وجوه وقضايا

التعارف الحلال.. مسلمو أميركا و"النصيب" إلكترونيّا

مروى صابر - واشنطن
06 فبراير 2025

ألقت شمس يناير أشعتها الحمراء على استحياء، لتودع المدينة بعد نهار كان نصيبه من الدفء تحت الصفر بقليل.

يعج الشارع بالمارة وبسيارات التاكسي صفراء اللون.

عربات بيع الكستناء المحمص مصفوفة على قارعة الطريق، القرطاس منها يمنحك من الدفء ما يكفي كي تصل وجهتك.

صوت أليشيا كيز، عبر مكبر صوت، يصدح بالإنجليزية: "غابة خرسانية حيث تُصنع الأحلام، ما من شيء لا يمكنك فعله هنا.. أنت في نيويورك".

على أحد الأرصفة ينتظر ذوالفقار مانزي الإشارة المرورية ليعبر الشارع.

رفع عينيه ينظر إلى اللوحات الإعلانية المضيئة التي تحيط بساحة "تايمز سكوير" من كل اتجاه.

لم يكد يصدق ما رأى: لوحة كبيرة تُظهرُ صورةَ رجل في قميص أسود، وجملة كُتبت بصيغة الأمر أو الرجاء: "ابحثْ عن زوجة لمحمد!"

ابن السابعة والعشرين عاما، يبحث هو الآخر عن زوجة ليكمل نصف دينه ويرضي والديه.

لكن لا وقت ليضيعه.

لابد أن يلحق بقطار الأنفاق المؤدي إلى استديو التسجيل.

داخل إحدى عربات القطار، ترددت في أذنيه كالصدى كلمات أبيه خلال مكالمة أمس: "بُني، ألم يحن الأوان بعد؟.. أبناء عمومتك جميعا تزوجوا ويعيشون في سعادة".

تنهد وأسند ظهره إلى مقعده، يلتمس الواقع.

وإذا بلافتة إعلانية ثانية تقطع حبل شروده: "300 ألف مسلم تزوجوا عبر تطبيق Muzz، وأنت لا تزال عازبا؟"

"Muzz" هو أحد تطبيقات التعارف "الحلال" التي تستهدف المسلمين الملتزمين دينيا، وذو الفقار واحد منهم.

هو ابن لأبوين مهاجرين من تنزانيا.

وُلد وعاش جل سنوات عمره في كنف عائلته المحافظة في مدينة سبرينفيلد بولاية ماساتشوستس.

بعد ان أنهى دراسته الجامعية، انتقل إلى نيويورك ليطارد حلمه كصانع محتوى.

منذ مغادرته بيت العائلة، لم تنفك الأخيرة عن تذكيره بتحصين نفسه: بالزواج.

صانع المحتوى الأميركي من أصل تنزاني ذوالفقار مانزي

خيارات ذوالفقار محدودة: فإما مسلمة ملتزمة في أميركا أو مثيلة لها يأت بها من تنزانيا.

تكلفة الزواج باهظة.

عليه أن يدفع مهرا "قد يعادل ثمن شراء منزل”.

إن كانت العروس من تنزانيا فثمة مصاريف وإجراءات إضافية عليه التكفل بها، منها تأشيرة دخول البلاد، وتذاكر الطيران.

حسنا... ربما تكون اللوحات الإعلانية إشارة من السماء!

قرر ذوالفقار تجربة تطبيقات التعارف الإسلامية.

@zulmanzi

Halal Online “Dating” Problems 😫 #salam #muzz #halal #marriage #muslim #catfish

♬ original sound - Zul Manzi

"ما عندي مجتمع"

ارتدت فطيمة تنورتها المفضلة.

اختارت مكياجا يبرز جمالها العربي.

توجهت إلى المقهى المتفق عليه.

نزل هو من سيارة فخمة، تسبقه رائحة عطره.

التقى الاثنان أخيرا، بعد أيام من محادثات كتابية وهاتفية وبالفيديو.

على طاولة بالزاوية جلسا.

لمعة عيني فطيمة غطت الارتباك الذي يغرقها في كرسيها.

