وجوه وقضايا

السرطان في العراق.. العلاج أقسى من المرض

أريج البكارـ واشنطن, حامد الزبيدي ـ الموصل, (تحرير: كريم كاظم)
12 فبراير 2025

ظنت أن أوجاع قدميها، عند هبوط الليل، سببها مشقة الدراسة، والعمل في المنزل.

وعندما راجعت طبيبا، تبيّن أن المسألة أخطر بكثير؛ وأن ظروف العلاج ستكون أقسى من المرض. 

"زاد الوجع بشكل مفاجئ في بداية 2024. عملت سونار (صورة موجات فوق صوتية). لكن الطبيب طلب أن أعمل فحوصات أخرى"، تقول سارة، 22 عاما، لموقع "الحرة". الاسم مستعار.

أخذتْ سارة صورة بالرنين المغناطيسي.

نحو 40 دقيقة داخل فوهة جهاز الأشعة، شعرت كأنها شهور، وأنها داخل قبر حديدي وهي لا تزال على قيد الحياة. 

تسارعت ضربات قلبها، وشعرت بجسدها يلتهب، وكادت أن تختنق.

وحين حولوها إلى طبيب مختص، طلب منها  أن تعود إلى "الرنين" لأخذ صورة ثانية. 

بعد أيام وصلتها النتيجة: "ورم في العظام".

منذ تلك اللحظة، انضمت سارة إلى فيلق محاربي مرض السرطان في العراق.

واكتشفت لاحقا أن المعركة ليست عادلة، خصوصا بالنسبة للمرضى في عدد من المحافظات العراقية، وبينها نينوى، حيث تعيش.

سارة على سرير في المستشفى. الصورة لموقع "الحرة"

في العراق، قليلة هي مراكز العناية المتخصصة في علاج السرطان، وأسباب الإصابة بالمرض كثيرة جدا.

في أبريل 2024، قال وزير الصحة العراقي صالح الحسناوي إن محافظة نينوى، ومركزها الموصل، هي الأعلى نسبة في معدل الإصابات السرطانية، "وليست محافظة البصرة كما يشاع".

وأضاف، "لدينا مركز سرطاني متطور وافتتحنا آخر داخل مستشفى السياب الجديدة بأحدث الأجهزة الطبية" في البصرة.

في نينوى ليس هناك مركز متخصص بالعلاج الإشعاعي. لهذا تسافر سارة مئات الكيلومترات باتجاه الجنوب لتلقي العلاج.

لكن "الوزير أخطأ سهوا بذكر نينوى"، تقول لموقع "الحرة" الدكتورة سرى ياسين، مديرة شعبة الوقاية والكشف المبكر في مجلس السرطان التابع للوزارة.

 "كان يقصد محافظة النجف، التي سجلت أعلى الإصابات في التقرير السنوي للتسجيل السرطاني لعام 2022".

سجلت محافظة نينوى 3058 حالة جديدة بمرض السرطان، وفقا للتقرير السنوي للتسجيل السرطاني لعام 2023.

سرطان الثدي كان الأكثر شيوعا بين النساء بـ 644 حالة. وكان سرطان الرئة الأكثر انتشارا بين الرجال بـ 160 حالة.

على المستوى الوطني، رصد التقرير 43062 حالة جديدة. أي 171.6 حالة لكل مئة ألف من عدد السكان البالغ حاليا 45.5 مليون نسمة.

في 2022، كان هناك 39068 أصابة جديدة وفق التقرير. أي 158.9 لكل مئة ألف من السكان. هذا يعني أن معدل الإصابات في تزايد.

"الزيادة في أعداد مرضى السرطان من عام إلى عام في العراق ليست أعلى من معدل الزيادة العالمي،" تقول سرى ياسين.

"إذا قارنا هذه المعدلات بالمتوقع العالمي، وهو 196.8 لكل مئة ألف من السكان، حسب الوكالة الدولية لبحوث السرطان، نحن ما نزلنا لم نتجاوز الخطوط الحمراء".

