نظرت في عيني بوتين.. وهذا ما رأيت!
"عليك المقاومة حتى لو شعرت أنها غير مجدية،" يقول.
في لحظة، هو "بارون نفط". ملياردير.
أغنى أغنياء روسيا على الإطلاق.
في أخرى، سجين يتلظى بنيران البرد؛ في أصقاع سايبيريا.
يتذكر سنواته الطويلة في معسكرات العمل القسري.
قسوة الحراس عندما وجدوا في حوزته تفاحة.
في منفاه، وصفته الصحافة الغربية بـ"أشرس" معارضي فلاديمير بوتين.
هو الذي قسى على الدكتاتور في اجتماع علني.
ميخائيل خودوركوفسكي يشبه بطلا من أبطال هوليوود، ما عدا إنه حقيقي، من لحم ودم.
مع ذلك، يرى، هو، سيرته الذاتية في مرايا أعمال من الأدب السوفيتي.
في حوار مع موقع "الحرة،" يقول الرجل إنه تعلم من الكاتبين فاسيلي غروسمان، وفارلام شالوموف أن "من يخشى الموت يعيش حياة بائسة".
فيكتور شتروم
في رواية لغروسمان، يتلقى بطلها، عالم الفيزياء فيكتور شتروم، اتصالا هاتفيا من جوزيف ستالين نفسه، فتنفرج أسارير الحظ أمام عينيه.
وينجو بفضل المكالمة من الاعتقال، وربما الموت في سجن متجمد.
يصف شتروم صوت ستالين، عبر الهاتف، بأنه كان دافئا . مع ذلك، لم يفهم الفيزيائي البارع لماذا طغى على فرحته بالنجاة أحساس بالعار.
خودوركوفسكي، لم ينتظر مكالمة من بوتين. تحدث هو مع الدكتاتور وجها لوجه.
قال له إن النخبة الحاكمة موغلة في الفساد.
وكان بوتين عرّاب تلك النخبة، بطبيعة الحال.
"كنت أنظر في عينيه مباشرة عندما كنت أتحدث إليه"، يقول خودوركوفسكي الذي كان ضمن دائرة المقربين، الضيقة، للرئيس الروسي.
مع ذلك، كان ثمن التحدي باهظا.
"كان بإمكاني أن ألزم الصمت، كان يمكن تكون حياتي مختلفة"، يقول خودوركوفسكي لموقع الحرة.
ـ هل تشعر بالندم؟
ـ نعم، ولا.
ـ ممكن أن توضح أكثر؟
ـ كل يوم، عندما أفكر بما كان يمكن أن يحدث لو كان مصيري مختلفا، أشعر بالندم، لأن مصيري هذا صعب جدا. لكن، من ناحية أخرى، كان من الممكن أن يكون أسوأ.
ـ كيف؟
ـ كان يمكن أضطر إلى القتال في أوكرانيا، وأتورط فعليا في قتل أصدقائي وجيراني، وبعضهم أقاربي، في أوكرانيا.
ـ ما الذي دفعك لتحدي بوتين؟
ـ أردت أن أعرف هل كان ضالعا في مخطط الفساد الكبير هذا، أم أنه يمكن أن يصبح حليفا في مكافحة الفساد.
ـ هل توصلت إلى نتيجة؟
ـ بوتين رجل عصابات. آل كابون روسي.
في الاجتماع، تصرف بوتين مثلما يتصرف زعيم مافيا في السينما الأميركية.
بدا عطوفا عندما أثنى على دور الأوليغارش في الاقتصاد الروسي، لكن القسوة حجّرت ملامحه وهو يصغي لانتقادات خودوركوفسكي، في اجتماع 2003 الشهير.
تلازُم التأثر العاطفي والقسوة المفرطة هو ما يجمع، أيضا، بين الدكتاتور، أي دكتاتور، وزعيم عصابة مافيا.
بين بوتين وآل كابون.
شالاموف
بين خودوركوفسكي والكاتب فارلام شالوموف أواصر كثيرة. كلاهما عارض النظام ودفع ثمن مواقفه سنوات متنقلا بين معسكرات الأشغال الشاقة.
رفض شالوموف (1907-1982)، أن يدين كاتبا آخر معارضا، في عهد ستالين، فاتهموه بـ"معاداة الثورة". وقضى نحو 16 عاما من عمره سجينا في الجزء المتجمد من روسيا.
ودعم خودوركوفسكي أحزابا معارضة، فواجه تهما متعددة، حولتها محاكم بوتين إلى عقوبات انتقامية قاسية. وأُرسل إلى سيبيريا.
تتصارع شخصيات شالاموف في المعقتلات السوفيتية، ليس من أجل البقاء على قيد الحياة، وإنما للحفاظ على إنسانيتها.
سايبيريا، وفق عوالم شالاموف، تختزل الإنسان إلى آلة غرائز.
"لأنني قرأت شالاموف،" يقول خودوركوفسكي، "استطعت الصمود في السجن".