لملمتْ شتات نفسها.

سألته في استحياء عن الطقس، عن العمل.

استمعت له طويلا.

الإنجليزية لغته الأم، أما هي فلسانها عربي فصيح.

انتهى اللقاء.

وصلت شقتها شمالي ولاية فيرجينا.

جاءها اتصال منه، يسألها: "ليش أنتي ساكنة لحالك وأنا لحالي؟"

ذكّرته بأن تعاليم الدين لا تسمح بـ”المساكنة” دون زواج.

لم تسمح لغضبها أن يغمرها.

التمست له العذر، فهو حديث العهد بالإسلام.

لكنه "لم يتوقف عن السؤال عن عنوان منزلي.. بدأت أشعر بعدم الارتياح.."

"في إحدى الليالي وجدني متاحة على التطبيق، بدأ يرميني بالأسئلة: ليه أنتِ ما زلت على التطبيق؟ ألم تكتف بي؟ أما زلت تبحثين عن رجل أخر؟."

أنهت فطيمة العلاقة.

قبل ست سنوات، انتقلت الشابة السودانية بمفردها من مدينة دبي إلى الولايات المتحدة للعمل.

آنذاك كان شبح كورونا يخيم على العالم.

التباعد كان سمة العلاقات بين البشر.

رغم ذلك، في كل اتصال مع العائلة، تتلقى فطيمة الأسئلة نفسها، بالتسلسل ذاته:

"هل تعرفت على أحد؟

هل أبدى أحدهم اهتماما؟

معقولة أميركا كلها ما فيها أحد؟"

"لم أولد هنا، ولم أنشأ أو أذهب لمدرسة هنا، مجتمعي ضيق جدا، وما في تواصل مع الناس." أخبرتهم وأخبرتني.

جربت فطيمة تطبيقات التعارف الإسلامية بعد نصيحة من زميلة لها في العمل.

تجربتها الأولى مع التطبيق لم تكن مبشرة. لكنها انتهت سريعا قبل أن تنشأ مشاعر حب أو تعلق.

أعطت فطيمة التطبيق فرصة ثانية.

حالفها الحظ هذه المرة بالتعرف على أميركي من أصل سوداني.

"كتير محترم وكريم جدا، ومعجب بي جدا".

خرجت العلاقة من التطبيق إلى أرض الواقع.

بعد ثلاثة أشهر، أجلست فطيمة ابن بلادها.

أخبرته: "شوف احنا بنتكلم في كل شي إلا الزواج".

أجابها: "صراحة أنا اكتشفت إني مو جاهز للفكرة، إنتِ إنسانة منظمة، عارفة إيش عايزة، أنا ما بناسبك. بس الناس تكون صحبة".

بمرارة تحكي: "اقسم بالله قالي خلينا صحبة.. قلتله أنا أسفة".

رجل الـ"بيلبورد"

قبل 30 عاما ولد محمد إبراهيم في نيويورك لأبوين هاجرا من الإسكندرية، شمالي مصر.

نشأ محمد في حي هارلم وسط أميركيين أفارقة ولاتينيين.

مجتمعه العربي والمسلم اقتصر على إخوته السبعة.

في مدينة تحتضن أكثر من 8 ملايين شخص، لم يقابل محمد فتاة مسلمة تشاركه القيم نفسها فيبني معها عائلته الصغيرة.

لجأ إلى تطبيقات المواعدة الإسلامية.

أتاح له التطبيق دوائر أوسع للتعارف.

التقى فتيات من مدينته ومن خارجها.

لكن الحظ لم يحالفه في العثور على زوجته المستقبلية.

"قابلتُ فتيات لا يردن الإنجاب، أخريات يتوقعن أن أكون مليونيرا في سن الثلاثين، أخريات لديهن قيم مختلفة".

ظهرت في الأفق فكرة مجنونة.

يظهر محمد وجها لحملة إعلانية يطلقها تطبيق "Muzz" للتعارف الإسلامي، في الولايات المتحدة وكندا.

