وجوه وقضايا

عاصمة الوحدة.. كوب شاي مع القطط في واشنطن!

مروى صابر - واشنطن
12 فبراير 2025

انتهى الدوام أخيرا.

أسدل الظلام ستائره بالفعل، رغم انها لم تدق الخامسة بعد.

إلى البيت أسير بخطوات سريعة.

طريقة اعتدتُها للتغلب على البرد القارس.

لكن للبرودة أشكال أخرى في شقة صغيرة لا تحتضن سواي.

وحدي لكن لست الوحيدة.

قرابة نصف منازل واشنطن وشققها يقطنها شخص واحد دون ونيس.

ما منح العاصمة الأميركية لقب المدينة الأكثر وحدة في الولايات المتحدة للعام الثاني على التوالي.

هكذا أعلن مكتب الإحصاء التابع لوزارة التجارة قبل أيام.

أحب المنطقة التي أقطنها.

يذكرني المعمار فيها بمباني وسط القاهرة الخديوية.

تأخذ المنطقة اسم جورج تاون أو بلدة جورج.

ما من اتفاق حول هوية جورج الذي تحمل المنطقة اسمه.

يرجح البعض أن يكون جورج الثاني ملك إنجلترا، خاصة أن المنطقة بنيت في عهده.

يظن آخرون أن جورج هو مالك الأراضي الاسكتلندي جورج جوردون.

وربما سمُيت على اسم جورج بيل أحد السكان الأوروبيين الأوائل.

فجأة! توقفت قدماي.

رأيته جالسا خلف نافذة زجاجية تطل على الشارع.

يتطلع على المارة.

يتفحص الوجوه.

شيء يجذبني إليه.

اقتربت.

أعارني انتباهه للحظات ثم لاح بوجهه بعيدا.

ثمة حزن يخيم على وجهه.

تكشف النافذة عما يحدث في الداخل.

غرفة في الدور الأرضي تكاد تخلو من الأثاث.

وسائد كبيرة على الأرض.

سلال من القش بُطنت بالصوف والفراء.

أناس يحتسون الشاي، حولهم عدد ليس بقليل من القطط.

الكلُ حاف القدمين.

على الباب كتب بالحروف اللاتينية: مياو ميزون، ما ترجمته بالعربية "بيت المواء".

أخرجت هاتفي من جيبي.

كتبت اسم المكان على محرك البحث.

إنه مقهى للقطط!

أما لطيف الوجه حزين الملامح فهو "ممفيس" القط.

ممفيس خلف نافذة المقهى- حقوق الملكية: انستغرام danny.ultramax@

ولد ممفيس قبل 7 سنوات.

قضى سنوات حياته السبع كلها في منزل عائلة تسكن ولاية فيرجينيا المجاورة.

لكنها تخلت عنه دون إبداء أسباب.

لمسة حُلوة

في الداخل تعرفتُ على ميشيل.

وجدتها تفترش الأرض كأغلب الموجودين.

بجوارها فنجان من الشاي الأخضر.

تطرز زهورا على قطعة من القماش.

أخبرتني أنها من مواليد كونيتيكت.

الولاية تبعد نحو 320 ميلا إلى الشمال من واشنطن.

هناك عاشت ودرست القانون.

انتقلت إلى واشنطن قبل عام للعمل في إحدى شركات المحاماة.

في شقة صغيرة تعيش رفقة قطين.

تبنتهما الشابة من مقهى للقطط اعتادت الذهاب إليه.

"منحاني الألفة التي افتقدتها بعيدا عن الأهل."

قاطعتنا قطة اقتربت من ميشيل.

حول رقبتها طوق تتدلى منه شارة كُتب عليها: "زُفران"!

زفران هو اسم القطة، وأيضا اسم دواء يعرفه مرضى السرطان جيداً.

الدواء يمنع الغثيان والقيء الناتج عن العلاج الكيميائي أو الإشعاعي.

هي واحدة من بين 20 قطا يحتضنهم مقهى "مياو ميزون" حاليا.

لكل منها قصة انتهت بالوصول إلى الملجأ.

هل كان صاحب زُفران مريضاً بالسرطان ووجد فيها الدواء؟

أخذت ميشيل تمسح بيدها على رأس القطة.

الأخيرة تمد رقبتها باتجاه يد الفتاة.

صحيح أن اللغة وسيلة للتواصل.

