما كان اليهود يتعرضون لمجازر في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، لم يتعرض من كان في الهند لأية مضايقات، وفقاً لشالوم التي ما تزال تحتفظ بصور لعائلتها في مومباي وبعضهم يلبس أزياء عربية.

كان لليهود البغداديين كما تشرح شالوم، بصماتهم على الثقافة الهندية، ومساهماتهم الكبيرة في نهضة الهند، وتذكر من بين الشخصيات اليهودية البغدادية البارزة، الممثلة العراقية نادرة (فلورنسا حزقيل) التي ولدت في بغداد عام 1932 وعاشت في الهند حتى وفاتها عام 2006، وحصلت على شهرة في سينما بوليود.

من الشخصيات الأخرى التي تذكرها، الجنرال (جي أف آر يعقوب)، وهو قائد عسكري هندي من أصول يهودية بغدادية، لعب دوراً في استقلال بنغلاديش عام 1971.

وأثر اليهود البغداديون في المطبخ الهندي، إذ أدخلوا العديد من الأطباق العراقية التي أضيفت إليها التوابل الهندية أو بعض المكونات البريطانية.

وتتحدث شالوم بشغف عن توارث هذه الأطباق في عائلتها وشيوع استخدام الجيل الذي عاش في الهند اللغات الهندية والعربية والإنجليزية في جملة واحدة، كما بقي الأحفاد يستخدمون الدلالات الهندية في الإشارة إلى الجدّ أو الجدة، من مثل "نانا" و"ناني".

لم تزر هذه الشابة البريطانية العراق أبداً، كما أنها لم تزر الهند. تقول إنها "تتمنى زيارة الهند قريباً، لكنها لا تفكّر بزيارة العراق الآن، كذلك الأمر بالنسبة إلى باقي أفراد عائلتها، حيث يمنعهم الخوف بشكل أساسي من التفكير في زيارة البلاد التي يتحدرون منها".

لكنها لا تنكر حنين العديد من أفراد عائلتها وأقاربها إلى بغداد والثقافة العراقية، خاصة الموسيقى والطعام، فضلاً عن الحنين إلى الهند التي ما تزال تحتفظ بالكثير من الآثار والبصمات الثقافية والدينية التي تركها القادمون من بغداد ومدن أخرى.

رامي الأمين