تقارير رسمية سودانية ومصرية أشارت إلى عودة مئات السودانيين من مصر.
تقارير رسمية سودانية ومصرية تحدثت عن عودة مئات السودانيين من مصر.

في يوم الجمعة من كل أسبوع، وفي حي الكلاكلة القبة بالخرطوم، عاصمة السودان، اعتادت الشقيقتان، نعمات وميادة عثمان، الالتقاء بصحبة عائلتيهما (زوجيهما وأبنائهما الست)، لممارسة طقوسهما المحببة، طهي الإيدام (البطاطس باللحم على الطريقة السودانية)، ثم التحلية بمديدة التمر (دقيق-حليب- سكر ومكونات أخرى)، وأخيرا الشاي.

منذ صغرهما، تعاهدت الشقيقتان، على ألا يفرقهما شيء في الحياة، لكن كان للقدر أو بالأحرى للحرب رأي آخر.

تقول التوأم: "تواعدنا أن يكون مصيرنا واحدا وألا يفرقنا شيء في الحياة".

حاولت الشقيقتان التمسك بعهدهما هذا حتى مع اندلاع الحرب في السودان ووصول الضربات إلى العديد من المناطق السكنية في الخرطوم وغيرها من المدن، وقررتا اللجوء إلى مصر طلبا للأمان، لكنهما واجهتا صعوبات مختلفة أجبرتهما على الافتراق للمرة الأولى في حياتهما.

قررت إحداهما (ميادة) العودة إلى الخرطوم، في ديسمبر الماضي، مثل آلاف السودانيين، رغم عدم إعلان انتهاء الحرب رسميا، واستمرار المخاطر الأمنية، والتردي الاقتصادي، ونقص الخدمات الصحية.

أدى اندلاع الحرب في السودان بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع، شبه العسكرية، بقيادة محمد حمدان دقلو، المعروف بـ"حميدتي"، منذ أبريل 2023، إلى نزوح أكثر من 11 مليونا داخليا، بينما لجأ 3,1 ملايين إلى الدول المجاورة، وعلى رأسها مصر، وفق الأمم المتحدة.

ومؤخرا، أشارت تقارير رسمية سودانية ومصرية إلى عودة مئات السودانيين من مصر، في أعقاب العملية العسكرية التي بدأها الجيش اعتبارًا من 26 سبتمبر الماضي، واستعاد خلالها مواقع عديدة في أم درمان والخرطوم وولاية سنار.

وأرجع عدد من النشطاء والمتخصصين في حديثهم لموقع "الحرة" سبب هذه العودة إلى الصعوبة التي يواجهها السودانيون في مصر نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية وارتفاع الأسعار، وكذلك بسبب بعض العداء وحملات التحريض الشعبية ضد اللاجئين في مصر، والتي يظهر صداها في بعض المواقع الإعلامية وعلى منصات التواصل الاجتماعي، رغم تأكيد وزير الخارجية المصري، بدر عبد العاطي، في يوليو الماضي، رفض أيِ تحريض ضد السودانيين في بلاده، ونوه إلى أنهم ضيوف مصر.

وتقدر مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أعداد السودانيين المسجلين رسميا لديها والذين تستضيفهم مصر بأكثر من نصف مليون شخص، بينما تشير البيانات الأخيرة الصادرة عن الحكومة المصرية إلى أن أكثر من 1,2 مليون سوداني سعوا للحصول على الحماية الدولية في مصر.

معاناة تقنين الأوضاع

"لم أكن أتوقع أن أترك أختي في بلد ثاني، لكن الحقيقة الأوضاع في مصر سيئة بالنسبة للسودانيين بشكل أكبر مما تخيلته بكثير"، هكذا بدأت ميادة الحديث عن تجربتها في مصر لموقع "الحرة"، مضيفة "مع بداية الحرب في الخرطوم، خفت أنا وأختي على أولادنا، فقررنا اللجوء إلى مصر، على أن يحصلنا زوجينا في غضون أسابيع".

