وجوه وقضايا

نجاة هشام ودموع فاطمة.. مآسي "القاتل الصامت" في الجزائر

هشام بوعلي- دبي
12 فبراير 2025

عاد هشام شعبان من صالة الرياضة إلى البيت. أشعل المدفأة قبل أن يتوجه إلى الحمام؛ ثم إلى المطبخ لتحضير وجبة طعام.

حتى تلك اللحظة، كان يوما عاديا من أيام يناير في الجزائر العاصمة.

لم تخطر في بال هشام الأخبار المنتشرة في عموم البلاد عن حوادث "القاتل الصامت".

في الغرفة، قرب المدفأة، شعر بألم غريب في عينيه. ظنّ في البداية أن سبب ذلك هو الإرهاق من التمارين، أو لأن الهواء البارد كان قد لفح وجه عندما غادر الجم قبل نحو ساعة، متعرقا.

"لكن الألم أخذ ينتشر في جسدي كله، خاصة في رأسي، وصرت أتنفس بصعوبة،" يقول هشام لموقع "الحرة".

"تحول الألم إلى غثيان. شعرت بدوخة، وأصبح ذهني مشوشا".

عندها فقط تذكر هشام الأحاديث عن مآسي تسرب مادة أحادي أوكسيد الكاربون في بيوت كثير من الجزائريين.

تذكر "القاتل الصامت،" الذي رسم خارطة للأحزان، امتدت من تلمسان غربي الجزائر، إلى ولاية سوق أهراس شرقا.

القاتل والضحايا

الضحايا من أعمار مختلفة في ولايات عدة.

سجلت السلطات 231 حادثا في شهر يناير وحده، هذا العام. قضى فيها 34 شخصا، وأنقذت فرق الحماية المدنية 554 شخصا آخرين.

في العام الماضي، سجلت البيانات الرسمية 964 حادثة تسرب غاز.

خلالها، قضى "القاتل الصامت" على حياة 119 شخصا".

يَنتج أحادي أوكسيد الكاربون من الاحتراق غير الكامل للغاز الطبيعي.

من دون لون، أو طعم، أو رائحة. لهذا يُسمى "القاتل الصامت".

ولأنه أكثف من الهواء، فهو يهيمن على الفضاء في الأماكن المغلقة.

وإذا لم تتدارك نفسك قبل فوات الأوان، قد تستلم لإغوائه، وتفقد الوعي، قبل أن تموت مختنقا بسبب انعدام الأوكسجين.

كاد هشام أن يستلقي على الكنبة ليرتاح قليلا. لو أخذ قيلولة ربما يتحسن حاله، فكّر.

لحسن الحظ، استجمع قواه، وتحرك بصعوبة. 

أطفأ المدفأة، وأغلق مصدر الغاز، وفتح باب البيت والنوافذ.

مع ذلك، لا يمكن الوثوق بالحظ دائما.

فاطمة عريف، التي تعيش مع أسرتها في مدينة سطيف، تواجه المشكلة بحذر شديد ويقظة دامعة.

فقدت خالها في حادث "تسرب" قبل خمس سنوات. ومنذ لك الحين، باتت حياتها محكومة بالخوف من تكرار المأساة.

"أصبح هاجس الغاز يرافقني في كل تفاصيل حياتي، خاصة قبل النوم، أو حتى عندما تدخل والدتي الحمام، يصيبني القلق وأظل يقظة، أراقب، طيلة الوقت".

الأثمان المدفوعة بالأرواح لحوادث الغاز كبيرة، في منطقة سطيف، شرقي الجزائر. فالبرد القارس يجبر السكان على استخدام وسائل التدفئة بكثافة.

"المناخ عندنا في الشرق أكثر برودة من العاصمة. وللأسف، عدد كثير من العائلات في منطقتنا فقدت أحباءها بسبب حوادث الغاز خلال فصل الشتاء،" تقول فاطمة.

تحاول السلطات تنبيه المواطنين بشأن خطورة أحادي أوكسيد الكاربون، تقول فاطمة.

