وجوه وقضايا

المغرب.. أمهات في معركة إثبات النسب

فؤاد الفلوس - الرباط
14 فبراير 2025

عاشت إيمان قصة حب استمرت تسع سنوات، كانت تظن أنها ستنتهي بالزواج بعد أن وضعت ثقتها في رجل أوهمها بالارتباط، إلا أنه في كل مرة كان يؤجل خطوة الزواج بحجج مختلفة، لكنها لم تتوقع أن ينتهي الأمر بإنكار ابنتها التي ولدت قبل ثلاث سنوات.

ظنت إيمان (30 سنة) أن الحمل سيجعل الأب يفي بوعده، لكنه طلب منها الإجهاض، وحين رفضت تخلى عنها، وتحولت سنوات العلاقة إلى قطيعة تامة.

وأصبحت إيمان وحيدة تواجه نظرات المجتمع. 

لم تكن المعركة فقط في تأمين حياة لطفلتها، بل في إثبات حقها في هوية قانونية، وهو أمر بدا شبه مستحيل. بحسب حديثها لموقع "الحرة".

"تحرمت من دارنا نهائيا"، هكذا تحكي إيمان بصوت مكسور وهي تستعيد كيف تبرأت عائلتها منها ورأت فيها "مصدر عار" بعد أن نشر والد الطفلة صورها بين إخوتها، فأصبحت بلا سند وبلا منزل تأوي إليه. 

وتقول: "لم يبق لي سوى طفلتي التي أصبحت عالمي الوحيد وأكبر تحد في حياتي إذ لم أسجلها باسم والدها وأضمن حقها الطبيعي في الهوية".

"كيقولو ليا سيري هنا وسيري هنا، وفي الآخر والو"، تروي إيمان عن متاهة الإدارات والمحاكم التي علّقت أملها في تحقيق العدالة وهي تحاول إثبات نسب ابنتها.

وتشير إلى أن والد الطفلة رفض الاعتراف بها لكنه أراد انتزاعها لتربيها والدته. وبينما تشتغل اليوم كعاملة نظافة لتعيل ابنتها، تواصل إيمان معركتها لأجل ابنتها بين مجتمع يحكم عليها وقانون يعجز عن إنصافها.

"ضحية خداع"

إيمان ليست الوحيدة التي تعاني من إنكار نسب مولودها، فكوثر (36 سنة) تواجه المصير نفسه، وهي أم لابنة في الرابعة من عمرها، تكشف قصتها عن ثغرات قانونية تترك الأمهات العازبات في مواجهة مصير مجهول بينما يظل الآباء بلا مساءلة. 

ورغم اختلاف التفاصيل يبقى الألم واحدا: إنكار الأب، ورفض القانون، ونظرة المجتمع القاسية.

وتروي كوثر قصتها لموقع "الحرة"، قائلة "تعرفت على رجل تقدم لخطبتي بوساطة الجيران، وبعد فترة قصيرة من اللقاءات أقنعني بزيارة عائلته. لكنني وجدت نفسي وحيدة معه بالمنزل، حيث استغل ثقتي وفرض علي علاقة، ورغم محاولتي نهيه إلا أنني وجدت نفسي ضحية خداعه ليختفي لاحقا بعد معرفته بحملي، وتركني لمواجهة مصيري بمفردي".

عانت كوثر وهي يتيمة الأب من رفض أسرتها، خاصة شقيقها الذي قاطعها، حتى أنها طردت من المنزل لفترة ولم يسمح لها بالعودة إلا بعد تدخل الجيران وتحملت والدتها مسؤولية دعمها خلال الحمل، لكنها بقيت تعاني وحدها بينما ظل الأب يرفض الاعتراف بابنته أو تحمل أي مسؤولية.

رفعت كوثر دعوى إثبات النسب، لكنها لا تزال تنتظر العدالة رغم أنها تعيش في ظروف صعبة، تعمل في شركة للتغليف لكسب لقمة العيش، وتعاني نفسيا حتى أصبحت تتناول أدوية الأعصاب. حلمها الوحيد هو أن تحصل ابنتها على حقها في الاسم والهوية، وألا تبقى الأمهات العازبات وحدهن في مواجهة مجتمع وقوانين لا تنصفهن.