عادت ميادة بذكرياتها إلى تفاصيل رحلتها مع شقيقتها إلى مصر، قائلة "قطعنا طريقا طويلا وشاقا للوصول إلى الحدود، وعبرنا بطريقة غير نظامية، في يوليو 2023، وقضينا أسبوعا بأكمله في الصحراء، حتى وصلنا إلى المعبر، ودفع كل شخص مننا نحو 500 ألف جنيه سوداني (830 دولارا) للسفر في شاحنة صغيرة مع آخرين".

وأضافت "عندما وصلنا بصعوبة إلى معبر اشكيت البري بوادي حلفا على الحدود بين مصر والسودان، تخيلت أننا وصلنا بر الأمان، لكن الحقيقة كانت عكس ذلك، فما واجهناه داخل القاهرة كان أصعب بكثير".

وتطرقت ميادة إلي مشكلة التوثيق بمفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة للتسجيل كطالبي لجوء والحصول على البطاقة الصفراء (بطاقة طالبي اللجوء)، قائلة إنه فور وصولهم إلى مصر في نهاية يوليو 2023، توجهوا جميعا إلى المفوضية، وتمكنت شقيقتها نعمات واثنان من أبنائها فقط من التسجيل في فبراير 2024، بينما حصل الباقون على مواعيد متفاوتة بعد عدة أشهر.

ظلوا ينتظرون بقلق بالغ موعد تسجيلهم كطالبي لجوء، وفي أغسطس الماضي، بعد قرار رسمي مصري، أمهل الأجانب والمقيمين في البلاد بشكل غير شرعي مهلة حتى سبتمبر 2024 لتسوية أوضاعهم. خلال هذه الفترة، واجهوا صعوبات في إيجاد عمل أو إلحاق أبنائهم بالمدارس أو إجراء أي تعاملات حكومية أو بنكية، وفقا لما ترويه ميادة.

تقول الناشطة السودانية في مصر وداد أحمد، في حديث لموقع "الحرة"، إن القاهرة أعفت في بداية الحرب النساء والأطفال والرجال السودانيين فوق سن الخمسين من متطلبات الحصول على تأشيرة. لكن بعد شهر من اندلاع النزاع، فرضت الحكومة المصرية الحصول على تأشيرة دخول لجميع السودانيين، ما دفع الكثير منهم إلى اللجوء إلى "معابر غير شرعية".

وتضيف: "في سبتمبر 2024، شددت مصر متطلبات الدخول، وألزمت الأشخاص الوافدين من السودان بالحصول على "موافقة أمنية مسبقة" إلى جانب تأشيرة قنصلية، وفق وزارة الداخلية المصرية".

ويلزم قرار تقنين الأوضاع أي أجنبي يقيم في مصر بشكل غير شرعي، بإيجاد مستضيف مصري وتسديد مصروفات تقدر بألف دولار، وهي الإجراءات التي يراها كثيرون "مكلفة ومعقدة"، على حد تعبيرها.

وأوضحت الناشطة السودانية أن "الحكومة المصرية ألزمت جميع السودانيين بالحصول على تأشيرة من أجل دخول البلاد، وقالت حينها إنها فرضت هذا الإجراء بعد رصد أنشطة غير مشروعة، منها إصدار تأشيرات مزورة".

أما عن المسار الذي يسلكه السودانيين فور وصولهم مصر، فقالت إنهم يتوجهون إلى المفوضية للحصول على بطاقة طالبي اللجوء، التي تعد بمثابة وثيقة قانونية للشخص، إذ توفر لهم حماية تمنع من إعادتهم قسريا للبلدان التي فروا منها، بحسب القانون الدولي، ويحصلون بموجبها على العديد من الخدمات، أبرزها الخدمات الصحية.

وأضافت أنه بعد الحصول على البطاقة الصفراء، يحصل طالبو اللجوء على موعد في إدارة الجوازات والهجرة المصرية، للتقدم بطلب إقامة رسمي في البلاد، لكن بسبب الضغط الهائل من آلاف المتقدمين، زادت مدة الانتظار للحصول على هذا الموعد لأكثر من سنة.

في المقابل، تقول مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إنها ضاعفت من قدراتها لاستيعاب أعداد طالبي اللجوء التي تتزايد يوميا.