مرضى في مستشفى الأمراض السرطانية في الموصل. الصورة لموقع "الحرة"

أسباب الزيادة

التدخين، النظام الغذائي غير الصحي، تلوث الهواء الناجم عن تقلص المساحات الخضراء بسبب التوسع العمراني، إضافة إلى المواد الكيميائية في الأسلحة المستخدمة في العمليات العسكرية؛ من أسباب زيادة الإصابات، وفق مخرجات دراسة أجرتها جامعة كربلاء في 2024.

ويعزو تقرير أنجزته دائرة البحوث والدراسات النيابية في 2023 أسباب الزيادة إلى عاملين:

1 - التلوث الإشعاعي الناجم عن ذخائر اليورانيوم المنضّب التي استُخدمت في حربي 1990 و2003.

2 - تدني الخدمات الصحية، وعدم وجود منهجية في التحري والتشخيص المبكر للسرطان على الصعيد الوطني، باستثناء مستشفيات محددة ضمن بعض المحافظات. ينضاف إلى ذلك قلة الأدوية والكوادر الطبية والأجهزة المتخصصة.

تقول عضوة لجنة الصحة والبيئة النيابية وفاء الشمري، إن ارتفاع نسبة الإصابة بالأمراض السرطانية في جميع محافظات العراق، مرتبط بالمصادر المشعة، من حرب الخليج 1990.

"وهي لا تزال موجودة حتى يومنا هذا،" تضيف.

في المقابل، تقول سرى ياسين إن المصادر المشعة، التي مضى على استخدامها 25 عاما، لا يمكن أن تكون السبب الرئيس للإصابة بالسرطان.

واقع صحي متدهور

جانب من مستشفى الأمراض السرطانية في الموصل. الصورة لموقع "الحرة"

عرقلت الاضطرابات والحروب، على مدى عقود في العراق، مشاريع إنشاء مستشفيات جديدة، وأضعفت المؤسسات الصحية بشكل عام، لكن منظومة رعاية المصابين بالسرطان، كانت الأكثر تضررا.

في موازنة عام 2023، خصصت الحكومة مبلغ 4 مليارات دينار عراقي (أكثر من 3 ملايين دولار أميركي) لمعالجة مرضى السرطان وغسيل الكلى، بعد تظاهرات لمرضى وأطباء مختصين، طالبوا بتوفير العلاج وحل مشكلة عدم انتظام التجهيز لأسباب مرتبطة بالأزمات المالية.

"البنى التحتية في المستشفيات متهالكة جدا،" تقول وفاء الشمري.

"موضوع الصحة بصورة عامة يحتاج من 5 إلى 10 سنوات لوضع قاعدة جيدة لبناء مستشفيات، لتجهيزها ورفدها بالكوادر المتطورة. التخصيصات المالية هذه الفترة قليلة جدا ولا تفي بالغرض"، تضيف.

وتقول، سرى ياسين، المسؤولة في وزارة الصحة إن إصلاح المنظومة الصحية في العراق يحتاج إلى وقت. 

"لا نملك عصى سحرية".

وتضيف: "هناك خطة استراتيجية مدروسة أطلقتها الوزارة عام 2023، وماضون في تنفيذها حتى نهاية 2025".

"وفعلا افتتحنا 4 مراكز صحية جديدة، و24 معجل خطي جديد، و19 عقد لزيادة تغطية الأدوية لمرضى السرطان من 48% إلى 74%، هذا يعني رقم قياسي".

ظروف العلاج

مستشفى الأمراض السرطانية في الموصل. الصورة لموقع "الحرة"

بعد ثلاثة أشهر من تشخيص إصابتها بمرض السرطان، قطعت سارة نحو 800 كيلومترا، في رحلة استغرقت أكثر من ثماني ساعات بالسيارة، من مسقط رأسها، الموصل في نينوى شمالي العراق، إلى قضاء الميمونة في محافظة ميسان جنوبا.

تقول إن الناس في مدن الجنوب يساعدون المرضى القادمين من المحافظات الأخرى للعلاج.

"استقبلنا هناك الحاج عادل، مواطن يساعد مرضى السرطان. استأجر لنا بيتا هناك على نفقته الخاصة، والعلاج الإشعاعي كان مجانا".