"لكن الحرص مطلوب من الجميع.. لا يمكن أن نتحمل فقدان مزيد من الأرواح".

الاتحاد الأوروبي والجزائر وقعا اتفاقية الشراكة عام 2002 وبدأ العمل بها عام 2005
مبدأ "رابح-رابح".. لماذا تسعى الجزائر لتعديل اتفاقها مع الاتحاد الأوروبي؟
رغم أن الجزائر ما انفكت تؤكد أن ميزان الشراكة يميل لصالح دول الاتحاد الأوروبي، فإن الطرف الأوروبي يتهم الجزائر "بتقييد صادرات الاتحاد الأوروبي واستثماراته، منذ سنة 2021"، داعيا إلى إجراء مشاورات مع السلطات الجزائرية.

"دفاتر عائلية أُغلقت"

أصبحت حوادث الاختناق بغاز أحادي أكسيد الكربون من أكبر الهواجس بالنسبة للجزائريين خلال فصل الشتاء، يقول عضو منظمة حماية المستهلك، فادي تميم، لموقع "الحرة".

ويضيف "كل عام نشهد إغلاق دفاتر عائلية بأكملها (بعد وفاتها بسبب الغاز)، رغم الجهود الكبيرة التي تبذلها الحماية المدنية والسلطات العمومية وجمعيات المجتمع المدني في مجال التوعية وترقية السلوك الاستهلاكي".

بالنسبة لتميم، تكمن المشكلة في "استخفاف" بعض المواطنين بالموضوع.

"عندما يسمع المستهلك عن حالة وفاة بسبب الغاز، يعتقد أن هذا الأمر يحدث لغيره ولن يحدث له، وهذا ما يؤدي إلى عدم الاحتياط، رغم أنه يمكن تفادي الاختناق بضمان استمرارية تهوية المنزل".

"البرد لا يقتل، لكن غاز أحادي أكسيد الكربون يقتل عائلات بأكملها".

وتحدث هو عضو في منظمة حماية المستهلك عن تطور إجراءات الوقاية التي أقرتها السلطات.

وقال طالبت المنظمة في 2018-2019 بتوفير أجهزة الكشف عن الغاز مع إمكانية اقتطاع ثمنها على مراحل، "قبل أن يقر رئيس الجمهورية توزيعها مجانا".

وبالفعل زودت السلطات المساكن بكاشفين بدلا من واحد، لكن ذلك لم يحل المشكلة.

"ما زالت أرقام الاختناقات مرتفعة"، يقول تميم.

مصدر التسرب

تشكل سخانات الماء المصدر الرئيسي لتسرب غاز أحادي أكسيد الكربون في المنازل الجزائرية، خاصة عند عدم تجهيزه بأنبوب لتصريف الغازات المحترقة إلى الخارج، أو في حال انسدادها.

وتشير الحوادث إلى أن المدافئ التقليدية ومواقد التدفئة والطهي التقليدية من المصادر الشائعة للتسمم، خصوصا عندما توضع في أماكن مغلقة تفتقر للتهوية الكافية.

ويعتمد معظم السكان في الجزائر على غاز المدينة الذي توفره شركة توزيع الكهرباء والغاز، لكن الأجهزة المستخدم للتدفئة والطهي تسخين المياه هي السبب في معظم حوادث الاختناق.

بل، يستدرك تميم، ليس الأجهزة هي السبب، فهي تخضع لرقابة صارمة من وزارة التجارة.

"المشكلة تكمن في استخدام قطع غيار غير أصلية عند الإصلاح، وإهمال الصيانة الدورية، وانسداد مخارج الغازات المحترقة".

بالإضافة إلى "إجراء بعض السكان تغييرات عشوائية على هذه المخارج، ما يمنع تصريف الغازات إلى الخارج ويؤدي إلى عودتها إلى المنازل"، مما يسبب في مآسي.

النزيف مستمر

خلال أيام الأسبوع الماضي، كان الحظ حليف عائلة من ثلاثة أفراد في تلمسان. نجوا بأعجوبة من الموت اختناقا بعد انتشار أحادي أوكسيد الكاربون من سخان ماء.