وتقول مسؤولة التواصل بالمفوضية، كريستين بشاي، إن "عدد طالبي اللجوء المسجلة قبل بدء الحرب في السودان كان نحو 294 ألف شخص، أما اليوم فيبلغ هذا العدد 731 ألف شخص، وهو يزداد بشكل يومي، ويمثل السودانيون 61٪ من نسبة طالبي اللجوء المسجلة لدى المفوضية".

غلاء ورفض وعداء

وتتحدث ميادة عن صعوبة الأوضاع المعيشية في مصر بسبب ارتفاع الأسعار، خاصة الإيجارات، فكان من الصعب على زوجها تلبية احتياجات الأسرة بسبب تدني الأجور، ولذلك اضطروا للعيش في شقة من 3 غرف مع شقيقتها وأبنائها وزوجها، أي كان عددهم 10 أفراد في الشقة، ما تسبب في خلاف مع المالك الذي قرر رفع الإيجار بأكثر من الضعف.

"حين قررنا المجيء إلى مصر كنا نأمل أن نبدأ حياة جديدة لأن الحياة في الخرطوم انتهت، وكنتُ أفضل تسوية الوضع القانوني لنا حتى نتمكن من الحركة بأريحية، لكن المبلغ المطلوب كبير بالنسبة لشخص قادم من وسط الحرب، ألف دولار للشخص ونحن خمسة أشخاص.. هذا مبلغ كبير، لا نملكه"، تتحسر ميادة.

في حديثها، تتطرق ميادة إلى أزمة أخرى يعاني منها أغلب السودانيين في مصر، وهي صعوبة إلحاق أبناهم بالمدارس بسبب غلاء المصروفات للمدارس الخاصة والدولية، وعدم استقبال المدارس الحكومية لأطفالهم بسبب زيادة الكثافة داخل الفصول.

وفي هذا الصدد، تقول الناشطة السودانية في مصر أمينة عباس لموقع "الحرة"، إنها "شخصيا تعرف الكثير من الأسر التي قررت العودة للسودان خصيصا بسبب عدم قدرتها إلحاق أبنائها بالمدارس في مصر، خاصة بعد الحملات الحكومية لإغلاق المدارس السودانية في مصر بسبب تدريس خريطة تفيد بأن حلايب وشلاتين سودانية، وليست مصرية".

ففي يونيو 2024، أغلقت السلطات المصرية عدداً من المدارس السودانية حتى "توفر الاشتراطات القانونية لممارسة النشاط التعليمي"، حسب بيان الحكومة.

أما عن الواقعة التي دفعتها للعودة إلى السودان رغم عدم استقرار الأوضاع هناك، فتقول ميادة إن "ابنتها ذات الاثنا عشر عاما تعرضت للتحرش الجسدي واللفظي على يد مجموعة من الأشخاص في المنطقة التي يعيشون بها في حي الهرم بمحافظة الجيزة، وعندما توجهت للشرطة للإبلاغ، لم يتم اتخاذ الإجراءات اللازمة، بل وتم الاستهزاء بنا، وبعدها أُغلق المحضر بدون أي استدعاء للمتهمين".

وتضيف "وقتها قررت الرحيل إلى بلدي، فنحن لا يتم التعامل معنا على أننا بشر".

ويقول المحامي الحقوقي المصري كامل عبده لموقع "الحرة" إنه "للأسف في الآونة الأخيرة، "تعالت الأصوات السياسية والإعلامية المناهضة للاجئين في مصر، بل وتم ربط التدهور الاقتصادي بوجودهم، وأدت هذه الحملات إلى زيادة العنصرية والتضييق على الأجانب، خاصة السودانيين باعتبارهم الجالية الأكبر حاليا في مصر، سواء من قبل الشعب أو بعض سلطات إنفاذ القانون".

ويضيف: "هذه الحملات هدفها تشتيت الانتباه عن المشاكل السياسية والاقتصادية في مصر، وتحميلها لأطراف بعيدة وخارجية، مثل الأجانب واللاجئين".

العودة أسهل.. لكنها أخطر

وتحدثت ميادة عن رحلة عودتها إلى الخرطوم، قائلة إنها كانت أسهل من القدوم إلى مصر ولم تستغرق وقتا طويلًا، فقد انتقلت بالقطار من القاهرة إلى أسوان، ومن هناك إلى مدينة أبو سمبل، حيث تتواجد عشرات الحافلات التي تسهل عملية العودة والتي تتحرك يوميًا لنقل الركاب.