في المقابل يحصل الشاب على مكافئة مالية، وربما يعثر على عروسه.

تحمس للفكرة وقبل العرض.

خرجت الحملة نهاية عام 2024، تحت عنوان "ابحث عن زوجة لمحمد".

تحت الكلمات الأربع، ايضا، أنشا "Muzz" موقعا إلكترونيا.

على الموقع، شعار التطبيق، وصورة محمد.

في الصورة يشير محمد بإصبعه إلى جمل ثلاث:

"أنا محمد.

ساعدني في العثور على زوجة.

(هذه ليست مزحة!)

تحت الصورة، جملة تقودك إلى رابط عند النقر عليها: "ارسل استمارة التقديم من هنا".

ظهر وجه محمد على 18 لوحة إعلانية كبيرة أو كما تعرف بالإنجليزية "بيلبورد"، في عموم الولايات المتحدة وفي كندا.

انتشرت الحملة على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي في البلدين.

لوحة إعلانية لحملة "ابحثْ عن زوجة لمحمد" كما ظهرت في ميدان تايمز سكوير بمدينة نيويورك

يقول إن مشاركته في الحملة كانت مليئة بالمتعة، لكنها سببت له الكثير من الضيق والإحراج.

"الحملة صورتني على إني يائس، وهذا غير حقيقي".

"لم يكن لدي سلطة على محتوى الحملة".

بعد شهر تقريبا، تلقى الشاب من Muzz، صفحة تضم بيانات "أكثر من 5 آلاف فتاة"، ترى كل واحدة منهن في نفسها زوجة محتملة لمحمد.

لكن الاستمارات التي تلقاها لا تتضمن صور "أصحابها".

- "نعم، أصحابها وليس صاحباتها.

كثير ممن ملؤوا استمارة التعارف كانوا ذكوراً.

بعضهم "متصيدو" الإنترنت او كما يعرفون بلقب "Trolls".

"بعض الاستمارات جاءت من فتيات يعشن خارج الولايات المتحدة"، أخبرني محمد في اتصال هاتفي.

رغم ذلك وجد محمد بين قائمة الأسماء الطويلة، فتاة وصفها بالرائعة.

تعيش وتدرس في ألمانيا.

لكنها غير مستعدة للزواج قبل 4 سنوات.

فقد محمد الأمل.

قرر التوقف عن قراءة أو فحص المزيد من الاستمارات.

"آلاف الزيجات"

قرر ذوالفقار وفطيمة ومحمد، التوقف عن استخدام تطبيقات التعارف الإسلامية.

رغم ذلك يتفق الثلاثة على أنها خيار لا يجب إقصاؤه في رحلة البحث عن "النصيب."

بحسب ريتا رضا مسؤولة Muzz في أميركا الشمالية، خلال العام الماضي وحده تزوج -عبر التطبيق- 124 ألف شخص في 190 دولة.

ريتا الأميركية من أصل مغربي تقول إن التطبيق وعمره 10 أعوام، خلق مساحة للمسلمين في الدول الغربية للتعارف.

تنصح بالصبر وإعطاء فرصة إن كنت جادا في إيجاد "نصيبك".

تقول: "اجلس.

احتس كوبا من الشاي.

ابدأ في قراءة المعلومات التي كتبها الشخص عن نفسه على التطبيق.

لا تتسرع في الحكم.

اسأل نفسك: هل أرى نفسي مع هذا الشخص أم لا".

يؤمن المسلمون بوجود كتاب، كَتَبَ فيه الخالق أقدار الخلق قبل أن يخلقهم.

و"النصيب" هو الشخص الذي كُتب اسمه بجوار اسمك في الكتاب.

- سألتُها: ما نصيحتك لمن ينوي إنشاء حساب معكم؟

- أجابت: "كن أمينا، ركز على الأمور الفارقة في الزواج، تلك التي لا يمكن أن تغير رأيك بشأنها، مثل: هل ترغب في الأطفال أم لا".

"عند كتابة المعلومات عن نفسك، فكر في الصفات التي يقولوها أحبابك عنك واكتبها".