"اعتراف شفوي"

مريم (44 سنة)، عاشت علاقة امتدت لأكثر من عقد مع رجل دون زواج رسمي، وكانت تأمل أن يتخذ خطوة جدية لإضفاء الشرعية على علاقتهما. 

في عام 2017، أنجبت ابنهما الذي يبلغ اليوم ثماني سنوات، لكن القدر لم يمهلهما لتصحيح الوضع، حيث توفي الأب العام الماضي دون أن يقوم بإجراءات تسجيل ابنه رسميا، ليجد الطفل نفسه بلا هوية قانونية.

وعلى خلاف قصة إيمان وكوثر، وجدت مريم دعما من والديها حيث احتضناها وطفلها ولم يتخلوا عنها، إلا أن مشكلتها الأساسية اليوم ليست اجتماعية بقدر ما هي قانونية، إذ لم تستطع تسجيل ابنها باسم والده في الحالة المدنية، رغم أن عائلة الأب تعترف به. لكن الاعتراف الشفوي لا يكفي أمام القانون، ما جعل الطفل محروما من أبسط حقوقه.

وتضيف مريم، في حديثها لموقع "الحرة"، أن الأب كان يعترف بابنه ويتردد على منزلها بشكل علني، لكن غياب الوثائق الرسمية جعله غير موجود قانونيا..".

 وبعد وفاة الوالد، وجدت مريم نفسها عاجزة عن تسجيل طفلها، خاصة أن المدرسة والمسؤولين باتوا يطالبونها بشهادة الولادة، مما يهدد مستقبل الطفل الدراسي والاجتماعي.

اليوم، تسعى مريم بمساعدة عائلة الأب الراحل، إلى الحصول على شهادة لإثبات نسب طفلها، وتأمل أن يتمكن القانون من إنصافه. 

لكنها لا تزال تخشى أن تصطدم بإجراءات معقدة تحرم طفلها من حقه في الاسم والهوية. وأملها أن يعيش ابنها حياة طبيعية دون أن يحاسب على ظروف لم يكن له يد فيها.

"ظلم للأطفال"

وفي سياق هذه الشهادات، تثير الخبرة الجينية (فحص الحمض النووي لإثبات النسب) نقاشا واسعا في المغرب خاصة بعد أن رفض المجلس العلمي الأعلى اعتمادها لإثبات نسب الأطفال المولودين خارج إطار الزواج. 

وتنتقد رئيسة مركز النجدة لمساعدة النساء ضحايا العنف بالرباط، فاطمة مغناوي، رأي المجلس الشرعي في المضامين الأساسية لمراجعة مدونة الأسرة (قانون الأسرة)، مؤكدة أن ذلك يحرمهم من هويتهم القانونية رغم الاعتراف بحقهم في النفقة.

وتتابع مغناوي حديثها لموقع "الحرة"، مؤكدة  أن المصلحة الفضلى للطفل تقتضي ضمان حقوقه في الحماية والرعاية. 

وتعتبر أن إعفاء الآباء من مسؤولياتهم ظلم للأطفال. وتستند إلى الدستور المغربي الذي يلزم الدولة بحماية جميع الأطفال، واتفاقية حقوق الطفل التي تنص على حق الطفل في معرفة والديه وتلقي رعايتهما.

وتشير مغناوي إلى أن الأمهات العازبات يواجهن تحديات قانونية واجتماعية، أبرزها صعوبة تسجيل أطفالهن في المدارس والولوج إلى الخدمات الصحية والحصول على الوثائق الرسمية. 

وتضيف أن الأطفال يعانون من التمييز والتهميش، بينما تتحمل الأمهات وحدهن العبء النفسي والمادي. وترى أن عدم الاعتراف بالنسب يزيد من معاناتهن ويؤدي إلى إقصاء اجتماعي لأطفالهن.

وتدعو الناشطة الحقوقية إلى مراجعة القوانين لحماية الأمهات العازبات والاعتراف بالأسر أحادية الوالد، مع تعزيز برامج التمكين الاقتصادي والاجتماعي. 

وأكدت ضرورة اعتماد الخبرة الجينية كوسيلة علمية لإثبات النسب، باعتبارها حقا أساسيا للأطفال، يضمن لهم هوية قانونية ويحميهم من التمييز ويمنحهم فرصا متساوية في المجتمع.