في المقابل، حذرت الناشطة السودانية في مصر أمينة عباس، في تصريح لموقع "الحرة"، من "خطورة تسرع بعض السودانيين في قرار العودة إلى السودان، خاصة بسبب الأوضاع الاقتصادية والتضييق الأمني تجاههم في مصر"، موضحة أنه لا توجد أرقام رسمية مؤكدة لإجمالي من رحلوا، خاصة أن منهم من دخلوا مصر بدون وثائق رسمية، لكن الإحصاءات غير الرسمية تشير إلى أنه خلال الشهور الأربع الماضية تجاوز عدهم 300 ألف شخص.

وأكدت أن "عودة السودانيين في الفترة الحالية تحمل مخاطر أمنية وصحية ضخمة، في ظل عدم انتهاء الحرب بشكل تام، واستمرار تفشي الأمراض وانهيار البنية التحتية والوضع الاقتصادي".

"رغم الحرب والخوف، الأمر الوحيد الذي كان يشعرني بالاطمئنان هو أننا معا وسنعود أيضا معا، ولم أكن أتخيل أن هذا الطريق من الخرطوم للقاهرة ستعود عليه إحدانا بمفردها تاركة الأخرى"، هكذا تروي نعمات، شقيقة ميادة جانبها من القصة.

وتقول: "بعد أن أنفقنا كل مدخراتنا في القاهرة، فالآن أصبحنا أمام خيارين كلاهما مر، إما تحمل صعوبة الأوضاع في مصر أو العودة إلى خطر الحرب والموت في السودان".

وجوه وقضايا

الجانب المظلم من حقيقة الذكاء الاصطناعي

ضياء عُطي
21 مارس 2025

لتقنيات الذكاء الاصطناعي أثر إيجابي على كثير من مجالات حياتنا اليومية، لكن ما قد يخفى عن كثيرين هو تأثيراتها الضارة على الحياة بشكل عام: الحياة على هذا الكوكب.

استهلاك شركة مايكروسوفت من الكهرباء في عام 2023، على سبيل المثال، تجاوز 24 تيراواط، أي أكثر من استهلاك بلد مثل الأردن، أو حتى السعودية.

ويزيد الاستخدام المفرط للطاقة غير النظيفة لإنتاج الكهرباء من تداعيات الانبعاثات الضارة على البيئة. 

إلى جانب الكهرباء، يستخدم قطاع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي كميات هائلة من المياه لتبريد الأجهزة المعالجة للخوارزميات المعقدة.

الجبهة الأمامية

مراكز البيانات هي الجبهة الأمامية في الصراع نحو تصدر مجال الذكاء الاصطناعي.

هذه المراكز ليست حديثة العهد، فقد أُسس أول مركز معني بالبيانات في جامعة بنسلفانيا الأميركية عام 1945 لدعم ما عُرف حينها كأول كمبيوتر رقمي متعدد الأغراض، "ENIAC" اختصارا.  

هذه المراكز هي العمود الفقري للحوسبة الحديثة المعنية بتخزين كميات ضخمة من البيانات ومعالجتها.

تلك البيانات تكفل استمرار تشغيل كافة المواقع العاملة عبر شبكة الإنترنت، ما يسهل عمل الهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب.

لكن ظهور الذكاء الاصطناعي، التوليدي منه تحديدا، مثل خدمات "تشات جي.بي.تي" و"جيميناي" مثلا، غيّر "دراماتيكيا" في عمل مراكز البيانات، وفقا لمقال نشره معهد ماساتشوستس للتقنية "أم آي تي". 

واليوم، تتكون تلك المراكز من بنايات صناعية كبيرة، في داخلها مجموعة من الأجهزة الإلكترونية الضخمة.

داخل تلك البنايات هناك أجهزة تخزين البيانات الرقمية وخوادم الاتصالات والحوسبة السحابية، التي تمكن من تخزين ومعالجة البيانات.

بين عامي 2022 و 2023 ارتفعت متطلبات مراكز البيانات من الطاقة، في أميركا الشمالية، من 2,688 ميغاواط إلى 5,341 ميغاواط، وفق تقديرات علماء.

