وجوه وقضايا

"لا أعرف وطنا غيرها".. ماذا نعرف عن معاناة "بدون ليبيا"؟

عبد النبي مصدق- واشنطن
31 يناير 2025

المكان: مدينة أوباري في الجنوب الليبي.
الزمان: الساعة الثانية ظهرا من يوم ربيعي من العام 2014.
الحدث: شابة تدعى عائشة محمد موسى، حديثة التخرج من كلية طب في جنوب ليبيا، تقصد إدارة حكومية لاستخراج جواز سفر لتٌحلّق نحو آفاق جديدة.
تلج مكتب إدارة الوثائق المدنية، تطرح قضيتها على الموظف الحكومي: جئت لاستخراج جواز سفر لمواصلة دراساتي العليا خارج ليبيا.
لم تتأخر إجابة الموظف الحكومي: "لا ينقص البلد إلا منح التشاديين الجنسية الليبية".
"بكيت كثيرا، تبادرت أسئلة كثيرة إلى ذهني، وتلاشى حلم الطفولة في أن أكون بروفيسور متخرجة من أرقى الجامعات العالمية"، هكذا تتذكر عائشة تلك اللحظات الصعبة التي مرت بها.

طيلة أكثر من عقدين من الزمن، لم تعرف عائشة غير ليبيا وطنا، فيه كبرت وفي مدارسه تعلمت ومن قيمه نهلت، لكن "حسب بعضهم لسنا حتى مواطنين من درجة ثانية، بل حتى إننا لا نستحق الحياة"، تقول في حديثها مع موقع "الحرة".

حالة عائشة ليست فريدة من نوعها، إذ تشير تقديرات إلى وجود عشرات الآلاف من الأشخاص عديمي الجنسية في ليبيا أو ما يعرف بـالـ"بدون".

تُعرّف الأمم المتحدة عديم الجنسية بأنه "الشخص الذي لا تعتبره أية دولة مواطنا فيها بمقتضى تشريعها".

ما قصة عديمي الجنسية في ليبيا؟
 

تخيّل يوما أن تكون في سفر خارج حدود بلدك، تُجري السلطات إحصاء سكانيا، لا يعثر الموظفون عليك في موقعك، فتُصنف منذ ذلك اليوم على أنك من غير الحاملين لجنسية ذلك البلد.
ينطبق هذا الأمر تماما على عدد كبير من قاطني دولة ليبيا، الذين لم تشملهم إحصاءات سكانية جرت في البلاد خلال العهد الملكي الذي أطيح به في نهاية الستينيات.

ليس هؤلاء فقط من حُرموا من الجنسية الليبية، فخلال الاستعمار الإيطالي، بين عامين 1911 و1942، هاجر عدد كبير من أبناء القبائل الليبية إلى دول الجوار كتونس والجزائر والسودان وتشاد ومصر وغيرها، وعندما وضعت الحرب أوزارها، عادوا لبلدهم لبدء حياة جديدة مستقرة، لكن مفاجأة كانت في انتظارهم وانتظار أبناءهم وأحفادهم، فقد استبعدوا منذ ذلك الوقت من سجلات مواطني دولة ليبيا.

لا تنتهي القصة هنا، فهناك فئة ثالثة من عديمي الجنسية في ليبيا، كانوا ضحية حروب ونزاعات كبرى، أبرزهم سكان إقليم "أوزو"، وهي منطقة حدودية بين ليبيا وتشاد تنازع البلدان طويلا حول السيادة عليها، قبل أن تحكم جهات قضائية دولية لصالح تشاد.

أغضب الحكم نظام العقيد الراحل معمر القذافي ليصدر قرار بحذف سكان إقليم أوزو ومعظمهم ينتمون لقبائل التبو من سجلات المواطنين الليبيين، وباتوا منذ ذلك اليوم غرباء في بلدهم.

المأساة تتكرر

بعد تبخر فرصة عائشة لمواصلة الدراسة خارج ليبيا، حصلت على عقد عمل في دولة عربية مجاورة.

كررت محاولة الحصول على جواز سفر للمغادرة، فاصطدمت بالعراقيل ذاتها، حينها قررت الاستقرار بالبلد الذي نشأت فيه لبناء حياة جديدة.

جمعت عائشة أموالا لافتتاح مشروع طبي صغير في مدينتها، سلمت أموالها لدائرة حكومية، لكن متاعبها استمرت.