لكن من قال أن اللغات لا بد أن تكون أحرفاً وكلمات؟

"حضن أو لمسة من قط تخفف أي مرارة في اليوم”، قالت ميشيل مبتسمة.

ميشيل في مقهى "مياو ميزون"، حقوق الملكية: انستغرام danny.ultramax@

هدية

مدت ميلندا رجليها على الأرض.

أمسكت بعصا في نهايتها ريشة.

قطط عن يمينها وعن يسارها.

جاءت السيدة رفقة ابنها وكِنتها.

زيارتها للمقهى الليلة هي هدية من الزوجين.

"أحب القطط، وقد نشأت وسط الكثير منها".

ميلندا ابنة ولاية ميرلاند المجاورة، تعيش في واشنطن منذ أكثر من أربعة عقود.

أخبرتني أن لها ابنة تتحدث العربية بطلاقة.

كان للسيدة قِطّان: أوليفر وكلارك.

خلال جائحة كورونا عانت ابنتها من وحدة شديدة.

ذات يوم جاءت الشابة لزيارة أمها.

"عملت حينها من المنزل، وكان الحزن يغمرها".

وهبتها ميلندا القط أوليفر تستأنس به.

وقد كان في وحدتها خير رفيق.

احتفظت هي بكلارك.

"لا أخلد للنوم، إلا والمشاكس البرتقالي فوق رأسي”، تقول ميلندا ضاحكة.

رفيقي الصغير

لا يزال ممفيس يطل من النافذة.

لا يأبه لأحد.

لا تغره كرات الخيط التي يتقاذفها زوار المقهى و"هيذر".

كممفيس، ولدت الفتاة في فيرجينا.

جاءت إلى المقهى الليلة مع صديقة الجامعة.

تعيش هيذر رفقة حبيبها وقطٌ سمته: فرانكي.

"البلطجي" فرانكي برتقالي اللون، ذو شهية مفتوحة، يزن 20 رطلا.

عُثر عليه داخل صندوق بيتزا ملقى في شرفة لشقة خالية.

صاحبه تخلى عنه قبل أن يرحل عن الشقة، أخبرتني.

أما حبيب هيذر فيدرس الحقوق.

يقضي أغلب يومه بعيدا عن المنزل بين الدراسة والتدريب.

لا تطيق هي الوحدة.

"لم أعش بمفردي أبدا، فقد نشأت في عائلة كبيرة وسط عدد كبير من الأشقاء".

"عندما أعود إلى المنزل أحتاج أحدا أُسرُّ له بتفاصيل يومي".

بات فرانكي "رفيقي الصغير"، تقول هيذر.

هيذر (يسار الصورة) مع صديقتها في مقهى القطط، حقوق الملكية: انستغرام danny.ultramax@

عائلة جديدة

أحاطت نيكيتا وخطيبها فافيك بقط مستلق على سرير مصنوع من الصوف.

مد القط ساقه بلطف يحاول مصافحة الفتاة.

لمسة غمرتها بشحنة من الفرح.

ابتهجت.

فافيك سعيد لسعادة زوجته المستقبلة.

أخبرتني نيكيتا إنهما يقضيان كثيرا من الوقت أمام التلفاز أو على الهاتف، بعد العودة من العمل.

حتى جاء يوم موعود.

سألهما صديق أن يستضيفا قطه لأيام حتى يعود من السفر.

حينها تبدل كل شيء.

"شعرتُ براحة نفسية غير مسبوقة".

"كان خير إلهاء لي عن مآسي العالم".

" أشعرنا القط أن الحياة ليست مجرد عمل فحسب".

فكرنا في أن يكون لنا قطٌ.

أسعار القطط باهظة: ألفان إلى ثلاثة آلاف دولار للواحد على الأقل.

لماذا نقصي خيار التبني إذن؟

"جميع القطط حلوة، تحتاج الكثير منها إلى عائلة ونحن نريد قطا، فلم لا."

توجه فافيك إلى ملجأ للحيوانات.

ملأ استمارة التبني.

قدم كل الأوراق المطلوبة.

يقول: "يتأكد الملجأ أنك على وعي بأن اقتناء حيوان أليف هو مسؤولية، وأنك على قدر المسؤولية."

- "يسألونك عن نمط حياتك."