عدم وجود مراكز علاج إشعاعي للسرطان في محافظة نينوى، أجبر الميسورين من مواطنيها على السفر خارج العراق لتلقي العلاج. لكن ليس أمام محدودي الدخل، مثل سارة، سوى تكبد عناء السفر إلى محافظات أخرى، مثل ميسان وكربلاء.

اكتشفت أم أحمد، وهي معلمة تبلغ من العمر 52 عاما، إصابتها بسرطان الثدي في أغسطس الماضي. هي لا تزال في مرحلة العلاج الكيميائي، لكنها ستضطر في أبريل المقبل إلى الخروج في رحلة لمسافة 6 ساعات من الموصل إلى كربلاء للعلاج.

"المفروض أن تكون هذه الأجهزة متوفرة عندنا، لا أن نسافر إلى محافظات أخرى. هذا متعب ومكلف أيضا"، تقول.

نينوى ثاني أكبر محافظة في العراق. "هل هذا معقول؟"، تسأل أم أحمد بحرقة.

ويطالب بلال ـ ابنه مصاب بورم في الجيوب الأنفية ـ الحكومة بتوفير أجهزة العلاج الإشعاعي وأجهزة التصوير المقطعي (Pet Scan) في الموصل، وتوفير الأدوية بأسعار معقولة.

رحلة بلال وولده ستكون أطول، وربما أقسى، إذ سيضطر إلى السفر مسافة تقترب من 1000كيلومتر، إلى محافظة البصرة، في أقصى جنوب العراق.

"لازم نروح للبصرة، هناك ضغط كبير في كربلاء، 3 جرعات هذا الشهر، والشهر المقبل أيضا، وبعدها Pet Scan، وهذا تكلفته كبيرة، تقريبا 700 دولار".

قبل احتلال تنظيم داعش للموصل في 2014، كان في نينوى 3 مراكز لعلاج السرطان. 

أدت حرب التحرير بين عامي 2016-2017 إلى تدمير أجزاء واسعة من الموصل،  ضمنها مراكز علاج السرطان والمؤسسات الصحية بشكل عام.

ومع تأخر إعادة الإعمار، فتح مستشفى الأورام والطب النووي أبوابه في موقع بديل بإمكانات محدودة.

يقول مدير المستشفى، عبد القادر سالم، إن "القدرة الاستيعابية للمستشفى حاليا هي 50 سريرا، بنسبة إشغال تصل إلى 300 في المئة".

يوفر المستشفى العلاجات الأساسية، والعلاج الكيميائي بنسبة 100 في المئة، "لكنه يفتقر إلى العلاج الإشعاعي،" يقول.

يجري العمل على إنشاء مستشفى متخصص بسعة 100 سرير. تنتظر المحافظة افتتاحه في نيسان المقبل.

"كان يفترض إنجازه قبل عامين،" يضيف سالم.

"ادفع"

"ادفع" تقول اللافة البيضاء الصغيرة داخل مستشفى الأورام في الموصل. الصورة لموقع "الحرة"

"توفر وزارة الصحة العراقية العلاج الإشعاعي في 12 محافظة من أصل 19"، بحسب، سرى ياسين، و"هناك 26 معجل خطي للعلاج الإشعاعي في تلك المحافظات".

ويحتاج من 70 إلى 80% من مرضى السرطان بصورة عامة للعلاج الإشعاعي، وفق رائد الحديدي، طبيب اختصاص أورام وأشعة علاجية في مستشفى الأورام في نينوى.

 لهذا "نضطر إلى تحويل المرضى إلى محافظات بعيدة، ويحاول زملاؤنا الأطباء في بغداد وباقي المحافظات قدر الإمكان تسهيل أمور المرضى المبتعثين من مدينة الموصل".

تضطر أسرة سارة إلى شراء الأدوية لأنها غير متوفرة في المستشفى.

تقول عمتها التي ترافقها في سفرات العلاج إن أسعار الأدوية متفاوتة بين 150 و100 ألف دينار (70-100 دولار). 

"بعنا سيارة العائلة لدفع نفقات الأدوية والتنقل والإقامة حتى تحصل على العلاج الإشعاعي"، تقول العمة.