"وصم مجتمعي"

ومن جانبها، توضح الأخصائية النفسية والباحثة في علم النفس الاجتماعي، بشرى المرابطي، في تصريح لموقع "الحرة"، أن النساء يواجهن فراغا قانونيا في إثبات نسب الأطفال المولودين خارج الزواج، سواء بسبب الاغتصاب، أو تخلي الرجل عن العلاقة عند حدوث الحمل، أو الفقر الذي يدفع بعض النساء للبحث عن الاستقرار، ليجدن أنفسهن في مواجهة المسؤولية وحدهن.

وتؤكد المرابطي أن الأطفال المولودين خارج الزواج يعانون من التنمر والوصم الاجتماعي، مما يؤثر على تقديرهم لذاتهم ويدفع بعضهم لسلوكيات خطرة كالإدمان والانحراف.

وقالت: "كما أن غياب الأب يترك فراغا نفسيا يؤدي إلى مشكلات تعليمية وسلوكية، وهو تحد حتى في المجتمعات الغربية، مما يبرز أهمية الاستقرار الأسري لنمو الطفل السليم".

وتبرز المرابطي أن الأمهات العازبات يواجهن معاناة نفسية وتحديات صعبة، مثل النبذ الأسري وصعوبة السكن والوصم المجتمعي، مما يدفع بعضهن للتنقل المستمر. 

وتضيف أنهن يعانين من مشكلات قانونية في تسجيل أطفالهن، مما يحرمهم من التعليم والصحة. ورغم ذلك، تبذل العديد منهن جهودا كبيرة لتربية أطفالهن في ظروف قاسية رغم تخلي الآباء عن مسؤولياتهم.

ودعت المرابطي إلى إثبات نسب الأطفال عبر الخبرة الجينية، وإلزام الآباء بالنفقة حتى استقرار الأبناء، مع دعمهم نفسيا في المدارس، وإنشاء مراكز رعاية لتعويض غياب الأب.

وتلفت إلى أن الاجتهاد الفقهي يتيح الاعتراف بنسب هؤلاء الأطفال، ما يستدعي مراجعة القوانين لضمان حقوقهم وحمايتهم من التهميش والحرمان.

فؤاد الفلوس

وجوه وقضايا

الجانب المظلم من حقيقة الذكاء الاصطناعي

ضياء عُطي
21 مارس 2025

لتقنيات الذكاء الاصطناعي أثر إيجابي على كثير من مجالات حياتنا اليومية، لكن ما قد يخفى عن كثيرين هو تأثيراتها الضارة على الحياة بشكل عام: الحياة على هذا الكوكب.

استهلاك شركة مايكروسوفت من الكهرباء في عام 2023، على سبيل المثال، تجاوز 24 تيراواط، أي أكثر من استهلاك بلد مثل الأردن، أو حتى السعودية.

ويزيد الاستخدام المفرط للطاقة غير النظيفة لإنتاج الكهرباء من تداعيات الانبعاثات الضارة على البيئة. 

إلى جانب الكهرباء، يستخدم قطاع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي كميات هائلة من المياه لتبريد الأجهزة المعالجة للخوارزميات المعقدة.

الجبهة الأمامية

مراكز البيانات هي الجبهة الأمامية في الصراع نحو تصدر مجال الذكاء الاصطناعي.

هذه المراكز ليست حديثة العهد، فقد أُسس أول مركز معني بالبيانات في جامعة بنسلفانيا الأميركية عام 1945 لدعم ما عُرف حينها كأول كمبيوتر رقمي متعدد الأغراض، "ENIAC" اختصارا.  

هذه المراكز هي العمود الفقري للحوسبة الحديثة المعنية بتخزين كميات ضخمة من البيانات ومعالجتها.

تلك البيانات تكفل استمرار تشغيل كافة المواقع العاملة عبر شبكة الإنترنت، ما يسهل عمل الهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب.

لكن ظهور الذكاء الاصطناعي، التوليدي منه تحديدا، مثل خدمات "تشات جي.بي.تي" و"جيميناي" مثلا، غيّر "دراماتيكيا" في عمل مراكز البيانات، وفقا لمقال نشره معهد ماساتشوستس للتقنية "أم آي تي". 

واليوم، تتكون تلك المراكز من بنايات صناعية كبيرة، في داخلها مجموعة من الأجهزة الإلكترونية الضخمة.