وفي ولاية أهراس، تسبب انتشار المادة القاتلة من موقد تقليدي في وفاة شيخ داخل حمام منزله.

وكان موقد فحم سببا في مأساة مماثلة في بجاية، شمال شرقي البلاد. وفي الجلفة، أجهز "القاتل الصامت" على شخص في ريعان شبابه.

حاول موقع "الحرة" التواصل مع مسؤولين في الحماية المدنية في الجزائري، حول الموضوع، لكن لم يحصل على أي رد حتى إعداد التقرير.

هشام بوعلي

وجوه وقضايا

"اليهود البغداديون".. حكاية بصمات عراقية في الهند

رامي الأمين
23 أبريل 2025

يحكي الملحن البريطاني براين إلياس في مقطع فيديو عن خليط بين الطعام البغدادي اليهودي والتوابل الهندية. ما زال هذا الخليط يسكن ذاكرته ويشعر بطعمه في فمه، لما يعنيه من مزيج ثقافات في أطباق كانت تُعد بأيادي "اليهود البغداديين" في منطقة بايكولا في مدينة مومباي الهندية.

الفيديو واحد من عشرات الفيديوهات التي تنشرها الشابة البريطانية كيرا شالوم في حسابها "تاريخ المزراحي" The Mizrahi History على إنستغرام، لشهادات وذكريات لليهود المشرقيين من مختلف البلدان في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

شالوم التي تتحدّر من عائلة يهودية بغدادية عاشت في الهند حتى ستينيات القرن الماضي، تخصّص الكثير من وقتها، ومساحة كبيرة من حساباتها في وسائل التواصل الاجتماعي، للإضاءة على تاريخ ما يُعرف بـ"اليهود البغداديين".

وصل هؤلاء بأعداد كبيرة إلى الهند في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ولم يبق منهم سوى أعداد قليلة ما زالت تعيش هناك.

في كتابها "اليهود البغداديون في الهند"، تقول المؤرخة الإسرائيلية شالفا ويل إن هذه الفئة من اليهود معروفة في الهند وخارجها رغم عددها القليل، ومعظمها يتحدث اللغة العربية بالإضافة إلى الإنجليزية والهندية.

يتحدر هؤلاء بحسب ويل، ليس من بغداد فحسب، بل أيضاً من مدن عراقية أخرى كالبصرة والموصل، وكذلك من سوريا واليمن وإيران وبخارى وأفغانستان. بهذا المعنى فإن التسمية لا تعني حصراً اليهود المتحدّرين من العاصمة العراقية، بل تشمل يهوداً مزراحيين (شرقيين) من مناطق مختلفة في الشرق الأوسط.

تشير الكاتبة الإسرائيلية إلى أن أول يهودي وصل الهند من بغداد كان يدعى جوزف سماح ورست سفينته في مرفأ سورات في غوجارات الهندية في عام 1730، وترك بغداد بحثاً عن فرص تجارية جديدة.

ومع بدايات القرن التاسع عشر بحسب الكاتبة، تحولت مومباي إلى ملجأ كبير لعدد من اليهود الناطقين بالعربية الذين هربوا من بطش داود باشا، آخر حكام العراق من المماليك في الفترة بين عامي 1816 و1831.

أما التاريخ المفصلي في ترسيخ الوجود اليهودي البغدادي في مومباي وتطورها الاقتصادي نتيجة ذلك، فكان مع وصول ديفيد ساسون وعائلته إلى المدينة في عام 1832، حيث عملوا في تجارة الأفيون قبل أن تصبح غير شرعية.

بَنَت هذه العائلة سيناغوغ (كنيس يهودي) في بايكولا في مومباي، وآخر حمل اسم إلياهو في وسط المدينة، ثم بعد أن أصبحت تجارة الأفيون غير شرعية انتقل آل ساسون إلى الاستثمار في انتاج وبيع أكياس الرمل المخصصة للدشم (تحصينات دفاعية) العسكرية في الحروب، وحققوا أرباحاً طائلة.