"فمن الجيد أن تنظر لنفسك عبر أعين من حولك".

قسمة ونصيب

على منصة تيك توك للمقاطع المصورة، قال العديد من الناشطات إنهن تزوجن عبر تطبيقات التعارف الإسلامية، بينهن: قسمة.

تقدم قسمة نفسها كممرضة أميركية من أصول سودانية.

تعيش في ولاية كاليفورنيا.

قالت في اثنين من المقاطع على حسابها إنها تعرفت على زوجها مايكل عبر تطبيق Muzz للتعارف بين المسلمين.

وتزوجا بعد ثلاثة أشهر.

@gissy.d

Replying to @Its Natty_Amour Finally heres what yall been asking for ! #muzz #metonmuzz

♬ original sound - Gis

تواصلت مع قسمة عبر رسالة خاصة.

طلبت إجراء حوار معها لمعرفة المزيد عن قصتها.

ردت باقتضاب: "أهلا، تحدثت عن القصة في مقطع على قناتي".

مروى صابر

وجوه وقضايا

الجانب المظلم من حقيقة الذكاء الاصطناعي

ضياء عُطي
21 مارس 2025

لتقنيات الذكاء الاصطناعي أثر إيجابي على كثير من مجالات حياتنا اليومية، لكن ما قد يخفى عن كثيرين هو تأثيراتها الضارة على الحياة بشكل عام: الحياة على هذا الكوكب.

استهلاك شركة مايكروسوفت من الكهرباء في عام 2023، على سبيل المثال، تجاوز 24 تيراواط، أي أكثر من استهلاك بلد مثل الأردن، أو حتى السعودية.

ويزيد الاستخدام المفرط للطاقة غير النظيفة لإنتاج الكهرباء من تداعيات الانبعاثات الضارة على البيئة. 

إلى جانب الكهرباء، يستخدم قطاع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي كميات هائلة من المياه لتبريد الأجهزة المعالجة للخوارزميات المعقدة.

الجبهة الأمامية

مراكز البيانات هي الجبهة الأمامية في الصراع نحو تصدر مجال الذكاء الاصطناعي.

هذه المراكز ليست حديثة العهد، فقد أُسس أول مركز معني بالبيانات في جامعة بنسلفانيا الأميركية عام 1945 لدعم ما عُرف حينها كأول كمبيوتر رقمي متعدد الأغراض، "ENIAC" اختصارا.  

هذه المراكز هي العمود الفقري للحوسبة الحديثة المعنية بتخزين كميات ضخمة من البيانات ومعالجتها.

تلك البيانات تكفل استمرار تشغيل كافة المواقع العاملة عبر شبكة الإنترنت، ما يسهل عمل الهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب.

لكن ظهور الذكاء الاصطناعي، التوليدي منه تحديدا، مثل خدمات "تشات جي.بي.تي" و"جيميناي" مثلا، غيّر "دراماتيكيا" في عمل مراكز البيانات، وفقا لمقال نشره معهد ماساتشوستس للتقنية "أم آي تي". 

واليوم، تتكون تلك المراكز من بنايات صناعية كبيرة، في داخلها مجموعة من الأجهزة الإلكترونية الضخمة.

داخل تلك البنايات هناك أجهزة تخزين البيانات الرقمية وخوادم الاتصالات والحوسبة السحابية، التي تمكن من تخزين ومعالجة البيانات.

بين عامي 2022 و 2023 ارتفعت متطلبات مراكز البيانات من الطاقة، في أميركا الشمالية، من 2,688 ميغاواط إلى 5,341 ميغاواط، وفق تقديرات علماء.

جزء من هذا الارتفاع مرتبط بالاحتياجات التي فرضها الذكاء الاصطناعي التوليدي، وفق "أم آي تي".

عالميا، بلغ استهلاك مراكز البيانات من الطاقة، في عام 2022، 460 تيراواط.