داخل تلك البنايات هناك أجهزة تخزين البيانات الرقمية وخوادم الاتصالات والحوسبة السحابية، التي تمكن من تخزين ومعالجة البيانات.

بين عامي 2022 و 2023 ارتفعت متطلبات مراكز البيانات من الطاقة، في أميركا الشمالية، من 2,688 ميغاواط إلى 5,341 ميغاواط، وفق تقديرات علماء.

جزء من هذا الارتفاع مرتبط بالاحتياجات التي فرضها الذكاء الاصطناعي التوليدي، وفق "أم آي تي".

عالميا، بلغ استهلاك مراكز البيانات من الطاقة، في عام 2022، 460 تيراواط.

وتحتل مراكز البيانات المرتبة 11 بين الأكثر استهلاكا للكهرباء سنويا حول العالم، وهي مرتبة وسط بين فرنسا (463 تيراواط) والسعودية (371 تيراواط)، وفقا منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

وبحلول 2026، تشير "أم آي تي"، إلى أن استهلاك مراكز البيانات للكهرباء قد يصل إلى 1,050 تيراواط، ما قد يرفعها إلى المرتبة الخامسة، بين اليابان وروسيا.

الذكاء الاصطناعي التوليدي وحده ليس العامل الوحيد، يوضح المعهد التقني، لكنه "دافع أساسي" باتجاه زيادة الطلب على الطاقة والمياه. 

تستخدم تلك المراكز كميات ضخمة من الطاقة الكهربائية، وتكون لديها مصادر طاقة بديلة عند انقطاع التزويد أو في حالات الطوارئ، ما يمكّنها من الاستمرار في العمل.

لكن توفير الطاقة الكافية لتشغيل تلك المراكز أصبح تحديا في ظل ارتفاع الطلب العالمي على الطاقة.

الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قدّم خطة لتطوير الطاقة النووية في الولايات المتحدة تحظى بدعم لافت من جمهوريين وديمقراطيين على حد السواء، وقد تشكل الحل الأكثر رفقا بالبيئة.

البروفسور آناند راو من جامعة كارنيغي ميلون أوضح لموقع "الحرة" أنه بالإضافة إلى الاستخدام المكثف للطاقة الكهربائية، ظهرت معضلة جديدة أمام تلك المراكز.

الأجهزة الإلكترونية الضخمة التي تستهلك كميات كبيرة من الطاقة ترتفع حرارتها إلى درجات عالية جدا، ما يؤثر على قدرتها، وقد يؤدي حتى إلى تلفها.

قد يبدو ذلك غريبا لأول وهلة، ولكن على عكس حاسوبك الصغير الذي يستعمل مروحة أو اثنتين لتبريد رقاقاته الإلكترونية، تستخدم أجهزة مراكز البيانات الماء للتبريد.

تدخل آلاف الغالونات من الماء إلى مبادل حراري يشغل شبكة ضخمة ومتشعبة من الأنابيب والمبردات تمتد إلى كافة الأجهزة الكهربائية والإلكترونية، دون أن يلامس الماء، طبعا، أيا من الدارات الكهربائية.

ومثلما هو الحال بالنسبة للكهرباء، يضع استهلاك تلك الكميات الكبيرة من الماء ضغطا كبيرا على الموارد المحلية للمنطقة حيث تكون مركز البيانات.

بات من الواضح أن استدامة عمل تلك المراكز أصبحت مرتبطة بتأمين موارد كبيرة من الكهرباء والماء.

لكنّ هناك حلولا أخرى، بحسب البروفيسور راو، مثل استخدام النيتروجين للتبريد عوضا عن الماء.

رغم أن النيتروجين متوفر بكميات كبيرة، إذ يمثل نحو 78 في المئة من الهواء في الغلاف الجوي للأرض، فإن استخدامه للتبريد مكلف كثيرا، ما يجعل الماء خيارا اقتصاديا أفضل.

حلول مبتكرة تعيقها "الهلوسة"

عوضا عن بذل جهد كبير في محاولة تبريد الأجهزة الإلكترونية، لماذا لا يتم استخدام أجهزة تطلق حرارة أقل، ما يعني بالضرورة أنها تستهلك كمية أقل من الطاقة؟

قد يخيل إليك أن هذه فكرة مثالية بعيدة عن الواقع، ولكن، مرة أخرى، يتحول الخيال إلى حقيقة.