ويوضح الحديدي أن فترة العلاج "قد تطول من أسبوعين إلى شهر، والمريض يكون بعيدا عن أهله، إضافة إلى التكلفة المادية".

ويبدو أن المشكلة تكمن في صعوبة توفير أدوية منخفضة التكلفة، إذ تطلب الشركة العامة لتسويق الأدوية والمستلزمات الطبية (كيميديا) مبالغ طائلة للتأمين على أدوية تدر أرباحا قليلة، وفق سرى ياسين.

"وزارة الصحة عالجت هذه المشكلة بتخصيص ميزانيات لمراكز علاج الأورام لشراء الأدوية مباشرة دون إبرام عقود عن طريق كيماديا"، تضيف.

أجبر تنظيم داعش سارة ونظيراتها على ترك الدراسة عندما سيطر على الموصل عام 2014. اليوم، بعدها نحو 7 سنوات على تحرير المدينة، يجبرها السرطان على ترك الدراسة مرة أخرى. 

مع ذلك، لم تفقد الأمل بالعودة مرة أخرى إلى مقاعد الدراسة، رغم طول المسافة التي تقطعها من منزلها في الشمال إلى مراكز العلاج الإشعاعي في أقاصي الجنوب.

أريج البكارحامد الزبيدي ـ الموصل(تحرير: كريم كاظم)

وجوه وقضايا

الجانب المظلم من حقيقة الذكاء الاصطناعي

ضياء عُطي
21 مارس 2025

لتقنيات الذكاء الاصطناعي أثر إيجابي على كثير من مجالات حياتنا اليومية، لكن ما قد يخفى عن كثيرين هو تأثيراتها الضارة على الحياة بشكل عام: الحياة على هذا الكوكب.

استهلاك شركة مايكروسوفت من الكهرباء في عام 2023، على سبيل المثال، تجاوز 24 تيراواط، أي أكثر من استهلاك بلد مثل الأردن، أو حتى السعودية.

ويزيد الاستخدام المفرط للطاقة غير النظيفة لإنتاج الكهرباء من تداعيات الانبعاثات الضارة على البيئة. 

إلى جانب الكهرباء، يستخدم قطاع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي كميات هائلة من المياه لتبريد الأجهزة المعالجة للخوارزميات المعقدة.

الجبهة الأمامية

مراكز البيانات هي الجبهة الأمامية في الصراع نحو تصدر مجال الذكاء الاصطناعي.

هذه المراكز ليست حديثة العهد، فقد أُسس أول مركز معني بالبيانات في جامعة بنسلفانيا الأميركية عام 1945 لدعم ما عُرف حينها كأول كمبيوتر رقمي متعدد الأغراض، "ENIAC" اختصارا.  

هذه المراكز هي العمود الفقري للحوسبة الحديثة المعنية بتخزين كميات ضخمة من البيانات ومعالجتها.

تلك البيانات تكفل استمرار تشغيل كافة المواقع العاملة عبر شبكة الإنترنت، ما يسهل عمل الهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب.

لكن ظهور الذكاء الاصطناعي، التوليدي منه تحديدا، مثل خدمات "تشات جي.بي.تي" و"جيميناي" مثلا، غيّر "دراماتيكيا" في عمل مراكز البيانات، وفقا لمقال نشره معهد ماساتشوستس للتقنية "أم آي تي". 

واليوم، تتكون تلك المراكز من بنايات صناعية كبيرة، في داخلها مجموعة من الأجهزة الإلكترونية الضخمة.

داخل تلك البنايات هناك أجهزة تخزين البيانات الرقمية وخوادم الاتصالات والحوسبة السحابية، التي تمكن من تخزين ومعالجة البيانات.

بين عامي 2022 و 2023 ارتفعت متطلبات مراكز البيانات من الطاقة، في أميركا الشمالية، من 2,688 ميغاواط إلى 5,341 ميغاواط، وفق تقديرات علماء.

جزء من هذا الارتفاع مرتبط بالاحتياجات التي فرضها الذكاء الاصطناعي التوليدي، وفق "أم آي تي".

عالميا، بلغ استهلاك مراكز البيانات من الطاقة، في عام 2022، 460 تيراواط.