- "هل تعمل من المنزل أم من المكتب؟"

- " كم عدد ساعات الغياب اليومية عن المنزل؟"

- "هل لديك أصدقاء لديهم خبرة في التعامل مع الحيوانات الأليفة؟".

بعد أيام وصلت الموافقة على طلب التبني.

لكن أي قط يقع عليه الاختيار؟

وجه الملجأ الشاب إلى مياو ميزون.

المقهى يحتضن عددا من قطط الملجأ. يوفر لها بيئة تفاعلية مع البشر.

هنا يمكن لأسرة فافيك قضاء وقت مع القطط قبل تحديد القط الأقرب إلى القلب.

قررا تبني "وينسلو".

"شعرت أنه اختارنا قبل أن نختاره". تقول نيكيتا.

أعطياه اسما جديدا: بيلو.

الاسم هو تصغير لكلمة "بيلي" وتعني القط باللغة الهندية.

عشرات القطط

على مدار عام جرى تبني 214 قطا من هذا المقهى.

تقول نايا المتطوعة للعمل في مياو ميزون إن المقهى يستوعب 20 قطا في المرة الواحدة.

فبعد كل تبني يرسل الملجأ قطا جديدا بدلا عنه.

"مهمتنا إنقاذ المزيد منها، بتوفير مساحة آمنة يمكن التعارف داخلها".

يُؤمن المقهى موازنته عبر فرض رسوم دخول لقاء قضاء وقت داخله.

لمحت بطرف عيني ممفيس يمشي بعيدا عن النافذة.

سألتُ نايا عنه: هل يعاني من مرض ما؟

قالت: "أبدا، ملفه الصحي سليم. هو هادئ وحنون، لكنه دائم الحزن".

"لاحظت مؤخرا أنه بدأ في التفاعل مع الآخرين".

- هل أبدى أحدهم رغبة في تبنيه؟

- لا.

ودعت المكان.

القط ممفيس، حقوق الملكية: انستغرام danny.ultramax@

صورة ممفيس لا تفارق بالي.

حتى اسمه فرعوني كجذوري.

لا استطيع إخراجه من عقلي.

فهل أدخله حياتي؟

مروى صابر

وجوه وقضايا

الجانب المظلم من حقيقة الذكاء الاصطناعي

ضياء عُطي
21 مارس 2025

لتقنيات الذكاء الاصطناعي أثر إيجابي على كثير من مجالات حياتنا اليومية، لكن ما قد يخفى عن كثيرين هو تأثيراتها الضارة على الحياة بشكل عام: الحياة على هذا الكوكب.

استهلاك شركة مايكروسوفت من الكهرباء في عام 2023، على سبيل المثال، تجاوز 24 تيراواط، أي أكثر من استهلاك بلد مثل الأردن، أو حتى السعودية.

ويزيد الاستخدام المفرط للطاقة غير النظيفة لإنتاج الكهرباء من تداعيات الانبعاثات الضارة على البيئة. 

إلى جانب الكهرباء، يستخدم قطاع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي كميات هائلة من المياه لتبريد الأجهزة المعالجة للخوارزميات المعقدة.

الجبهة الأمامية

مراكز البيانات هي الجبهة الأمامية في الصراع نحو تصدر مجال الذكاء الاصطناعي.

هذه المراكز ليست حديثة العهد، فقد أُسس أول مركز معني بالبيانات في جامعة بنسلفانيا الأميركية عام 1945 لدعم ما عُرف حينها كأول كمبيوتر رقمي متعدد الأغراض، "ENIAC" اختصارا.  

هذه المراكز هي العمود الفقري للحوسبة الحديثة المعنية بتخزين كميات ضخمة من البيانات ومعالجتها.

تلك البيانات تكفل استمرار تشغيل كافة المواقع العاملة عبر شبكة الإنترنت، ما يسهل عمل الهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب.

لكن ظهور الذكاء الاصطناعي، التوليدي منه تحديدا، مثل خدمات "تشات جي.بي.تي" و"جيميناي" مثلا، غيّر "دراماتيكيا" في عمل مراكز البيانات، وفقا لمقال نشره معهد ماساتشوستس للتقنية "أم آي تي". 

واليوم، تتكون تلك المراكز من بنايات صناعية كبيرة، في داخلها مجموعة من الأجهزة الإلكترونية الضخمة.