"القانون يفرض على المستثمرين أن يكونوا من أصحاب الجنسية الليبية"، تقول عائشة بمرارة.
تعمل عائشة اليوم في مستشفى محلي بليبيا، لكنها لا زالت تواجه صعوبات في الحصول على راتبها وتحويل مستحقاتها للبنوك. 

بالنسبة لعائشة، فإن مأساة "عديمي الجنسية مستمرة وأبسط حقوقهم منتهكة، بدءا بشراء شرائح اتصال هاتفية ووصولا إلى السفر للدراسة أوالعلاج، مرورا بالحصول على وظائف محترمة".

أمام انسداد الأفق، لجأ كثير من عديمي الجنسية إلى ركوب قوارب الموت نحو "الجنة الأوروبية" على أمل البدء من جديد.

تسرد عائشة قصة صديقة لها عديمة الجنسية أيضا: "وصلت إلى فرنسا على متن قارب متهالك أقلها من إحدى الشواطئ الليبية، وقد حصلت اليوم على جواز سفر فرنسي وامتلكت بيتا وبدأت في تحقيق أحلامها".

لولا الخوف من الغرق، تقول عائشة، "لاخترت الحل نفسه بدل حالة الانتظار الدائم التي أعيشها".

لاءات أمام العلاج والدراسة والحج

تقدر أعداد عديمي الجنسية في ليبيا بنحو150 ألف شخص، وفق أرقام المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان بليبيا.
ويتوزع هؤلاء على عدة شرائح مجتمعية بينهم قبائل التبو والطوارق وقبائل عربية، منها قبيلة القذاذفة التي ينتمي إليها العقيد الليبي الراحل معمر القذافي، وفق ما صرح به رئيس المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان، أحمد حمزة، لموقع "الحرة".

ويقول حمزة إن قضية عديمي الجنسية تعود إلى عقود خلت، حيث جرى تسوية وضعية البعض بمنحه الجنسية بينما لا زال آخرون دون هوية، وهي إشكالية يتوارثها الأحفاد عن الأبناء.
ويواجه المنتمون إلى هذه الفئة المجتمعية العديد من العراقيل في استخراج وثائق ثبوتية تتيح لهم المشاركة السياسية أو الحصول جوازات سفر تمكنهم من الحج والدراسة والعلاج في الخارج.
ويصف حمزة هذه القضية بـ"المخجلة حيث لم تعمل الدولة الليبية منذ تأسيسها على حلها، رغم تعدد الدعوات والمطالب".
يطالب حمزة "بعدم الاكتفاء بالمقاربة الأمنية المعتمدة حاليا والتي ترى أن منح هؤلاء جنسية بمثابة انتهاك للسيادة الليبية".
ويدعو إلى "تسوية شاملة لهذا الملف الشائك الذي ترتبت عنه مآسي ومعاناة وهضم للحقوق الاجتماعية والسياسية"، مشددا على أهمية "إقرار حل يشمل في إطار رؤية اجتماعية قانونية إنسانية وحقوقية".

ماذا قدمت السلطات؟

بعد نحو 3 سنوات من الإطاحة بحكم العقيد معمر القذافي، منحت السلطات الليبية رقما وطنيا لجميع حاملي جنسية هذا البلد المغاربي.

هذه الخطوة الأولى على طريق إرساء نجاعة أكبر في عمل السلطات الإدارية، سرعان ما كشفت عن تحديات واسعة، وعلى رأسها طبعا كيفية التعامل مع عديمي الجنسية.
اندلعت احتجاجات قادها منتمون إلى هذه الفئة وصلت حد إغلاق حقول النفط، القطاع الأبرز في اقتصاد البلاد.

بالموازاة، نُظمت حملات افتراضية حظيت بمتابعة واسعة، بينها حراك "لا للتمييز" لحث السلطات المركزية على إنهاء مشكلة عديمي الجنسية، أو حملة "الرقم الإداري".

وفي محاولة منها لإيجاد حل مؤقت، منحت الدولة الليبية بعد ثورة 2011 ما بات يُعرف بـ"الرقم الإداري" للمنتمين لفئة عديمي الجنسية.

ويتيح الرقم الإداري لحامله بعض الحقوق كتلقي المرتبات وإتمام بعض الخدمات الإدارية، لكنه يظل محدود الأثر ومحط انتقادات حقوقية دائمة.

وتقدر تقارير إعلامية عدد حاملي الرقم الإداري إلى غاية الآن بنحو 17 ألف عائلة، تشمل العائدين من المهجر ومن لم يتم حصرهم في استفتاءي عامي 1954 و1964.