كما أسهم دايفد وألبرت ساسون في بناء ميناء تجاري في مومباي والعديد من المدارس والمستشفيات التي ما يزال بعضها موجوداً حتى اليوم.

صورة من أرشيف كيرا شالوم الخاص

في تقديرات لأعداد اليهود البغداديين، فإنها بلغت حتى الربع الأول من القرن العشرين نحو سبعة آلاف نسمة، لكنها سرعان ما انخفضت بشكل كبير مع منتصف القرن العشرين.

تربط ويل في كتابها بين نَيل الهند استقلالها في عام 1947 وبدء اليهود بالتفكير بالرحيل عنها، والسبب أن القوانين التي أقرتها الحكومة الهندية بعد الاستقلال ضيقت عمليات التجارة والاستيراد والتصدير، وحدّت من قدرة اليهود البغداديين على الاستثمار في التجارة وإيجاد فرص جديدة.

كما شكّل إعلان دولة إسرائيل في عام 1948 فرصة ليهود بغداديين للهجرة إليها، لكن معظمهم اختاروا بلداناً ناطقة بالإنجليزية، بينما بقي نحو ألفين منهم في الهند حتى سنوات لاحقة، قبل أن ينتقلوا إلى بريطانيا واستراليا وكندا وأميركا.

تقول كيرا شالوم إن عائلتها غادرت الهند في عام 1961، أي بعد سنوات طويلة من نيلها الاستقلال، وقبل تأسيس دولة إسرائيل.

حاولت شالوم أن تفهم من أقاربها سبب رحيل اليهود البغداديين من الهند، لكنها، كما تقول، لم تحصل على سبب مقنع، خاصة وأن "معاداة السامية لم تكن حاضرة بأي شكل من الأشكال في الهند، واندمج أهلها وغيرهم في المجتمع الهندي بشكل كامل، أي مع المسلمين والهندوس".

حتى حينما كان اليهود يتعرضون لمجازر في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، لم يتعرض من كان في الهند لأية مضايقات، وفقاً لشالوم التي ما تزال تحتفظ بصور لعائلتها في مومباي وبعضهم يلبس أزياء عربية.

كان لليهود البغداديين كما تشرح شالوم، بصماتهم على الثقافة الهندية، ومساهماتهم الكبيرة في نهضة الهند، وتذكر من بين الشخصيات اليهودية البغدادية البارزة، الممثلة العراقية نادرة (فلورنسا حزقيل) التي ولدت في بغداد عام 1932 وعاشت في الهند حتى وفاتها عام 2006، وحصلت على شهرة في سينما بوليود.

من الشخصيات الأخرى التي تذكرها، الجنرال (جي أف آر يعقوب)، وهو قائد عسكري هندي من أصول يهودية بغدادية، لعب دوراً في استقلال بنغلاديش عام 1971.

وأثر اليهود البغداديون في المطبخ الهندي، إذ أدخلوا العديد من الأطباق العراقية التي أضيفت إليها التوابل الهندية أو بعض المكونات البريطانية.

وتتحدث شالوم بشغف عن توارث هذه الأطباق في عائلتها وشيوع استخدام الجيل الذي عاش في الهند اللغات الهندية والعربية والإنجليزية في جملة واحدة، كما بقي الأحفاد يستخدمون الدلالات الهندية في الإشارة إلى الجدّ أو الجدة، من مثل "نانا" و"ناني".

لم تزر هذه الشابة البريطانية العراق أبداً، كما أنها لم تزر الهند. تقول إنها "تتمنى زيارة الهند قريباً، لكنها لا تفكّر بزيارة العراق الآن، كذلك الأمر بالنسبة إلى باقي أفراد عائلتها، حيث يمنعهم الخوف بشكل أساسي من التفكير في زيارة البلاد التي يتحدرون منها".

لكنها لا تنكر حنين العديد من أفراد عائلتها وأقاربها إلى بغداد والثقافة العراقية، خاصة الموسيقى والطعام، فضلاً عن الحنين إلى الهند التي ما تزال تحتفظ بالكثير من الآثار والبصمات الثقافية والدينية التي تركها القادمون من بغداد ومدن أخرى.

رامي الأمين