وتحتل مراكز البيانات المرتبة 11 بين الأكثر استهلاكا للكهرباء سنويا حول العالم، وهي مرتبة وسط بين فرنسا (463 تيراواط) والسعودية (371 تيراواط)، وفقا منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

وبحلول 2026، تشير "أم آي تي"، إلى أن استهلاك مراكز البيانات للكهرباء قد يصل إلى 1,050 تيراواط، ما قد يرفعها إلى المرتبة الخامسة، بين اليابان وروسيا.

الذكاء الاصطناعي التوليدي وحده ليس العامل الوحيد، يوضح المعهد التقني، لكنه "دافع أساسي" باتجاه زيادة الطلب على الطاقة والمياه. 

تستخدم تلك المراكز كميات ضخمة من الطاقة الكهربائية، وتكون لديها مصادر طاقة بديلة عند انقطاع التزويد أو في حالات الطوارئ، ما يمكّنها من الاستمرار في العمل.

لكن توفير الطاقة الكافية لتشغيل تلك المراكز أصبح تحديا في ظل ارتفاع الطلب العالمي على الطاقة.

الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قدّم خطة لتطوير الطاقة النووية في الولايات المتحدة تحظى بدعم لافت من جمهوريين وديمقراطيين على حد السواء، وقد تشكل الحل الأكثر رفقا بالبيئة.

البروفسور آناند راو من جامعة كارنيغي ميلون أوضح لموقع "الحرة" أنه بالإضافة إلى الاستخدام المكثف للطاقة الكهربائية، ظهرت معضلة جديدة أمام تلك المراكز.

الأجهزة الإلكترونية الضخمة التي تستهلك كميات كبيرة من الطاقة ترتفع حرارتها إلى درجات عالية جدا، ما يؤثر على قدرتها، وقد يؤدي حتى إلى تلفها.

قد يبدو ذلك غريبا لأول وهلة، ولكن على عكس حاسوبك الصغير الذي يستعمل مروحة أو اثنتين لتبريد رقاقاته الإلكترونية، تستخدم أجهزة مراكز البيانات الماء للتبريد.

تدخل آلاف الغالونات من الماء إلى مبادل حراري يشغل شبكة ضخمة ومتشعبة من الأنابيب والمبردات تمتد إلى كافة الأجهزة الكهربائية والإلكترونية، دون أن يلامس الماء، طبعا، أيا من الدارات الكهربائية.

ومثلما هو الحال بالنسبة للكهرباء، يضع استهلاك تلك الكميات الكبيرة من الماء ضغطا كبيرا على الموارد المحلية للمنطقة حيث تكون مركز البيانات.

بات من الواضح أن استدامة عمل تلك المراكز أصبحت مرتبطة بتأمين موارد كبيرة من الكهرباء والماء.

لكنّ هناك حلولا أخرى، بحسب البروفيسور راو، مثل استخدام النيتروجين للتبريد عوضا عن الماء.

رغم أن النيتروجين متوفر بكميات كبيرة، إذ يمثل نحو 78 في المئة من الهواء في الغلاف الجوي للأرض، فإن استخدامه للتبريد مكلف كثيرا، ما يجعل الماء خيارا اقتصاديا أفضل.

حلول مبتكرة تعيقها "الهلوسة"

عوضا عن بذل جهد كبير في محاولة تبريد الأجهزة الإلكترونية، لماذا لا يتم استخدام أجهزة تطلق حرارة أقل، ما يعني بالضرورة أنها تستهلك كمية أقل من الطاقة؟

قد يخيل إليك أن هذه فكرة مثالية بعيدة عن الواقع، ولكن، مرة أخرى، يتحول الخيال إلى حقيقة.

تجري منذ مدة أبحاث تهدف لتطوير ما اصطلح على تسميته بحواسيب الكوانتوم التي تُعرف أيضاً باسم الحواسيب الكمومية.

اعتماد هذا النوع من الحواسيب على "فيزياء الكم" جعلها قادرة على القيام بعدد ضخم من الحسابات في وقت قصير ما جعلها تستخدم كمية طاقة أقل.

البيانات المعروفة بالإنكليزية بكلمة "بايت" وتعتمد نظام الرياضيات الثنائي المكون من رقمين هما 0 و1، وهو النظام المستخدم في الحواسيب.