وفي ظل الانقسام السياسي الحاد الذي تعيشه ليبيا، يستبعد المحلل السياسي إسماعيل الرملي "التوصل إلى حلول جذرية لإشكالية عدم امتلاك عدد من الأشخاص لجنسية ليبيا أو رقم وطني".

ويشير الرملي في هذا السياق إلى "محاولات لتشكيل لجان ودراسة الملفات لتسوية أوضاع هذه الفئة لكنها اصطدمت بواقع صعب على اعتبار ارتفاع الأعداد ومخاوف التأثير على النسيج الاجتماعي"، معتبرا في تصريح لموقع "الحرة" أنه في "غياب استقرار سياسي لا يمكن التوصل إلى تسوية هذا الملف الشائك".

وتجدر الإشارة إلى أن ليبيا منقسمة بين حكومة عبد الحميد الدبيبة المعترف بها دوليا ومقرها طرابلس وحكومة أسامة حماد المعينة والمدعومة من البرلمان الليبي ورجل ليبيا القوي، المشير خليفة حفتر.

وفي انتظار تعامل الدولة الليبية، كيفما كان لونها، مع مأساة إنسانية طال أمدها، يظل عديم الجنسية كما تقول عائشة: "أنا لست ليبية ولست أجنبية".

عبد النبي مصدق

وجوه وقضايا

"اليهود البغداديون".. حكاية بصمات عراقية في الهند

رامي الأمين
23 أبريل 2025

يحكي الملحن البريطاني براين إلياس في مقطع فيديو عن خليط بين الطعام البغدادي اليهودي والتوابل الهندية. ما زال هذا الخليط يسكن ذاكرته ويشعر بطعمه في فمه، لما يعنيه من مزيج ثقافات في أطباق كانت تُعد بأيادي "اليهود البغداديين" في منطقة بايكولا في مدينة مومباي الهندية.

الفيديو واحد من عشرات الفيديوهات التي تنشرها الشابة البريطانية كيرا شالوم في حسابها "تاريخ المزراحي" The Mizrahi History على إنستغرام، لشهادات وذكريات لليهود المشرقيين من مختلف البلدان في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

شالوم التي تتحدّر من عائلة يهودية بغدادية عاشت في الهند حتى ستينيات القرن الماضي، تخصّص الكثير من وقتها، ومساحة كبيرة من حساباتها في وسائل التواصل الاجتماعي، للإضاءة على تاريخ ما يُعرف بـ"اليهود البغداديين".

وصل هؤلاء بأعداد كبيرة إلى الهند في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ولم يبق منهم سوى أعداد قليلة ما زالت تعيش هناك.

في كتابها "اليهود البغداديون في الهند"، تقول المؤرخة الإسرائيلية شالفا ويل إن هذه الفئة من اليهود معروفة في الهند وخارجها رغم عددها القليل، ومعظمها يتحدث اللغة العربية بالإضافة إلى الإنجليزية والهندية.

يتحدر هؤلاء بحسب ويل، ليس من بغداد فحسب، بل أيضاً من مدن عراقية أخرى كالبصرة والموصل، وكذلك من سوريا واليمن وإيران وبخارى وأفغانستان. بهذا المعنى فإن التسمية لا تعني حصراً اليهود المتحدّرين من العاصمة العراقية، بل تشمل يهوداً مزراحيين (شرقيين) من مناطق مختلفة في الشرق الأوسط.

تشير الكاتبة الإسرائيلية إلى أن أول يهودي وصل الهند من بغداد كان يدعى جوزف سماح ورست سفينته في مرفأ سورات في غوجارات الهندية في عام 1730، وترك بغداد بحثاً عن فرص تجارية جديدة.

ومع بدايات القرن التاسع عشر بحسب الكاتبة، تحولت مومباي إلى ملجأ كبير لعدد من اليهود الناطقين بالعربية الذين هربوا من بطش داود باشا، آخر حكام العراق من المماليك في الفترة بين عامي 1816 و1831.

أما التاريخ المفصلي في ترسيخ الوجود اليهودي البغدادي في مومباي وتطورها الاقتصادي نتيجة ذلك، فكان مع وصول ديفيد ساسون وعائلته إلى المدينة في عام 1832، حيث عملوا في تجارة الأفيون قبل أن تصبح غير شرعية.