تجري منذ مدة أبحاث تهدف لتطوير ما اصطلح على تسميته بحواسيب الكوانتوم التي تُعرف أيضاً باسم الحواسيب الكمومية.

اعتماد هذا النوع من الحواسيب على "فيزياء الكم" جعلها قادرة على القيام بعدد ضخم من الحسابات في وقت قصير ما جعلها تستخدم كمية طاقة أقل.

البيانات المعروفة بالإنكليزية بكلمة "بايت" وتعتمد نظام الرياضيات الثنائي المكون من رقمين هما 0 و1، وهو النظام المستخدم في الحواسيب.

لكن حواسيب الكم تعتمد على "الكيوبتات"، التي بإمكانها أن أن تكون في حالتي 0 و1 في نفس الوقت، وهو ما يعرف باسم التراكب الكمومي.

مكنت تلك الخاصية الفريدة هذه الحواسيب من إظهار قدرة كبيرة على فك المعادلات المعقدة وتقديم أجوبة متطورة على أسئلة مركبة، عبر معالجة العديد من المعادلات والمسائل في نفس الوقت.

وبالطبع، استخدمت حواسيب الكم في تطوير النماذج اللغوية للذكاء الاصطناعي، لكن الأجوبة التي قدمتها كانت "غير مستقرة".

وتعبير "غير مستقرة" يعبر عنها أحياناً بـ "الهلوسة"، حسب ما أوضح لموقع "الحرة"، كل من سام رزنيك، الباحث في معهد الأمن والتكنولوجيا الناشئة في جامعة جورج تاون الأميركية، والبروفيسور راو.

هذه "الهلوسة" البرمجية تتمثل في تقديم نموذج الذكاء الاصطناعي إجابات خاطئة وغير منطقية أو مخالفة للواقع أو عبثية لا معنى لها.

مجتمع الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي يسعى لتحسين قدرات حواسيب الكم، للاستفادة من قدراتها الفريدة خصوصا من ناحية الوصول إلى نفس النتائج لكن بجهد أقل ووقت أقصر.

سباق العمالقة

ويتوالى سباق السيطرة على هذه التكنولوجيا التي فتحت أبواب الأرباح المالية الضخمة والسيطرة السياسية وحتى العسكرية، وسط مخاوف من تهديدها حرية التفكير والتعبير.

خلال الأسابيع القليلة الماضية شهدت تطبيقات الذكاء الاصطناعي نموا صاروخيا وحققت أرقاما فلكية.

ارتفع عدد مستخدمي "تشات جي.بي.تي" نهاية فبراير بنسبة 33 في المئة مقارنة بنفس العدد في ديسمبر الماضي ليصل إلى 400 مليون مستخدم أسبوعيا.

ومن أهم مستخدمي "تشات جي.بي.تي" نجد بنك "مورغان ستانلي" الاستثماري وشركات كبرى مثل "تي موبايل" و"مودرنا" و"أوبر".

أما نموذج "ديب سيك" الصيني، فارتفع عدد مستخدميه 12 مرة خلال شهر يناير الماضي، ليصل الآن إلى معدل 700 ألف مستخدم أسبوعيا.

والتحقت شركة "أكس.أيه.آي" بالركب، ومنذ طرحها نموذج "غروك 3" ارتفع عدد مستخدميه من 4.3 مليون إلى 31.5 مليون مستخدم يوميا، وذلك خلال 3 أسابيع فقط.

وزعمت الشركة المنتجة لنموذج "ديب سيك" الصيني أنه يقدم خدمة أقل كلفة ومماثلة لنظيره الأميركي "تشات جي.بي.تي" من شركة "أوبن أيه آي".

سرعان ما خرج نموذج أميركي آخر بعد أقل من شهر، يسمى "غروك 3"، ليقدم قدرات أكبر.

شركة "أكس أيه آي"، التي أسسها إيلون ماسك عام 2023، تقول إن نموذج "غروك 3" هو الأفضل حتى الآن.

ظهور "ديب سيك" شكل صدمة ليس للباحثين المختصين بل للأسواق العالمية وحتى السياسة الدولية.

"ديب سيك" اعتمد تقنية تسمى استخلاص النماذج، يقول رزنيك في حديثه لموقع "الحرة".

تعتمد هذه التقنية على طرح آلاف من الأسئلة على نموذج "تشات جي.بي.تي"، لفهم طريقة تحليله للمعلومات.