لكن حواسيب الكم تعتمد على "الكيوبتات"، التي بإمكانها أن أن تكون في حالتي 0 و1 في نفس الوقت، وهو ما يعرف باسم التراكب الكمومي.

مكنت تلك الخاصية الفريدة هذه الحواسيب من إظهار قدرة كبيرة على فك المعادلات المعقدة وتقديم أجوبة متطورة على أسئلة مركبة، عبر معالجة العديد من المعادلات والمسائل في نفس الوقت.

وبالطبع، استخدمت حواسيب الكم في تطوير النماذج اللغوية للذكاء الاصطناعي، لكن الأجوبة التي قدمتها كانت "غير مستقرة".

وتعبير "غير مستقرة" يعبر عنها أحياناً بـ "الهلوسة"، حسب ما أوضح لموقع "الحرة"، كل من سام رزنيك، الباحث في معهد الأمن والتكنولوجيا الناشئة في جامعة جورج تاون الأميركية، والبروفيسور راو.

هذه "الهلوسة" البرمجية تتمثل في تقديم نموذج الذكاء الاصطناعي إجابات خاطئة وغير منطقية أو مخالفة للواقع أو عبثية لا معنى لها.

مجتمع الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي يسعى لتحسين قدرات حواسيب الكم، للاستفادة من قدراتها الفريدة خصوصا من ناحية الوصول إلى نفس النتائج لكن بجهد أقل ووقت أقصر.

سباق العمالقة

ويتوالى سباق السيطرة على هذه التكنولوجيا التي فتحت أبواب الأرباح المالية الضخمة والسيطرة السياسية وحتى العسكرية، وسط مخاوف من تهديدها حرية التفكير والتعبير.

خلال الأسابيع القليلة الماضية شهدت تطبيقات الذكاء الاصطناعي نموا صاروخيا وحققت أرقاما فلكية.

ارتفع عدد مستخدمي "تشات جي.بي.تي" نهاية فبراير بنسبة 33 في المئة مقارنة بنفس العدد في ديسمبر الماضي ليصل إلى 400 مليون مستخدم أسبوعيا.

ومن أهم مستخدمي "تشات جي.بي.تي" نجد بنك "مورغان ستانلي" الاستثماري وشركات كبرى مثل "تي موبايل" و"مودرنا" و"أوبر".

أما نموذج "ديب سيك" الصيني، فارتفع عدد مستخدميه 12 مرة خلال شهر يناير الماضي، ليصل الآن إلى معدل 700 ألف مستخدم أسبوعيا.

والتحقت شركة "أكس.أيه.آي" بالركب، ومنذ طرحها نموذج "غروك 3" ارتفع عدد مستخدميه من 4.3 مليون إلى 31.5 مليون مستخدم يوميا، وذلك خلال 3 أسابيع فقط.

وزعمت الشركة المنتجة لنموذج "ديب سيك" الصيني أنه يقدم خدمة أقل كلفة ومماثلة لنظيره الأميركي "تشات جي.بي.تي" من شركة "أوبن أيه آي".

سرعان ما خرج نموذج أميركي آخر بعد أقل من شهر، يسمى "غروك 3"، ليقدم قدرات أكبر.

شركة "أكس أيه آي"، التي أسسها إيلون ماسك عام 2023، تقول إن نموذج "غروك 3" هو الأفضل حتى الآن.

ظهور "ديب سيك" شكل صدمة ليس للباحثين المختصين بل للأسواق العالمية وحتى السياسة الدولية.

"ديب سيك" اعتمد تقنية تسمى استخلاص النماذج، يقول رزنيك في حديثه لموقع "الحرة".

تعتمد هذه التقنية على طرح آلاف من الأسئلة على نموذج "تشات جي.بي.تي"، لفهم طريقة تحليله للمعلومات.

أي لفهم طريقة تفكيره، والتعلم منها عبر التدرب على ذلك النموذج.

وبناء على ذلك قام الباحثون الصينيون ببناء نموذج "ديب سيك"، باستخدام الأجوبة المقدمة من "تشات جي.بي.تي".

