وجوه وقضايا

هوس "زيادة الوزن".. الكورتيزون في ميزان الصحة والمجتمع!

غادة غالب - واشنطن
19 فبراير 2025

من فستان الفرح، إلى قاعة الزفاف، وحتى وجهة شهر العسل، كل شيء كان جاهزا في أدق تفاصيله، فلم تغفل أماني أية جزئية مهما كانت بسيطة؛ كيف لا و"هذا حلم العمر" بالنسبة لها، الذي انتظرته طوال ثلاثة وثلاثين عاما.

لكن الزفاف الذي كان من المقرر عقده في ديسمبر الماضي، تم تأجيله إلى أجل غير مسمى، أو بالأحرى إلغاؤه.

"لم يتحمل جسد أماني فرحتها الكبيرة"، على حد قولها، إذ اكتشفت "انقطاع الطمث أو دورتها الشهرية بشكل تام" بسبب تناولها لأدوية تحتوي على مادة الـ"كورتيزون" بهدف زيادة وزنها.

حالة أماني ليست معزولة، فقد انتشرت في الآونة الأخيرة في مصر تركيبات زيادة الوزن التي تحتوي على مادة الكورتيزون لعلاج النحافة بين الفتيات والشباب على حد سواء.

تصف بعض عيادات علاج السمنة والنحافة هذه التركيبات لزبنائها، رغم ما تتسبب فيه من أضرار صحية كبيرة ورغم تحذيرات وزارة الصحة المتكررة على حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي.

عادت هذه الظاهرة مجددا إلى الضوء خلال الأيام القليلة الماضية، بعد حديث بلوغر معروفة عن تناولها لأقراص كورتيزون بهدف زيادة وزنها، وهي التصريحات التي عادت ونفتها بعد هجوم من رواد مواقع التواصل، وتحديدا من العديد من الأطباء، الذين شددوا على خطورة هذا الأمر.

تواصل موقع "الحرة" مع أحد الأطباء بعد عدة منشورات كتبها على حسابه على موقع "فيسبوك" حذر فيها من مخاطر أدوية الكورتيزون التي تصفها بعض العيادات لـ"علاج النحافة"، وبدوره أوصلنا بمريضتين تضررتا من تناولها، هما أماني ومارينا.

أماني: حبة كورتيزون كسرت قلبي

في غرفة نوم صغيرة بإحدى شقق منطقة كوبري القبة بالقاهرة، ترقد أماني، ٣٣ عاما، موظفة في مصلحة الضرائب المصرية، على فراش مقابل لدولاب عُلّق عليه فستان زفافها الذي يذكرها بـ"كسرة قلبها"، كما تصف لموقع "الحرة".

وتلخص قصتها قائلة: "أنا طول عمري بعاني من النحافة الزائدة، وسمعت من زميلة لي في العمل أن بعض العيادات تصف أدوية تزيد الوزن بشكل سريع، فلجأت إلى إحداها على أمل إيجاد علاج لي يحل مشكلتي قبل زفافي".

"حسبي الله ونعم الوكيل في كل دكتور بيأذي الناس، بس برده أنا اللي غلطانة"، تتحسر أماني.

تجد أماني في مثل هذه العبارات التي ترددها بشكل متكرر عزاء لها عند روايتها لمعاناتها، فتقول: "ذهبت قبل موعد زفافي بعام، والدكتورة قالت لي إنني أعاني من نحافة مزمنة والكورتيزون أسرع علاج لزيادة الوزن، وبالفعل بدأت العلاج. ورغم إدراكي لآثاره الجانبية، إلا أن الطبيبة طمأنتني".

لم تنجح محاولات أماني المضنية في التماسك، فأجهشت بالبكاء وهي تستكمل قصتها: "مع الوقت بدأت أشعر بالفعل بتحسن، وبدأت شهيتي للطعام تزداد، وزاد وزني تدريجيا، لكنني فوجئت قبل زفافي بشهرين بانقطاع دورتي الشهرية تماما".

بالنسبة لأماني وغيرها، في مجتمع مثل المجتمع المصري، فإن انقطاع الطمث، وتحديدا قبل زفافها، يعد شهادة وفاة لفرصها في الزواج، ما دفعها للتواصل مع طبيب آخر، والذي قال لها إن "تناول الكورتيزون لمدة تزيد عن 6 أشهر تسبب في مثل هذا العرض الجانبي".

