التعارف الحلال.. مسلمو أميركا و"النصيب" إلكترونيّا
ألقت شمس يناير أشعتها الحمراء على استحياء، لتودع المدينة بعد نهار كان نصيبه من الدفء تحت الصفر بقليل.
يعج الشارع بالمارة وبسيارات التاكسي صفراء اللون.
عربات بيع الكستناء المحمص مصفوفة على قارعة الطريق، القرطاس منها يمنحك من الدفء ما يكفي كي تصل وجهتك.
صوت أليشيا كيز، عبر مكبر صوت، يصدح بالإنجليزية: "غابة خرسانية حيث تُصنع الأحلام، ما من شيء لا يمكنك فعله هنا.. أنت في نيويورك".
على أحد الأرصفة ينتظر ذوالفقار مانزي الإشارة المرورية ليعبر الشارع.
رفع عينيه ينظر إلى اللوحات الإعلانية المضيئة التي تحيط بساحة "تايمز سكوير" من كل اتجاه.
لم يكد يصدق ما رأى: لوحة كبيرة تُظهرُ صورةَ رجل في قميص أسود، وجملة كُتبت بصيغة الأمر أو الرجاء: "ابحثْ عن زوجة لمحمد!"
ابن السابعة والعشرين عاما، يبحث هو الآخر عن زوجة ليكمل نصف دينه ويرضي والديه.
لكن لا وقت ليضيعه.
لابد أن يلحق بقطار الأنفاق المؤدي إلى استديو التسجيل.
داخل إحدى عربات القطار، ترددت في أذنيه كالصدى كلمات أبيه خلال مكالمة أمس: "بُني، ألم يحن الأوان بعد؟.. أبناء عمومتك جميعا تزوجوا ويعيشون في سعادة".
تنهد وأسند ظهره إلى مقعده، يلتمس الواقع.
وإذا بلافتة إعلانية ثانية تقطع حبل شروده: "300 ألف مسلم تزوجوا عبر تطبيق Muzz، وأنت لا تزال عازبا؟"
"Muzz" هو أحد تطبيقات التعارف "الحلال" التي تستهدف المسلمين الملتزمين دينيا، وذو الفقار واحد منهم.
هو ابن لأبوين مهاجرين من تنزانيا.
وُلد وعاش جل سنوات عمره في كنف عائلته المحافظة في مدينة سبرينفيلد بولاية ماساتشوستس.
بعد ان أنهى دراسته الجامعية، انتقل إلى نيويورك ليطارد حلمه كصانع محتوى.
منذ مغادرته بيت العائلة، لم تنفك الأخيرة عن تذكيره بتحصين نفسه: بالزواج.
خيارات ذوالفقار محدودة: فإما مسلمة ملتزمة في أميركا أو مثيلة لها يأت بها من تنزانيا.
تكلفة الزواج باهظة.
عليه أن يدفع مهرا "قد يعادل ثمن شراء منزل”.
إن كانت العروس من تنزانيا فثمة مصاريف وإجراءات إضافية عليه التكفل بها، منها تأشيرة دخول البلاد، وتذاكر الطيران.
حسنا... ربما تكون اللوحات الإعلانية إشارة من السماء!
قرر ذوالفقار تجربة تطبيقات التعارف الإسلامية.
@zulmanzi Halal Online “Dating” Problems 😫 #salam #muzz #halal #marriage #muslim #catfish
♬ original sound - Zul Manzi
"ما عندي مجتمع"
ارتدت فطيمة تنورتها المفضلة.
اختارت مكياجا يبرز جمالها العربي.
توجهت إلى المقهى المتفق عليه.
نزل هو من سيارة فخمة، تسبقه رائحة عطره.
التقى الاثنان أخيرا، بعد أيام من محادثات كتابية وهاتفية وبالفيديو.
على طاولة بالزاوية جلسا.
لمعة عيني فطيمة غطت الارتباك الذي يغرقها في كرسيها.
لملمتْ شتات نفسها.
سألته في استحياء عن الطقس، عن العمل.
استمعت له طويلا.
الإنجليزية لغته الأم، أما هي فلسانها عربي فصيح.
انتهى اللقاء.
وصلت شقتها شمالي ولاية فيرجينا.