ومع ارتفاع عدد مستخدمي الذكاء الاصطناعي تتزايد الحاجة إلى مزيد من مراكز البيانات، ما يعني، في المحصلة، استهلاكا أكبر للكهرباء والمياه، وما يصحب ذلك من تآكل لإمكانيات استمرار الحياة على كوكب الأرض.

مفاجآت بالجملة

الباحثان اللذان تحدثنا إليهما يخالفان الاعتقاد السائد بأن الصينيين لا يملكون  قدرات حاسوبية كبيرة نظرا لتأخرهم في مجال الرقائق الإلكترونية.

فمنظومة "ديب سيك" أصبحت تستخدم عددا كبيرا من الرقائق المصنعة من طرف شركة هواوي الصينية.

يكشف رزنيك لنا سرا آخر من خبايا الصراع الخفي للسيطرة على شعلة القيادة في مجال الذكاء الاصطناعي.

نموذج "ديب سيك" يعتمد على قدرات حاسوبية كبيرة، لكن السر يكمن في طبيعة الرقاقات الإلكترونية.

هناك نوعان رئيسيان من الرقاقات الإلكترونية المعتمدة في نماذج الذكاء الاصطناعي.

الرقائق المتقدمة مثل تلك المنتجة من شركة "إنفيديا"، ومقرها ولاية كاليفورنيا الأميركية، تعرف باسم رقائق "جي.بي.يو"، وتستخدم للعمليات المعقدة مثل تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي.

كلمة "جي.بي.يو" هي الاختصار الإنكليزي لمصطلح "graphic processing unit" أو (GPU) اختصارا، وتعني "وحدات معالجة الصور".

مكنت قدرات تلك الرقائق شركة "إنفيديا" من الوصول إلى قيمة سوقية تعادل نحو 3 ترليون دولار.

رقائق "جي.بي.يو" لم تكن في الأصل معدة للاستخدام في مجال الذكاء الاصطناعي.

"إنفيديا" عملت منذ تأسيسها عام 1993، في مجال الألعاب الإلكترونية أو ألعاب الفيديو، وأرادت الحصول على صور ذات نوعية جيدة، تضفي طابعا أكثر واقعية على ألعاب الفيديو.

في ذلك الوقت كانت شركات التكنولوجيا مثل "إنتل" الأميركية تعمل على إنتاج رقائق حواسيب تعرف باسم "سي بي يو"، وهو الاختصار الإنكليزي لكلمة "سنترال بروسيسنغ يونت"، أو "وحدات المعالجة المركزية".

الرقائق الإلكترونية لوحدات المعالجة المركزية هي الأساس للحواسيب لذلك فهي أكثر انتشارا، لكن طريقة عملها تجعلها أقل تقدما في مجال الحسابات المعقدة.

من خلال التجارب الأولى للنماذج الحديثة للذكاء الاصطناعي، تبين أن وحدات معالجة الصور المنتجة من شركة "إنفيديا"، هي الأفضل بسبب قدرتها على إجراء العمليات الحسابية المعقدة، مع حجم معالجة أكبر.

تحولت "إنفيديا" من شركة تعمل في مجال ألعاب الفيديو إلى المزود الرئيسي للشركات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي.

منذ أعوام تشهد الولايات المتحدة والصين نزاعا بشأن الرقاقات المستخدمة في الذكاء الاصطناعي

المفارقة أن التحول المفاجئ كان سبباً في قوة الصدمة الناجمة عن نجاح نموذج "ديب سيك".

القدرة على تقديم نموذج يستخدم قدرات حاسوبية أقل تقدماً وضع مستقبل شركة "إنفيديا" في مرمى الشك وأثر على التداولات في الأسواق.

وأصبحت رقاقات "إنفيديا" طلبا أساسيا لدى كبرى شركات التقنية مثل "أمازون" و"غوغل" و"ميتا" و"مايكروسوفت" وغيرها.

لكن الاهتمام بذلك الحدث تجاوز عالم المال والأعمال.

ضياء عُطي