وتحتل مراكز البيانات المرتبة 11 بين الأكثر استهلاكا للكهرباء سنويا حول العالم، وهي مرتبة وسط بين فرنسا (463 تيراواط) والسعودية (371 تيراواط)، وفقا منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

وبحلول 2026، تشير "أم آي تي"، إلى أن استهلاك مراكز البيانات للكهرباء قد يصل إلى 1,050 تيراواط، ما قد يرفعها إلى المرتبة الخامسة، بين اليابان وروسيا.

الذكاء الاصطناعي التوليدي وحده ليس العامل الوحيد، يوضح المعهد التقني، لكنه "دافع أساسي" باتجاه زيادة الطلب على الطاقة والمياه. 

تستخدم تلك المراكز كميات ضخمة من الطاقة الكهربائية، وتكون لديها مصادر طاقة بديلة عند انقطاع التزويد أو في حالات الطوارئ، ما يمكّنها من الاستمرار في العمل.

لكن توفير الطاقة الكافية لتشغيل تلك المراكز أصبح تحديا في ظل ارتفاع الطلب العالمي على الطاقة.

الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قدّم خطة لتطوير الطاقة النووية في الولايات المتحدة تحظى بدعم لافت من جمهوريين وديمقراطيين على حد السواء، وقد تشكل الحل الأكثر رفقا بالبيئة.

البروفسور آناند راو من جامعة كارنيغي ميلون أوضح لموقع "الحرة" أنه بالإضافة إلى الاستخدام المكثف للطاقة الكهربائية، ظهرت معضلة جديدة أمام تلك المراكز.

الأجهزة الإلكترونية الضخمة التي تستهلك كميات كبيرة من الطاقة ترتفع حرارتها إلى درجات عالية جدا، ما يؤثر على قدرتها، وقد يؤدي حتى إلى تلفها.

قد يبدو ذلك غريبا لأول وهلة، ولكن على عكس حاسوبك الصغير الذي يستعمل مروحة أو اثنتين لتبريد رقاقاته الإلكترونية، تستخدم أجهزة مراكز البيانات الماء للتبريد.

تدخل آلاف الغالونات من الماء إلى مبادل حراري يشغل شبكة ضخمة ومتشعبة من الأنابيب والمبردات تمتد إلى كافة الأجهزة الكهربائية والإلكترونية، دون أن يلامس الماء، طبعا، أيا من الدارات الكهربائية.

ومثلما هو الحال بالنسبة للكهرباء، يضع استهلاك تلك الكميات الكبيرة من الماء ضغطا كبيرا على الموارد المحلية للمنطقة حيث تكون مركز البيانات.

بات من الواضح أن استدامة عمل تلك المراكز أصبحت مرتبطة بتأمين موارد كبيرة من الكهرباء والماء.

لكنّ هناك حلولا أخرى، بحسب البروفيسور راو، مثل استخدام النيتروجين للتبريد عوضا عن الماء.

رغم أن النيتروجين متوفر بكميات كبيرة، إذ يمثل نحو 78 في المئة من الهواء في الغلاف الجوي للأرض، فإن استخدامه للتبريد مكلف كثيرا، ما يجعل الماء خيارا اقتصاديا أفضل.

حلول مبتكرة تعيقها "الهلوسة"

عوضا عن بذل جهد كبير في محاولة تبريد الأجهزة الإلكترونية، لماذا لا يتم استخدام أجهزة تطلق حرارة أقل، ما يعني بالضرورة أنها تستهلك كمية أقل من الطاقة؟

قد يخيل إليك أن هذه فكرة مثالية بعيدة عن الواقع، ولكن، مرة أخرى، يتحول الخيال إلى حقيقة.

تجري منذ مدة أبحاث تهدف لتطوير ما اصطلح على تسميته بحواسيب الكوانتوم التي تُعرف أيضاً باسم الحواسيب الكمومية.

اعتماد هذا النوع من الحواسيب على "فيزياء الكم" جعلها قادرة على القيام بعدد ضخم من الحسابات في وقت قصير ما جعلها تستخدم كمية طاقة أقل.