جزء من هذا الارتفاع مرتبط بالاحتياجات التي فرضها الذكاء الاصطناعي التوليدي، وفق "أم آي تي".

عالميا، بلغ استهلاك مراكز البيانات من الطاقة، في عام 2022، 460 تيراواط.

وتحتل مراكز البيانات المرتبة 11 بين الأكثر استهلاكا للكهرباء سنويا حول العالم، وهي مرتبة وسط بين فرنسا (463 تيراواط) والسعودية (371 تيراواط)، وفقا منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

وبحلول 2026، تشير "أم آي تي"، إلى أن استهلاك مراكز البيانات للكهرباء قد يصل إلى 1,050 تيراواط، ما قد يرفعها إلى المرتبة الخامسة، بين اليابان وروسيا.

الذكاء الاصطناعي التوليدي وحده ليس العامل الوحيد، يوضح المعهد التقني، لكنه "دافع أساسي" باتجاه زيادة الطلب على الطاقة والمياه. 

تستخدم تلك المراكز كميات ضخمة من الطاقة الكهربائية، وتكون لديها مصادر طاقة بديلة عند انقطاع التزويد أو في حالات الطوارئ، ما يمكّنها من الاستمرار في العمل.

لكن توفير الطاقة الكافية لتشغيل تلك المراكز أصبح تحديا في ظل ارتفاع الطلب العالمي على الطاقة.

الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قدّم خطة لتطوير الطاقة النووية في الولايات المتحدة تحظى بدعم لافت من جمهوريين وديمقراطيين على حد السواء، وقد تشكل الحل الأكثر رفقا بالبيئة.

البروفسور آناند راو من جامعة كارنيغي ميلون أوضح لموقع "الحرة" أنه بالإضافة إلى الاستخدام المكثف للطاقة الكهربائية، ظهرت معضلة جديدة أمام تلك المراكز.

الأجهزة الإلكترونية الضخمة التي تستهلك كميات كبيرة من الطاقة ترتفع حرارتها إلى درجات عالية جدا، ما يؤثر على قدرتها، وقد يؤدي حتى إلى تلفها.

قد يبدو ذلك غريبا لأول وهلة، ولكن على عكس حاسوبك الصغير الذي يستعمل مروحة أو اثنتين لتبريد رقاقاته الإلكترونية، تستخدم أجهزة مراكز البيانات الماء للتبريد.

تدخل آلاف الغالونات من الماء إلى مبادل حراري يشغل شبكة ضخمة ومتشعبة من الأنابيب والمبردات تمتد إلى كافة الأجهزة الكهربائية والإلكترونية، دون أن يلامس الماء، طبعا، أيا من الدارات الكهربائية.

ومثلما هو الحال بالنسبة للكهرباء، يضع استهلاك تلك الكميات الكبيرة من الماء ضغطا كبيرا على الموارد المحلية للمنطقة حيث تكون مركز البيانات.

بات من الواضح أن استدامة عمل تلك المراكز أصبحت مرتبطة بتأمين موارد كبيرة من الكهرباء والماء.

لكنّ هناك حلولا أخرى، بحسب البروفيسور راو، مثل استخدام النيتروجين للتبريد عوضا عن الماء.

رغم أن النيتروجين متوفر بكميات كبيرة، إذ يمثل نحو 78 في المئة من الهواء في الغلاف الجوي للأرض، فإن استخدامه للتبريد مكلف كثيرا، ما يجعل الماء خيارا اقتصاديا أفضل.

حلول مبتكرة تعيقها "الهلوسة"

عوضا عن بذل جهد كبير في محاولة تبريد الأجهزة الإلكترونية، لماذا لا يتم استخدام أجهزة تطلق حرارة أقل، ما يعني بالضرورة أنها تستهلك كمية أقل من الطاقة؟

قد يخيل إليك أن هذه فكرة مثالية بعيدة عن الواقع، ولكن، مرة أخرى، يتحول الخيال إلى حقيقة.

تجري منذ مدة أبحاث تهدف لتطوير ما اصطلح على تسميته بحواسيب الكوانتوم التي تُعرف أيضاً باسم الحواسيب الكمومية.