داخل تلك البنايات هناك أجهزة تخزين البيانات الرقمية وخوادم الاتصالات والحوسبة السحابية، التي تمكن من تخزين ومعالجة البيانات.

بين عامي 2022 و 2023 ارتفعت متطلبات مراكز البيانات من الطاقة، في أميركا الشمالية، من 2,688 ميغاواط إلى 5,341 ميغاواط، وفق تقديرات علماء.

جزء من هذا الارتفاع مرتبط بالاحتياجات التي فرضها الذكاء الاصطناعي التوليدي، وفق "أم آي تي".

عالميا، بلغ استهلاك مراكز البيانات من الطاقة، في عام 2022، 460 تيراواط.

وتحتل مراكز البيانات المرتبة 11 بين الأكثر استهلاكا للكهرباء سنويا حول العالم، وهي مرتبة وسط بين فرنسا (463 تيراواط) والسعودية (371 تيراواط)، وفقا منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

وبحلول 2026، تشير "أم آي تي"، إلى أن استهلاك مراكز البيانات للكهرباء قد يصل إلى 1,050 تيراواط، ما قد يرفعها إلى المرتبة الخامسة، بين اليابان وروسيا.

الذكاء الاصطناعي التوليدي وحده ليس العامل الوحيد، يوضح المعهد التقني، لكنه "دافع أساسي" باتجاه زيادة الطلب على الطاقة والمياه. 

تستخدم تلك المراكز كميات ضخمة من الطاقة الكهربائية، وتكون لديها مصادر طاقة بديلة عند انقطاع التزويد أو في حالات الطوارئ، ما يمكّنها من الاستمرار في العمل.

لكن توفير الطاقة الكافية لتشغيل تلك المراكز أصبح تحديا في ظل ارتفاع الطلب العالمي على الطاقة.

الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قدّم خطة لتطوير الطاقة النووية في الولايات المتحدة تحظى بدعم لافت من جمهوريين وديمقراطيين على حد السواء، وقد تشكل الحل الأكثر رفقا بالبيئة.

البروفسور آناند راو من جامعة كارنيغي ميلون أوضح لموقع "الحرة" أنه بالإضافة إلى الاستخدام المكثف للطاقة الكهربائية، ظهرت معضلة جديدة أمام تلك المراكز.

الأجهزة الإلكترونية الضخمة التي تستهلك كميات كبيرة من الطاقة ترتفع حرارتها إلى درجات عالية جدا، ما يؤثر على قدرتها، وقد يؤدي حتى إلى تلفها.

قد يبدو ذلك غريبا لأول وهلة، ولكن على عكس حاسوبك الصغير الذي يستعمل مروحة أو اثنتين لتبريد رقاقاته الإلكترونية، تستخدم أجهزة مراكز البيانات الماء للتبريد.

تدخل آلاف الغالونات من الماء إلى مبادل حراري يشغل شبكة ضخمة ومتشعبة من الأنابيب والمبردات تمتد إلى كافة الأجهزة الكهربائية والإلكترونية، دون أن يلامس الماء، طبعا، أيا من الدارات الكهربائية.

ومثلما هو الحال بالنسبة للكهرباء، يضع استهلاك تلك الكميات الكبيرة من الماء ضغطا كبيرا على الموارد المحلية للمنطقة حيث تكون مركز البيانات.

بات من الواضح أن استدامة عمل تلك المراكز أصبحت مرتبطة بتأمين موارد كبيرة من الكهرباء والماء.

لكنّ هناك حلولا أخرى، بحسب البروفيسور راو، مثل استخدام النيتروجين للتبريد عوضا عن الماء.

رغم أن النيتروجين متوفر بكميات كبيرة، إذ يمثل نحو 78 في المئة من الهواء في الغلاف الجوي للأرض، فإن استخدامه للتبريد مكلف كثيرا، ما يجعل الماء خيارا اقتصاديا أفضل.

حلول مبتكرة تعيقها "الهلوسة"

عوضا عن بذل جهد كبير في محاولة تبريد الأجهزة الإلكترونية، لماذا لا يتم استخدام أجهزة تطلق حرارة أقل، ما يعني بالضرورة أنها تستهلك كمية أقل من الطاقة؟

قد يخيل إليك أن هذه فكرة مثالية بعيدة عن الواقع، ولكن، مرة أخرى، يتحول الخيال إلى حقيقة.