جاءها اتصال منه، يسألها: "ليش أنتي ساكنة لحالك وأنا لحالي؟"
ذكّرته بأن تعاليم الدين لا تسمح بـ”المساكنة” دون زواج.
لم تسمح لغضبها أن يغمرها.
التمست له العذر، فهو حديث العهد بالإسلام.
لكنه "لم يتوقف عن السؤال عن عنوان منزلي.. بدأت أشعر بعدم الارتياح.."
"في إحدى الليالي وجدني متاحة على التطبيق، بدأ يرميني بالأسئلة: ليه أنتِ ما زلت على التطبيق؟ ألم تكتف بي؟ أما زلت تبحثين عن رجل أخر؟."
أنهت فطيمة العلاقة.
قبل ست سنوات، انتقلت الشابة السودانية بمفردها من مدينة دبي إلى الولايات المتحدة للعمل.
آنذاك كان شبح كورونا يخيم على العالم.
التباعد كان سمة العلاقات بين البشر.
رغم ذلك، في كل اتصال مع العائلة، تتلقى فطيمة الأسئلة نفسها، بالتسلسل ذاته:
"هل تعرفت على أحد؟
هل أبدى أحدهم اهتماما؟
معقولة أميركا كلها ما فيها أحد؟"
"لم أولد هنا، ولم أنشأ أو أذهب لمدرسة هنا، مجتمعي ضيق جدا، وما في تواصل مع الناس." أخبرتهم وأخبرتني.
جربت فطيمة تطبيقات التعارف الإسلامية بعد نصيحة من زميلة لها في العمل.
تجربتها الأولى مع التطبيق لم تكن مبشرة. لكنها انتهت سريعا قبل أن تنشأ مشاعر حب أو تعلق.
أعطت فطيمة التطبيق فرصة ثانية.
حالفها الحظ هذه المرة بالتعرف على أميركي من أصل سوداني.
"كتير محترم وكريم جدا، ومعجب بي جدا".
خرجت العلاقة من التطبيق إلى أرض الواقع.
بعد ثلاثة أشهر، أجلست فطيمة ابن بلادها.
أخبرته: "شوف احنا بنتكلم في كل شي إلا الزواج".
أجابها: "صراحة أنا اكتشفت إني مو جاهز للفكرة، إنتِ إنسانة منظمة، عارفة إيش عايزة، أنا ما بناسبك. بس الناس تكون صحبة".
بمرارة تحكي: "اقسم بالله قالي خلينا صحبة.. قلتله أنا أسفة".
رجل الـ"بيلبورد"
قبل 30 عاما ولد محمد إبراهيم في نيويورك لأبوين هاجرا من الإسكندرية، شمالي مصر.
نشأ محمد في حي هارلم وسط أميركيين أفارقة ولاتينيين.
مجتمعه العربي والمسلم اقتصر على إخوته السبعة.
في مدينة تحتضن أكثر من 8 ملايين شخص، لم يقابل محمد فتاة مسلمة تشاركه القيم نفسها فيبني معها عائلته الصغيرة.
لجأ إلى تطبيقات المواعدة الإسلامية.
أتاح له التطبيق دوائر أوسع للتعارف.
التقى فتيات من مدينته ومن خارجها.
لكن الحظ لم يحالفه في العثور على زوجته المستقبلية.
"قابلتُ فتيات لا يردن الإنجاب، أخريات يتوقعن أن أكون مليونيرا في سن الثلاثين، أخريات لديهن قيم مختلفة".
ظهرت في الأفق فكرة مجنونة.
يظهر محمد وجها لحملة إعلانية يطلقها تطبيق "Muzz" للتعارف الإسلامي، في الولايات المتحدة وكندا.
في المقابل يحصل الشاب على مكافئة مالية، وربما يعثر على عروسه.
تحمس للفكرة وقبل العرض.
خرجت الحملة نهاية عام 2024، تحت عنوان "ابحث عن زوجة لمحمد".
تحت الكلمات الأربع، ايضا، أنشا "Muzz" موقعا إلكترونيا.
على الموقع، شعار التطبيق، وصورة محمد.
في الصورة يشير محمد بإصبعه إلى جمل ثلاث:
"أنا محمد.
ساعدني في العثور على زوجة.
(هذه ليست مزحة!)