إضراب جاف عن الطعام
خاطرت بحياتي داخل السجن مرات عدة، يقول خودوركوفسكي لموقع "الحرة".
أضرب عن الطعام 4 مرات.
في إحداها، امتنع، كذلك، عن شرب الماء.
"مثل أي إنسان طبيعي، لم أكن أريد أن أموت،" يقول المعارض الروسي، "وفي كل مرة كانوا يتنازلون" وينتصر.
لكسره، كنوا يرسلونه إلى الانفرادي من حين لآخر.
مرة، لأنه شرب كوب شاي، "في مكان غير مخصص لشرب الشاي" داخل المعتقل الأجرد.
وأخرى، بسبب تفاحة وليمونتين.
"من أوصل إليك الفاكهة؟
أرادوه أن يشي بزملائه.
بارون النفط
أبوه يهودي وأمه مسيحية. كان في صباه عضوا نشطا في الحزب الشيوعي، لكن شهرته تجلت في عالم الأعمال.
حقق ثروة هائلة من التجارة.
وزادت ثروته بالاستحواذ على أصول دولة في "الخصخصة" التي أطلقها الرئيس الروسي السابق، بوريس يلتسين، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991.
شراؤه حصة 78% من "يوكوس"، ثاني أكبر شركة نفط في روسيا، مقابل نحو 310 ملايين دولار، عام 1995، كانت أهم صفقاته.
جعلته "يوكس" الأغنى في روسيا.
وأضحى خودوركوفسكي مقربا من بوتين الذي تسلم السلطة من يلتسين عام 2000.
لكن شهر العسل بين رجل الأعمال والدكتاتور لم يدم طويلا.
كان الاتفاق أن يبقى خودوركوفسكي بعيدا عن السياسة، ليبقى بمأمن من غضب بوتين.
كان اجتماع فبراير 2003 حاسما في العلاقة بين الرجلين.
على الهواء مباشرة، تحدث خودوركوفسكي، وكان يجلس على طاولة واحدة مع بوتين، وأوليغارش آخرين، عن الفساد في روسيا.
لمّح إلى أن السلطة أيضا ضالعة في الفساد.
رد بوتين، وعلامات الاستياء بادية على محيّاه، بأن "يوكوس" نفسها استفادت من صفقات الخصخصة المشبوهة.
يقول خودوركوفسكي لموقع "الحرة" إن "بوتين أجاب بدقة شديدة على انتقاداته، مستخدما مصطلحا روسيا يعني: الكرة في ملعبك الآن".
الانتقام
صبيحة الخامس والعشرين من أكتوبر 2003، اقتحم ملثمون من الشرطة السرية طائرة خودوركوفسكي الخاصة أثناء هبوطها في مطار نوفوسيبيرسك، جنوبي روسيا، للتزود بالوقود.
وتحت تهديد السلاح، نقلوه إلى موسكو، حيث واجه تهما بالاحتيال.
جمّد بوتين أسهم "يوكوس" بعد اتهامها بـ"التهرب الضريبي"، فانهارت أسهمها، وتبخرت ثروة خودوركوفسكي.
في مايو 2005، أدين وحُكم عليه بالسجن لمدة تسع سنوات. وبينما كان يقضي عقوبته، حوكم، مرة أخرى، في ديسمبر 2010، بتهم جديدة: "الاختلاس وغسيل الأموال".
مُددت العقوبة إلى 2014. وبعد ضغوط أوروبية ـ تدخلت فيها المستشارة الألمانية، آنذاك، أنغيلا ميركل ـ خرج خودوركوفسكي من السجن في 20 ديسمبر 2013، بعفو من بوتين.
وُصف خودوركوفسكي بأنه كان "بارون نفط بارع". أدار إمبراطوريته المالية بشفافية على الطريقة الغربية.
وأنفق، كما تفعل الشركات في الدول الديمقراطية، "بسخاء" على جماعات الضغط في روسيا. وتبرع لمشرعين روس أثناء حملاتهم الانتخابية. ومول أحزابا سياسية معارضة.
وألمح قبل اعتقاله إلى أنه قد يترشح لرئاسة روسيا.
أحدثت محاكمته في 2005 ضجة كبيرة داخل روسيا وخارجها، إذ كانت أسبابها سياسية واضحة.
ضج العالم بأنباء إدانته الثانية، ثم خروجه من السجن، كذلك.
لو كان خودوركوفسكي قد بقي في روسيا بعد خروجه من السجن بعفو رئاسي، هل كان سيتمتع بالحرية التي انتظرها طويلا؟
كان سيبقى مدينا، بحرية مستحقة، لدكتاتور.
ربما، لهذا شعر فكتور شتروم، في رواية غروسمان، بالمرارة بعدما أنقذته مكالمة من ستالين.
فهو لم يرتكب جرما، في الأصل.
المنفى
بعد إطلاق سراحه في ديسمبر 2013، غادر روسيا فورا، وأصبح منذ ذلك الحين "أشرس منتقدي" بوتين في الخارج، وفق وصف الصحافة الغربية.