اعتماد هذا النوع من الحواسيب على "فيزياء الكم" جعلها قادرة على القيام بعدد ضخم من الحسابات في وقت قصير ما جعلها تستخدم كمية طاقة أقل.

البيانات المعروفة بالإنكليزية بكلمة "بايت" وتعتمد نظام الرياضيات الثنائي المكون من رقمين هما 0 و1، وهو النظام المستخدم في الحواسيب.

لكن حواسيب الكم تعتمد على "الكيوبتات"، التي بإمكانها أن أن تكون في حالتي 0 و1 في نفس الوقت، وهو ما يعرف باسم التراكب الكمومي.

مكنت تلك الخاصية الفريدة هذه الحواسيب من إظهار قدرة كبيرة على فك المعادلات المعقدة وتقديم أجوبة متطورة على أسئلة مركبة، عبر معالجة العديد من المعادلات والمسائل في نفس الوقت.

وبالطبع، استخدمت حواسيب الكم في تطوير النماذج اللغوية للذكاء الاصطناعي، لكن الأجوبة التي قدمتها كانت "غير مستقرة".

وتعبير "غير مستقرة" يعبر عنها أحياناً بـ "الهلوسة"، حسب ما أوضح لموقع "الحرة"، كل من سام رزنيك، الباحث في معهد الأمن والتكنولوجيا الناشئة في جامعة جورج تاون الأميركية، والبروفيسور راو.

هذه "الهلوسة" البرمجية تتمثل في تقديم نموذج الذكاء الاصطناعي إجابات خاطئة وغير منطقية أو مخالفة للواقع أو عبثية لا معنى لها.

مجتمع الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي يسعى لتحسين قدرات حواسيب الكم، للاستفادة من قدراتها الفريدة خصوصا من ناحية الوصول إلى نفس النتائج لكن بجهد أقل ووقت أقصر.

سباق العمالقة

ويتوالى سباق السيطرة على هذه التكنولوجيا التي فتحت أبواب الأرباح المالية الضخمة والسيطرة السياسية وحتى العسكرية، وسط مخاوف من تهديدها حرية التفكير والتعبير.

خلال الأسابيع القليلة الماضية شهدت تطبيقات الذكاء الاصطناعي نموا صاروخيا وحققت أرقاما فلكية.

ارتفع عدد مستخدمي "تشات جي.بي.تي" نهاية فبراير بنسبة 33 في المئة مقارنة بنفس العدد في ديسمبر الماضي ليصل إلى 400 مليون مستخدم أسبوعيا.

ومن أهم مستخدمي "تشات جي.بي.تي" نجد بنك "مورغان ستانلي" الاستثماري وشركات كبرى مثل "تي موبايل" و"مودرنا" و"أوبر".

أما نموذج "ديب سيك" الصيني، فارتفع عدد مستخدميه 12 مرة خلال شهر يناير الماضي، ليصل الآن إلى معدل 700 ألف مستخدم أسبوعيا.

والتحقت شركة "أكس.أيه.آي" بالركب، ومنذ طرحها نموذج "غروك 3" ارتفع عدد مستخدميه من 4.3 مليون إلى 31.5 مليون مستخدم يوميا، وذلك خلال 3 أسابيع فقط.

وزعمت الشركة المنتجة لنموذج "ديب سيك" الصيني أنه يقدم خدمة أقل كلفة ومماثلة لنظيره الأميركي "تشات جي.بي.تي" من شركة "أوبن أيه آي".

سرعان ما خرج نموذج أميركي آخر بعد أقل من شهر، يسمى "غروك 3"، ليقدم قدرات أكبر.

شركة "أكس أيه آي"، التي أسسها إيلون ماسك عام 2023، تقول إن نموذج "غروك 3" هو الأفضل حتى الآن.

ظهور "ديب سيك" شكل صدمة ليس للباحثين المختصين بل للأسواق العالمية وحتى السياسة الدولية.

"ديب سيك" اعتمد تقنية تسمى استخلاص النماذج، يقول رزنيك في حديثه لموقع "الحرة".

تعتمد هذه التقنية على طرح آلاف من الأسئلة على نموذج "تشات جي.بي.تي"، لفهم طريقة تحليله للمعلومات.

أي لفهم طريقة تفكيره، والتعلم منها عبر التدرب على ذلك النموذج.