البيانات المعروفة بالإنكليزية بكلمة "بايت" وتعتمد نظام الرياضيات الثنائي المكون من رقمين هما 0 و1، وهو النظام المستخدم في الحواسيب.

لكن حواسيب الكم تعتمد على "الكيوبتات"، التي بإمكانها أن أن تكون في حالتي 0 و1 في نفس الوقت، وهو ما يعرف باسم التراكب الكمومي.

مكنت تلك الخاصية الفريدة هذه الحواسيب من إظهار قدرة كبيرة على فك المعادلات المعقدة وتقديم أجوبة متطورة على أسئلة مركبة، عبر معالجة العديد من المعادلات والمسائل في نفس الوقت.

وبالطبع، استخدمت حواسيب الكم في تطوير النماذج اللغوية للذكاء الاصطناعي، لكن الأجوبة التي قدمتها كانت "غير مستقرة".

وتعبير "غير مستقرة" يعبر عنها أحياناً بـ "الهلوسة"، حسب ما أوضح لموقع "الحرة"، كل من سام رزنيك، الباحث في معهد الأمن والتكنولوجيا الناشئة في جامعة جورج تاون الأميركية، والبروفيسور راو.

هذه "الهلوسة" البرمجية تتمثل في تقديم نموذج الذكاء الاصطناعي إجابات خاطئة وغير منطقية أو مخالفة للواقع أو عبثية لا معنى لها.

مجتمع الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي يسعى لتحسين قدرات حواسيب الكم، للاستفادة من قدراتها الفريدة خصوصا من ناحية الوصول إلى نفس النتائج لكن بجهد أقل ووقت أقصر.

سباق العمالقة

ويتوالى سباق السيطرة على هذه التكنولوجيا التي فتحت أبواب الأرباح المالية الضخمة والسيطرة السياسية وحتى العسكرية، وسط مخاوف من تهديدها حرية التفكير والتعبير.

خلال الأسابيع القليلة الماضية شهدت تطبيقات الذكاء الاصطناعي نموا صاروخيا وحققت أرقاما فلكية.

ارتفع عدد مستخدمي "تشات جي.بي.تي" نهاية فبراير بنسبة 33 في المئة مقارنة بنفس العدد في ديسمبر الماضي ليصل إلى 400 مليون مستخدم أسبوعيا.

ومن أهم مستخدمي "تشات جي.بي.تي" نجد بنك "مورغان ستانلي" الاستثماري وشركات كبرى مثل "تي موبايل" و"مودرنا" و"أوبر".

أما نموذج "ديب سيك" الصيني، فارتفع عدد مستخدميه 12 مرة خلال شهر يناير الماضي، ليصل الآن إلى معدل 700 ألف مستخدم أسبوعيا.

والتحقت شركة "أكس.أيه.آي" بالركب، ومنذ طرحها نموذج "غروك 3" ارتفع عدد مستخدميه من 4.3 مليون إلى 31.5 مليون مستخدم يوميا، وذلك خلال 3 أسابيع فقط.

وزعمت الشركة المنتجة لنموذج "ديب سيك" الصيني أنه يقدم خدمة أقل كلفة ومماثلة لنظيره الأميركي "تشات جي.بي.تي" من شركة "أوبن أيه آي".

سرعان ما خرج نموذج أميركي آخر بعد أقل من شهر، يسمى "غروك 3"، ليقدم قدرات أكبر.

شركة "أكس أيه آي"، التي أسسها إيلون ماسك عام 2023، تقول إن نموذج "غروك 3" هو الأفضل حتى الآن.

ظهور "ديب سيك" شكل صدمة ليس للباحثين المختصين بل للأسواق العالمية وحتى السياسة الدولية.

"ديب سيك" اعتمد تقنية تسمى استخلاص النماذج، يقول رزنيك في حديثه لموقع "الحرة".

تعتمد هذه التقنية على طرح آلاف من الأسئلة على نموذج "تشات جي.بي.تي"، لفهم طريقة تحليله للمعلومات.

أي لفهم طريقة تفكيره، والتعلم منها عبر التدرب على ذلك النموذج.