وفي عام 2014، قضت محكمة في لاهاي بأن موسكو استولت على يوكوس، بأعمال بلطجة عام 2003.
شلت بوتين الشركة، عمدا، بمطالبات ضريبية ضخمة.
وأمرت المحكمة روسيا بدفع 50 مليار دولار لملّاك الشركة.
لكن خودوركوفسكي لم يحصل على أي تعويض، حتى الآن. رفضت السلطات الروسية تنفيذ قرار المحكمة.
مع ذلك لا يبدو على الرجل، الذي حل ضيفا على المكتب الرئيس لـMBN في منطقة واشنطن، ما يوحي بالأحساس بالخسارة.
قلما فارقت الابتسامة وجهه السيتني، وهو يجيب على أسئلتنا بالروسية.
أحيانا يسبق المترجم في إجاباته؛
وأحيانا يمهد للإجابة بابسامة عريضة وهزة من الرأس:
ـ الأوليغارش ليسوا كما يظن البعض. هم مجرد خدم للدكتاتور.
ـ ماذا يريد بوتين؟ مزيدا من الثروة؟
ـ لا، لديه كثير من المال. الشيء الوحيد الذي يبقيه مستيقظا طوال الليل هو الخوف من فقدان سلطته.
وتتوالى ردود خودوركوفسكي على أسئلتنا:
ـ لكن في النهاية، يفقد جميع الطغاة السلطة، ولا مفر من ذلك.
ـ لكن كم سيستغرق ذلك بالنسبة لبوتين؟
ـ للأسف، نظرا لمستوى النجاح الذي حققه في حربه في أوكرانيا، سيحتاج الأمر ما بين 5 و 10 سنوات أخرى ربما.
ـ وإذا رحل بوتين؟
ـ ستحتاجه روسيا إلى علاقات جيدة مع الغرب ومع الصين. بوتين لم يستطع الموازنة بين العلاقة مع الغرب والعلاقة مع الصين. وخياره لم يكن الأفضل لروسيا.
ـ بعض العرب يعتقدون أنه زعيم قوي وهذا يكفي. ما رأيك؟
ـ في روسيا، بعد نحو ربع قرن في السلطة، خسر بوتين الفضاء الشعبي الواسع. في العقد الماضي، لم يتحسن مستوى معيشة المواطن كثيرا، والمستقبل لا يبدو أفضل من اليوم. حتى تكنولوجيا البلاد في تراجع.
ـ ماذا عن مجموعة "فاغنر" ووفاة قائدها الذي كان مؤثرا؟
يعتقد خودوركوفسكي أن مجموعة فاغنر تراجعت قوتها بالفعل، ويركز أفرادها الآن على جني الأموال "وخلق المشاكل للدول الغربية".
لا يعارض بوتين مساعي المجموعة لجمع الأموال "فهو يملك أموالا أكثر مما يمكن لأي شخص في العالم أن يتخيله"، يضيف.
ما يريده هو "خلق المشاكل للغرب والولايات المتحدة وإرغامهما على الجلوس على طاولة المفاوضات معه وبجدية".
ويتابع ساخرا: "إذا أراد أي شخص خلق مشاكل للغرب ولنفسه في نفس الوقت، فيمكنه العمل مع مجموعة فاغنر".
"هو لا يكترث بضحايا هذه المجموعة في الشرق الأوسط وأفريقيا، هذا ليس في دائرة اهتمامه كثيرا، فهو لا يهتم حتى بالمواطن الروسي".
ولكن الناس من حوله ما زالوا مهتمين للغاية بكسب المال. ولهذا السبب، فإنهم يفعلون ما في وسعهم من أجل تحقيق هذا الهدف.
لقاء ترامب وبوتين المرتقب.. من يكسب؟
يعتقد خودوركوفسكي أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي يُتوقع أن يلتقي بوتين للتفاوض حول حرب أوكرانيا، يستطيع التعامل مع الزعيم الروسي.
ترامب "لا يحتاج إلى نصيحته في هذا الأمر"، يقول.
بشكل عام، "الطريقة التي تتعامل بها مع رجال العصابات هي إظهار القوة".
"ترامب يفهم هذا الأمر، لكن قد تحدث أمور غير متوقعة، لذلك لا يمكن معرفة مدى نجاح هذا اللقاء المحتمل".
يمتلك ترامب "أوراق لعب جيدة ويمكنه أن يكسب بها، إذا استخدمها بشكل صحيح".
و"بالنسبة لهذا النوع من المفاوضات، فإن ترامب جيد جدا".
من بين جميع الزعماء الغربيين الحاليين، "ترامب هو الأفضل للتفاوض مع رجل العصابات بوتين".
في ختام المقابلة، يقول المعارض الروسي البارز إن الدرس الذي تعلمه الأديب الروسي شالوموف من تجارب حياته، وتعلمه خودوركوفسكي من قراءة أعماله هو أن "من يخشى الموت قد لا يستطيع الحياة".
"هذا هو السبب الذي جعلني أخاطر بحياتي، وفي كل مرة كنت أنتصر".