تجري منذ مدة أبحاث تهدف لتطوير ما اصطلح على تسميته بحواسيب الكوانتوم التي تُعرف أيضاً باسم الحواسيب الكمومية.

اعتماد هذا النوع من الحواسيب على "فيزياء الكم" جعلها قادرة على القيام بعدد ضخم من الحسابات في وقت قصير ما جعلها تستخدم كمية طاقة أقل.

البيانات المعروفة بالإنكليزية بكلمة "بايت" وتعتمد نظام الرياضيات الثنائي المكون من رقمين هما 0 و1، وهو النظام المستخدم في الحواسيب.

لكن حواسيب الكم تعتمد على "الكيوبتات"، التي بإمكانها أن أن تكون في حالتي 0 و1 في نفس الوقت، وهو ما يعرف باسم التراكب الكمومي.

مكنت تلك الخاصية الفريدة هذه الحواسيب من إظهار قدرة كبيرة على فك المعادلات المعقدة وتقديم أجوبة متطورة على أسئلة مركبة، عبر معالجة العديد من المعادلات والمسائل في نفس الوقت.

وبالطبع، استخدمت حواسيب الكم في تطوير النماذج اللغوية للذكاء الاصطناعي، لكن الأجوبة التي قدمتها كانت "غير مستقرة".

وتعبير "غير مستقرة" يعبر عنها أحياناً بـ "الهلوسة"، حسب ما أوضح لموقع "الحرة"، كل من سام رزنيك، الباحث في معهد الأمن والتكنولوجيا الناشئة في جامعة جورج تاون الأميركية، والبروفيسور راو.

هذه "الهلوسة" البرمجية تتمثل في تقديم نموذج الذكاء الاصطناعي إجابات خاطئة وغير منطقية أو مخالفة للواقع أو عبثية لا معنى لها.

مجتمع الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي يسعى لتحسين قدرات حواسيب الكم، للاستفادة من قدراتها الفريدة خصوصا من ناحية الوصول إلى نفس النتائج لكن بجهد أقل ووقت أقصر.

سباق العمالقة

ويتوالى سباق السيطرة على هذه التكنولوجيا التي فتحت أبواب الأرباح المالية الضخمة والسيطرة السياسية وحتى العسكرية، وسط مخاوف من تهديدها حرية التفكير والتعبير.

خلال الأسابيع القليلة الماضية شهدت تطبيقات الذكاء الاصطناعي نموا صاروخيا وحققت أرقاما فلكية.

ارتفع عدد مستخدمي "تشات جي.بي.تي" نهاية فبراير بنسبة 33 في المئة مقارنة بنفس العدد في ديسمبر الماضي ليصل إلى 400 مليون مستخدم أسبوعيا.

ومن أهم مستخدمي "تشات جي.بي.تي" نجد بنك "مورغان ستانلي" الاستثماري وشركات كبرى مثل "تي موبايل" و"مودرنا" و"أوبر".

أما نموذج "ديب سيك" الصيني، فارتفع عدد مستخدميه 12 مرة خلال شهر يناير الماضي، ليصل الآن إلى معدل 700 ألف مستخدم أسبوعيا.

والتحقت شركة "أكس.أيه.آي" بالركب، ومنذ طرحها نموذج "غروك 3" ارتفع عدد مستخدميه من 4.3 مليون إلى 31.5 مليون مستخدم يوميا، وذلك خلال 3 أسابيع فقط.

وزعمت الشركة المنتجة لنموذج "ديب سيك" الصيني أنه يقدم خدمة أقل كلفة ومماثلة لنظيره الأميركي "تشات جي.بي.تي" من شركة "أوبن أيه آي".

سرعان ما خرج نموذج أميركي آخر بعد أقل من شهر، يسمى "غروك 3"، ليقدم قدرات أكبر.

شركة "أكس أيه آي"، التي أسسها إيلون ماسك عام 2023، تقول إن نموذج "غروك 3" هو الأفضل حتى الآن.

ظهور "ديب سيك" شكل صدمة ليس للباحثين المختصين بل للأسواق العالمية وحتى السياسة الدولية.

"ديب سيك" اعتمد تقنية تسمى استخلاص النماذج، يقول رزنيك في حديثه لموقع "الحرة".

تعتمد هذه التقنية على طرح آلاف من الأسئلة على نموذج "تشات جي.بي.تي"، لفهم طريقة تحليله للمعلومات.