تحت الصورة، جملة تقودك إلى رابط عند النقر عليها: "ارسل استمارة التقديم من هنا".
ظهر وجه محمد على 18 لوحة إعلانية كبيرة أو كما تعرف بالإنجليزية "بيلبورد"، في عموم الولايات المتحدة وفي كندا.
انتشرت الحملة على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي في البلدين.
يقول إن مشاركته في الحملة كانت مليئة بالمتعة، لكنها سببت له الكثير من الضيق والإحراج.
"الحملة صورتني على إني يائس، وهذا غير حقيقي".
"لم يكن لدي سلطة على محتوى الحملة".
بعد شهر تقريبا، تلقى الشاب من Muzz، صفحة تضم بيانات "أكثر من 5 آلاف فتاة"، ترى كل واحدة منهن في نفسها زوجة محتملة لمحمد.
لكن الاستمارات التي تلقاها لا تتضمن صور "أصحابها".
- "نعم، أصحابها وليس صاحباتها.
كثير ممن ملؤوا استمارة التعارف كانوا ذكوراً.
بعضهم "متصيدو" الإنترنت او كما يعرفون بلقب "Trolls".
"بعض الاستمارات جاءت من فتيات يعشن خارج الولايات المتحدة"، أخبرني محمد في اتصال هاتفي.
رغم ذلك وجد محمد بين قائمة الأسماء الطويلة، فتاة وصفها بالرائعة.
تعيش وتدرس في ألمانيا.
لكنها غير مستعدة للزواج قبل 4 سنوات.
فقد محمد الأمل.
قرر التوقف عن قراءة أو فحص المزيد من الاستمارات.
"آلاف الزيجات"
قرر ذوالفقار وفطيمة ومحمد، التوقف عن استخدام تطبيقات التعارف الإسلامية.
رغم ذلك يتفق الثلاثة على أنها خيار لا يجب إقصاؤه في رحلة البحث عن "النصيب."
بحسب ريتا رضا مسؤولة Muzz في أميركا الشمالية، خلال العام الماضي وحده تزوج -عبر التطبيق- 124 ألف شخص في 190 دولة.
ريتا الأميركية من أصل مغربي تقول إن التطبيق وعمره 10 أعوام، خلق مساحة للمسلمين في الدول الغربية للتعارف.
تنصح بالصبر وإعطاء فرصة إن كنت جادا في إيجاد "نصيبك".
تقول: "اجلس.
احتس كوبا من الشاي.
ابدأ في قراءة المعلومات التي كتبها الشخص عن نفسه على التطبيق.
لا تتسرع في الحكم.
اسأل نفسك: هل أرى نفسي مع هذا الشخص أم لا".
يؤمن المسلمون بوجود كتاب، كَتَبَ فيه الخالق أقدار الخلق قبل أن يخلقهم.
و"النصيب" هو الشخص الذي كُتب اسمه بجوار اسمك في الكتاب.
- سألتُها: ما نصيحتك لمن ينوي إنشاء حساب معكم؟
- أجابت: "كن أمينا، ركز على الأمور الفارقة في الزواج، تلك التي لا يمكن أن تغير رأيك بشأنها، مثل: هل ترغب في الأطفال أم لا".
"عند كتابة المعلومات عن نفسك، فكر في الصفات التي يقولوها أحبابك عنك واكتبها".
"فمن الجيد أن تنظر لنفسك عبر أعين من حولك".
قسمة ونصيب
على منصة تيك توك للمقاطع المصورة، قال العديد من الناشطات إنهن تزوجن عبر تطبيقات التعارف الإسلامية، بينهن: قسمة.
تقدم قسمة نفسها كممرضة أميركية من أصول سودانية.
تعيش في ولاية كاليفورنيا.
قالت في اثنين من المقاطع على حسابها إنها تعرفت على زوجها مايكل عبر تطبيق Muzz للتعارف بين المسلمين.
وتزوجا بعد ثلاثة أشهر.
@gissy.d Replying to @Its Natty_Amour Finally heres what yall been asking for ! #muzz #metonmuzz
♬ original sound - Gis
تواصلت مع قسمة عبر رسالة خاصة.
طلبت إجراء حوار معها لمعرفة المزيد عن قصتها.
ردت باقتضاب: "أهلا، تحدثت عن القصة في مقطع على قناتي".