أي لفهم طريقة تفكيره، والتعلم منها عبر التدرب على ذلك النموذج.

وبناء على ذلك قام الباحثون الصينيون ببناء نموذج "ديب سيك"، باستخدام الأجوبة المقدمة من "تشات جي.بي.تي".

ومع ارتفاع عدد مستخدمي الذكاء الاصطناعي تتزايد الحاجة إلى مزيد من مراكز البيانات، ما يعني، في المحصلة، استهلاكا أكبر للكهرباء والمياه، وما يصحب ذلك من تآكل لإمكانيات استمرار الحياة على كوكب الأرض.

مفاجآت بالجملة

الباحثان اللذان تحدثنا إليهما يخالفان الاعتقاد السائد بأن الصينيين لا يملكون  قدرات حاسوبية كبيرة نظرا لتأخرهم في مجال الرقائق الإلكترونية.

فمنظومة "ديب سيك" أصبحت تستخدم عددا كبيرا من الرقائق المصنعة من طرف شركة هواوي الصينية.

يكشف رزنيك لنا سرا آخر من خبايا الصراع الخفي للسيطرة على شعلة القيادة في مجال الذكاء الاصطناعي.

نموذج "ديب سيك" يعتمد على قدرات حاسوبية كبيرة، لكن السر يكمن في طبيعة الرقاقات الإلكترونية.

هناك نوعان رئيسيان من الرقاقات الإلكترونية المعتمدة في نماذج الذكاء الاصطناعي.

الرقائق المتقدمة مثل تلك المنتجة من شركة "إنفيديا"، ومقرها ولاية كاليفورنيا الأميركية، تعرف باسم رقائق "جي.بي.يو"، وتستخدم للعمليات المعقدة مثل تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي.

كلمة "جي.بي.يو" هي الاختصار الإنكليزي لمصطلح "graphic processing unit" أو (GPU) اختصارا، وتعني "وحدات معالجة الصور".

مكنت قدرات تلك الرقائق شركة "إنفيديا" من الوصول إلى قيمة سوقية تعادل نحو 3 ترليون دولار.

رقائق "جي.بي.يو" لم تكن في الأصل معدة للاستخدام في مجال الذكاء الاصطناعي.

"إنفيديا" عملت منذ تأسيسها عام 1993، في مجال الألعاب الإلكترونية أو ألعاب الفيديو، وأرادت الحصول على صور ذات نوعية جيدة، تضفي طابعا أكثر واقعية على ألعاب الفيديو.

في ذلك الوقت كانت شركات التكنولوجيا مثل "إنتل" الأميركية تعمل على إنتاج رقائق حواسيب تعرف باسم "سي بي يو"، وهو الاختصار الإنكليزي لكلمة "سنترال بروسيسنغ يونت"، أو "وحدات المعالجة المركزية".

الرقائق الإلكترونية لوحدات المعالجة المركزية هي الأساس للحواسيب لذلك فهي أكثر انتشارا، لكن طريقة عملها تجعلها أقل تقدما في مجال الحسابات المعقدة.

من خلال التجارب الأولى للنماذج الحديثة للذكاء الاصطناعي، تبين أن وحدات معالجة الصور المنتجة من شركة "إنفيديا"، هي الأفضل بسبب قدرتها على إجراء العمليات الحسابية المعقدة، مع حجم معالجة أكبر.

تحولت "إنفيديا" من شركة تعمل في مجال ألعاب الفيديو إلى المزود الرئيسي للشركات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي.

منذ أعوام تشهد الولايات المتحدة والصين نزاعا بشأن الرقاقات المستخدمة في الذكاء الاصطناعي

المفارقة أن التحول المفاجئ كان سبباً في قوة الصدمة الناجمة عن نجاح نموذج "ديب سيك".

القدرة على تقديم نموذج يستخدم قدرات حاسوبية أقل تقدماً وضع مستقبل شركة "إنفيديا" في مرمى الشك وأثر على التداولات في الأسواق.

وأصبحت رقاقات "إنفيديا" طلبا أساسيا لدى كبرى شركات التقنية مثل "أمازون" و"غوغل" و"ميتا" و"مايكروسوفت" وغيرها.

لكن الاهتمام بذلك الحدث تجاوز عالم المال والأعمال.

ضياء عُطي