وبناء على ذلك قام الباحثون الصينيون ببناء نموذج "ديب سيك"، باستخدام الأجوبة المقدمة من "تشات جي.بي.تي".

ومع ارتفاع عدد مستخدمي الذكاء الاصطناعي تتزايد الحاجة إلى مزيد من مراكز البيانات، ما يعني، في المحصلة، استهلاكا أكبر للكهرباء والمياه، وما يصحب ذلك من تآكل لإمكانيات استمرار الحياة على كوكب الأرض.

مفاجآت بالجملة

الباحثان اللذان تحدثنا إليهما يخالفان الاعتقاد السائد بأن الصينيين لا يملكون  قدرات حاسوبية كبيرة نظرا لتأخرهم في مجال الرقائق الإلكترونية.

فمنظومة "ديب سيك" أصبحت تستخدم عددا كبيرا من الرقائق المصنعة من طرف شركة هواوي الصينية.

يكشف رزنيك لنا سرا آخر من خبايا الصراع الخفي للسيطرة على شعلة القيادة في مجال الذكاء الاصطناعي.

نموذج "ديب سيك" يعتمد على قدرات حاسوبية كبيرة، لكن السر يكمن في طبيعة الرقاقات الإلكترونية.

هناك نوعان رئيسيان من الرقاقات الإلكترونية المعتمدة في نماذج الذكاء الاصطناعي.

الرقائق المتقدمة مثل تلك المنتجة من شركة "إنفيديا"، ومقرها ولاية كاليفورنيا الأميركية، تعرف باسم رقائق "جي.بي.يو"، وتستخدم للعمليات المعقدة مثل تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي.

كلمة "جي.بي.يو" هي الاختصار الإنكليزي لمصطلح "graphic processing unit" أو (GPU) اختصارا، وتعني "وحدات معالجة الصور".

مكنت قدرات تلك الرقائق شركة "إنفيديا" من الوصول إلى قيمة سوقية تعادل نحو 3 ترليون دولار.

رقائق "جي.بي.يو" لم تكن في الأصل معدة للاستخدام في مجال الذكاء الاصطناعي.

"إنفيديا" عملت منذ تأسيسها عام 1993، في مجال الألعاب الإلكترونية أو ألعاب الفيديو، وأرادت الحصول على صور ذات نوعية جيدة، تضفي طابعا أكثر واقعية على ألعاب الفيديو.

في ذلك الوقت كانت شركات التكنولوجيا مثل "إنتل" الأميركية تعمل على إنتاج رقائق حواسيب تعرف باسم "سي بي يو"، وهو الاختصار الإنكليزي لكلمة "سنترال بروسيسنغ يونت"، أو "وحدات المعالجة المركزية".

الرقائق الإلكترونية لوحدات المعالجة المركزية هي الأساس للحواسيب لذلك فهي أكثر انتشارا، لكن طريقة عملها تجعلها أقل تقدما في مجال الحسابات المعقدة.

من خلال التجارب الأولى للنماذج الحديثة للذكاء الاصطناعي، تبين أن وحدات معالجة الصور المنتجة من شركة "إنفيديا"، هي الأفضل بسبب قدرتها على إجراء العمليات الحسابية المعقدة، مع حجم معالجة أكبر.

تحولت "إنفيديا" من شركة تعمل في مجال ألعاب الفيديو إلى المزود الرئيسي للشركات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي.

منذ أعوام تشهد الولايات المتحدة والصين نزاعا بشأن الرقاقات المستخدمة في الذكاء الاصطناعي

المفارقة أن التحول المفاجئ كان سبباً في قوة الصدمة الناجمة عن نجاح نموذج "ديب سيك".

القدرة على تقديم نموذج يستخدم قدرات حاسوبية أقل تقدماً وضع مستقبل شركة "إنفيديا" في مرمى الشك وأثر على التداولات في الأسواق.

وأصبحت رقاقات "إنفيديا" طلبا أساسيا لدى كبرى شركات التقنية مثل "أمازون" و"غوغل" و"ميتا" و"مايكروسوفت" وغيرها.

لكن الاهتمام بذلك الحدث تجاوز عالم المال والأعمال.

ضياء عُطي