أي لفهم طريقة تفكيره، والتعلم منها عبر التدرب على ذلك النموذج.

وبناء على ذلك قام الباحثون الصينيون ببناء نموذج "ديب سيك"، باستخدام الأجوبة المقدمة من "تشات جي.بي.تي".

ومع ارتفاع عدد مستخدمي الذكاء الاصطناعي تتزايد الحاجة إلى مزيد من مراكز البيانات، ما يعني، في المحصلة، استهلاكا أكبر للكهرباء والمياه، وما يصحب ذلك من تآكل لإمكانيات استمرار الحياة على كوكب الأرض.

مفاجآت بالجملة

الباحثان اللذان تحدثنا إليهما يخالفان الاعتقاد السائد بأن الصينيين لا يملكون  قدرات حاسوبية كبيرة نظرا لتأخرهم في مجال الرقائق الإلكترونية.

فمنظومة "ديب سيك" أصبحت تستخدم عددا كبيرا من الرقائق المصنعة من طرف شركة هواوي الصينية.

يكشف رزنيك لنا سرا آخر من خبايا الصراع الخفي للسيطرة على شعلة القيادة في مجال الذكاء الاصطناعي.

نموذج "ديب سيك" يعتمد على قدرات حاسوبية كبيرة، لكن السر يكمن في طبيعة الرقاقات الإلكترونية.

هناك نوعان رئيسيان من الرقاقات الإلكترونية المعتمدة في نماذج الذكاء الاصطناعي.

الرقائق المتقدمة مثل تلك المنتجة من شركة "إنفيديا"، ومقرها ولاية كاليفورنيا الأميركية، تعرف باسم رقائق "جي.بي.يو"، وتستخدم للعمليات المعقدة مثل تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي.

كلمة "جي.بي.يو" هي الاختصار الإنكليزي لمصطلح "graphic processing unit" أو (GPU) اختصارا، وتعني "وحدات معالجة الصور".

مكنت قدرات تلك الرقائق شركة "إنفيديا" من الوصول إلى قيمة سوقية تعادل نحو 3 ترليون دولار.

رقائق "جي.بي.يو" لم تكن في الأصل معدة للاستخدام في مجال الذكاء الاصطناعي.

"إنفيديا" عملت منذ تأسيسها عام 1993، في مجال الألعاب الإلكترونية أو ألعاب الفيديو، وأرادت الحصول على صور ذات نوعية جيدة، تضفي طابعا أكثر واقعية على ألعاب الفيديو.

في ذلك الوقت كانت شركات التكنولوجيا مثل "إنتل" الأميركية تعمل على إنتاج رقائق حواسيب تعرف باسم "سي بي يو"، وهو الاختصار الإنكليزي لكلمة "سنترال بروسيسنغ يونت"، أو "وحدات المعالجة المركزية".

الرقائق الإلكترونية لوحدات المعالجة المركزية هي الأساس للحواسيب لذلك فهي أكثر انتشارا، لكن طريقة عملها تجعلها أقل تقدما في مجال الحسابات المعقدة.

من خلال التجارب الأولى للنماذج الحديثة للذكاء الاصطناعي، تبين أن وحدات معالجة الصور المنتجة من شركة "إنفيديا"، هي الأفضل بسبب قدرتها على إجراء العمليات الحسابية المعقدة، مع حجم معالجة أكبر.

تحولت "إنفيديا" من شركة تعمل في مجال ألعاب الفيديو إلى المزود الرئيسي للشركات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي.

منذ أعوام تشهد الولايات المتحدة والصين نزاعا بشأن الرقاقات المستخدمة في الذكاء الاصطناعي

المفارقة أن التحول المفاجئ كان سبباً في قوة الصدمة الناجمة عن نجاح نموذج "ديب سيك".

القدرة على تقديم نموذج يستخدم قدرات حاسوبية أقل تقدماً وضع مستقبل شركة "إنفيديا" في مرمى الشك وأثر على التداولات في الأسواق.

وأصبحت رقاقات "إنفيديا" طلبا أساسيا لدى كبرى شركات التقنية مثل "أمازون" و"غوغل" و"ميتا" و"مايكروسوفت" وغيرها.

لكن الاهتمام بذلك الحدث تجاوز عالم المال والأعمال.

ضياء عُطي