تواصلت "الحرة" مع طبيب أماني، وهو استشاري أمراض النساء والتوليد وتأخر الإنجاب. يقول طارق عبد الكريم إن "الكورتيزون يؤثر على طريقة تخزين الدهون في الجسم، ويلجأ إليه البعض كوسيلة سريعة لزيادة الوزن، لكن نتائجه خطيرة، لأنه لا يؤدي إلى زيادة حقيقة وطبيعية، بل إلى تراكم الدهون في مناطق معينة مثل الوجه، ما يسبب انتفاخه أو Moon Face، بالإضافة إلى تجمع الدهون في أعلى الظهر والرقبة، فيما يعرف بـ"حدبة الجاموس" أو Buffalo Hump".

وتطرق عبد الكريم إلى دور عقار الكورتيزون بشكل عام، قائلا إن "الأدوية التي تشمل الكورتيزون والهيدروكورتيزون والبريدنيزون مفيدة في علاج الالتهابات مثل التهاب الأمعاء والمفاصل والربو والطفح الجلدي وغيرها من الحالات. وتعمل أيضًا على تثبيط الجهاز المناعي، ويمكن أن يساعد هذا في السيطرة على الحالات التي يهاجم فيها الجهاز المناعي أنسجته عن طريق الخطأ، أو في حالات نقل الأعضاء، لكن الكوتيزون يحمل أيضًا العديد من الآثار الجانبية".

وفيما يتعلق بالآثار الجانبية وتحديدا تلك المتعلقة بحالة أماني، يقول الطبيب المعالج إنه "يمكن أن تتداخل الكورتيزونات مع التوازن الهرموني في الجسم، بما في ذلك تنظيم الكورتيزول والهرمونات الأخرى المشاركة في الطمث. ويمكن أن يؤدي هذا إلى اضطرابات في الدورة الشهرية، مثل تأخرها، أو نزيفًا غزيرًا، أو مثلما حدث في حالة أماني انقطاعها تماما".

وللتبسيط أكثر يشرح الطبيب آن " الكورتيزونات تعمل عن طريق محاكاة هرمونات التوتر الطبيعية في الجسم، مثل الكورتيزول، ويمكن أن تؤثر هذه التقلبات الهرمونية على الغدة النخامية أو الغدد التناسلية (HPG) التي تتحكم في الدورة الشهرية. ونتيجة لذلك، قد تلاحظ الفتيات تغيرات في توقيت أو تدفق فترات الحيض".

ويضيف أن "تأثير عمل الكورتيزونات يمكن كذلك أن يحاكي استجابة التوتر في الجسم، والتي قد تؤثر على الهرمونات التناسلية وتسبب اضطرابات مؤقتة في انتظام الدورة الشهرية".

ويوضح أن "النساء المصابات بحالات سابقة مثل متلازمة تكيس المبايض (PCOS)، أو اختلالات الغدة الدرقية، أو بطانة الرحم، يكن أكثر عرضة للتغيرات في دورتهن الشهرية عند التعرض للكورتيزونات".

وفي إحدى الدراسات، عانت 51٪ من النساء في مرحلة ما قبل انقطاع الطمث من الحيض المبكر أو المتأخر بعد حقنة الكورتيزون. وفي دراسة أخرى، عانت 2.5٪ من النساء من جميع الأعمار من نزيف مهبلي غير طبيعي بعد حقنة الكورتيزون، بحسب المركز الأميركي للأشعة السينية.

ويعود عبدالكريم للحديث عن حالة أماني، التي وصفها بـ"النادرة"، قائلا إنه "في الطبيعي تعود الدورة الشهرية إلى طبيعتها في غضون أسابيع بعد توقف استخدام أدوية الكورتيزون، لكن حالة أماني استثنائية لأنها قبل تناول الكورتيزون كانت مصابة بفرط تنسج الغدة الكظرية الخلقي، وفي هذه الحالة يمكن أن يسبب العلاج التقليدي بالكورتيزون انقطاع الطمث أو قلة الطمث في أكثر من 25٪ من الحالات".