بَنَت هذه العائلة سيناغوغ (كنيس يهودي) في بايكولا في مومباي، وآخر حمل اسم إلياهو في وسط المدينة، ثم بعد أن أصبحت تجارة الأفيون غير شرعية انتقل آل ساسون إلى الاستثمار في انتاج وبيع أكياس الرمل المخصصة للدشم (تحصينات دفاعية) العسكرية في الحروب، وحققوا أرباحاً طائلة.

كما أسهم دايفد وألبرت ساسون في بناء ميناء تجاري في مومباي والعديد من المدارس والمستشفيات التي ما يزال بعضها موجوداً حتى اليوم.

صورة من أرشيف كيرا شالوم الخاص

في تقديرات لأعداد اليهود البغداديين، فإنها بلغت حتى الربع الأول من القرن العشرين نحو سبعة آلاف نسمة، لكنها سرعان ما انخفضت بشكل كبير مع منتصف القرن العشرين.

تربط ويل في كتابها بين نَيل الهند استقلالها في عام 1947 وبدء اليهود بالتفكير بالرحيل عنها، والسبب أن القوانين التي أقرتها الحكومة الهندية بعد الاستقلال ضيقت عمليات التجارة والاستيراد والتصدير، وحدّت من قدرة اليهود البغداديين على الاستثمار في التجارة وإيجاد فرص جديدة.

كما شكّل إعلان دولة إسرائيل في عام 1948 فرصة ليهود بغداديين للهجرة إليها، لكن معظمهم اختاروا بلداناً ناطقة بالإنجليزية، بينما بقي نحو ألفين منهم في الهند حتى سنوات لاحقة، قبل أن ينتقلوا إلى بريطانيا واستراليا وكندا وأميركا.

تقول كيرا شالوم إن عائلتها غادرت الهند في عام 1961، أي بعد سنوات طويلة من نيلها الاستقلال، وقبل تأسيس دولة إسرائيل.

حاولت شالوم أن تفهم من أقاربها سبب رحيل اليهود البغداديين من الهند، لكنها، كما تقول، لم تحصل على سبب مقنع، خاصة وأن "معاداة السامية لم تكن حاضرة بأي شكل من الأشكال في الهند، واندمج أهلها وغيرهم في المجتمع الهندي بشكل كامل، أي مع المسلمين والهندوس".

حتى حينما كان اليهود يتعرضون لمجازر في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، لم يتعرض من كان في الهند لأية مضايقات، وفقاً لشالوم التي ما تزال تحتفظ بصور لعائلتها في مومباي وبعضهم يلبس أزياء عربية.

كان لليهود البغداديين كما تشرح شالوم، بصماتهم على الثقافة الهندية، ومساهماتهم الكبيرة في نهضة الهند، وتذكر من بين الشخصيات اليهودية البغدادية البارزة، الممثلة العراقية نادرة (فلورنسا حزقيل) التي ولدت في بغداد عام 1932 وعاشت في الهند حتى وفاتها عام 2006، وحصلت على شهرة في سينما بوليود.

من الشخصيات الأخرى التي تذكرها، الجنرال (جي أف آر يعقوب)، وهو قائد عسكري هندي من أصول يهودية بغدادية، لعب دوراً في استقلال بنغلاديش عام 1971.

وأثر اليهود البغداديون في المطبخ الهندي، إذ أدخلوا العديد من الأطباق العراقية التي أضيفت إليها التوابل الهندية أو بعض المكونات البريطانية.

وتتحدث شالوم بشغف عن توارث هذه الأطباق في عائلتها وشيوع استخدام الجيل الذي عاش في الهند اللغات الهندية والعربية والإنجليزية في جملة واحدة، كما بقي الأحفاد يستخدمون الدلالات الهندية في الإشارة إلى الجدّ أو الجدة، من مثل "نانا" و"ناني".

لم تزر هذه الشابة البريطانية العراق أبداً، كما أنها لم تزر الهند. تقول إنها "تتمنى زيارة الهند قريباً، لكنها لا تفكّر بزيارة العراق الآن، كذلك الأمر بالنسبة إلى باقي أفراد عائلتها، حيث يمنعهم الخوف بشكل أساسي من التفكير في زيارة البلاد التي يتحدرون منها".

لكنها لا تنكر حنين العديد من أفراد عائلتها وأقاربها إلى بغداد والثقافة العراقية، خاصة الموسيقى والطعام، فضلاً عن الحنين إلى الهند التي ما تزال تحتفظ بالكثير من الآثار والبصمات الثقافية والدينية التي تركها القادمون من بغداد ومدن أخرى.

رامي الأمين