وبناء على ذلك قام الباحثون الصينيون ببناء نموذج "ديب سيك"، باستخدام الأجوبة المقدمة من "تشات جي.بي.تي".

ومع ارتفاع عدد مستخدمي الذكاء الاصطناعي تتزايد الحاجة إلى مزيد من مراكز البيانات، ما يعني، في المحصلة، استهلاكا أكبر للكهرباء والمياه، وما يصحب ذلك من تآكل لإمكانيات استمرار الحياة على كوكب الأرض.

مفاجآت بالجملة

الباحثان اللذان تحدثنا إليهما يخالفان الاعتقاد السائد بأن الصينيين لا يملكون  قدرات حاسوبية كبيرة نظرا لتأخرهم في مجال الرقائق الإلكترونية.

فمنظومة "ديب سيك" أصبحت تستخدم عددا كبيرا من الرقائق المصنعة من طرف شركة هواوي الصينية.

يكشف رزنيك لنا سرا آخر من خبايا الصراع الخفي للسيطرة على شعلة القيادة في مجال الذكاء الاصطناعي.

نموذج "ديب سيك" يعتمد على قدرات حاسوبية كبيرة، لكن السر يكمن في طبيعة الرقاقات الإلكترونية.

هناك نوعان رئيسيان من الرقاقات الإلكترونية المعتمدة في نماذج الذكاء الاصطناعي.

الرقائق المتقدمة مثل تلك المنتجة من شركة "إنفيديا"، ومقرها ولاية كاليفورنيا الأميركية، تعرف باسم رقائق "جي.بي.يو"، وتستخدم للعمليات المعقدة مثل تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي.

كلمة "جي.بي.يو" هي الاختصار الإنكليزي لمصطلح "graphic processing unit" أو (GPU) اختصارا، وتعني "وحدات معالجة الصور".

مكنت قدرات تلك الرقائق شركة "إنفيديا" من الوصول إلى قيمة سوقية تعادل نحو 3 ترليون دولار.

رقائق "جي.بي.يو" لم تكن في الأصل معدة للاستخدام في مجال الذكاء الاصطناعي.

"إنفيديا" عملت منذ تأسيسها عام 1993، في مجال الألعاب الإلكترونية أو ألعاب الفيديو، وأرادت الحصول على صور ذات نوعية جيدة، تضفي طابعا أكثر واقعية على ألعاب الفيديو.

في ذلك الوقت كانت شركات التكنولوجيا مثل "إنتل" الأميركية تعمل على إنتاج رقائق حواسيب تعرف باسم "سي بي يو"، وهو الاختصار الإنكليزي لكلمة "سنترال بروسيسنغ يونت"، أو "وحدات المعالجة المركزية".

الرقائق الإلكترونية لوحدات المعالجة المركزية هي الأساس للحواسيب لذلك فهي أكثر انتشارا، لكن طريقة عملها تجعلها أقل تقدما في مجال الحسابات المعقدة.

من خلال التجارب الأولى للنماذج الحديثة للذكاء الاصطناعي، تبين أن وحدات معالجة الصور المنتجة من شركة "إنفيديا"، هي الأفضل بسبب قدرتها على إجراء العمليات الحسابية المعقدة، مع حجم معالجة أكبر.

تحولت "إنفيديا" من شركة تعمل في مجال ألعاب الفيديو إلى المزود الرئيسي للشركات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي.

منذ أعوام تشهد الولايات المتحدة والصين نزاعا بشأن الرقاقات المستخدمة في الذكاء الاصطناعي

المفارقة أن التحول المفاجئ كان سبباً في قوة الصدمة الناجمة عن نجاح نموذج "ديب سيك".

القدرة على تقديم نموذج يستخدم قدرات حاسوبية أقل تقدماً وضع مستقبل شركة "إنفيديا" في مرمى الشك وأثر على التداولات في الأسواق.

وأصبحت رقاقات "إنفيديا" طلبا أساسيا لدى كبرى شركات التقنية مثل "أمازون" و"غوغل" و"ميتا" و"مايكروسوفت" وغيرها.

لكن الاهتمام بذلك الحدث تجاوز عالم المال والأعمال.

ضياء عُطي