وفرط التنسج الكظري الخلقي(CAH) ، بحسب موقع "مايو كلينيك"، هو الاسم الطبي لمجموعة من الحالات الوراثية التي تُصيب الغدد الكظرية وهي زوج من الأعضاء بحجم حبة الجوز تقع فوق الكلى. وتُفرز هذه الغدد هرمونات مهمة وتشمل الكورتيزول الذي ينظم استجابة الجسم للمرض أو الإجهاد.

لكن الطبيب المعالج يطمئن على حالة أماني، قائلا إنها "حاليا منتظمة على علاج هرموني، وحتى الآن النتائج مبشرة، وربما تحتاج إلى عملية جراحية، لكن هذا ليس مؤكدا".

وتتمسك أماني بالأمل في نجاح علاجها، لكنها تحذر غيرها من الفتيات من الانجرار وراء كل "تريند"، على حد قولها، خاصة إذا كان من أجل إرضاء المجتمع ومعاييره.

بعد تراجع خطيبها عن الزواج منها، لا يسع أماني سوى أن تسترجع تعليقات الكثيرين على شكل جسدها وكيف يُفترض أن يكون، قائلة: "كنت عايزة أبقى حلوة في نظرهم، وتحديدا خطيبي ووالدته، لكن متخيلتش إني كدا بدمر نفسي من خلال شوية الأقراص دي".

مارينا: الكورتيزون منحني السكري بدل عريس

لا تختلف قصة مارينا كثيرا عن أماني، فالدافع واحد وهو محاولة إيقاف تعليقات منتقدي شكل جسدها "النحيف" في محيطها ومجتمعها، وطريقة الحل واحدة أيضا وهي اللجوء إلى أقراص الكورتيزون من أجل زيادة الوزن، وبالطبع، فالنتيجة أيضا واحدة وهي الإصابة بمرض مزمن.

"الناس كانوا بيقولوا إني لو تخنت شوية هبقى أحلى وهيجيلي عرسان أكثر"، بأسلوب ساخر يحمل في طياته حزناً عميقاً، بدأت مارينا حديثها لموقع "الحرة"، "بس مقالوش إني لو أصبت بالسكر، مش هيجيلي عرسان خالص".

على مدى سنوات، طرقت مارينا، ذات الـ28 عاما، أبواب العديد من الأطباء لرغبتها في زيادة وزنها، وعندما لم تشهد تحسنا، لجأت إلى العطارات لأخذ وصفات شعبية غير طبية، لكن أيضا بدون جدوى.

وتحكي مارينا أنها كانت تشاهد فتيات عبر تطبيقات فيديو يتحدثن عن تناولهن للكورتيزون لزيادة الوزن، وفي إحدى المرات كانت تحضر درسا في الكنيسة وصادفت إحدى قريباتها التي رشحت لها عيادة في المعادي تعطي دواء سحريا وفعالا لعلاج النحافة.

توجهت مارينا للعيادة، التي وصفتها بأنها "شهيرة ودوما مليئة بالمرضى الذين يترددون عليها"، وتقول إن طبيبا في هذه العيادة أوصى بتناولها لأقراص الكورتيزون كعلاج سريع لمشكلة النحافة التي تعاني منها، دون أن يطلع على أية تحاليل أو يسألها عن تاريخها المرضي.

تضيف مارينا أنها "شهدت نتائج جيدة وزاد وزني بشكل سريع، لكن بعد 8 أشهر، بدأت أشعر بأعراض مختلفة مثل الإعياء والإرهاق المستمر والعطش الشديد وكثرة التبول، وعاد وزني للانخفاض مجددا، وعندما توجهت للطبيب، طلب مني إيقاف جرعات الكورتيزون".

"أوقفت الكورتيزون، لكن التعب كان يزداد"، تستكمل مارينا قصتها، "بعد هذا اليوم، انقلبت حياتي تماما وبدلا من العريس جاءني ضيف آخر لا أريده وهو السكري". ومع استمرار شعورها بالإعياء، توجهت مارينا إلى طبيب آخر، وقامت بإجراء بعض التحاليل، فكانت المفاجأة هي إصابتها بداء السكري من الدرجة الثانية.

حالة مارينا يشرحها لموقع "الحرة" استشاري الأمراض الباطنية والسكري والغدد الصماء، أحمد الحصري، ويقول إنها "كانت تعاني قبل تناول الكورتيزون بحالة مرضية تنتشر بين الكثير من الناس وهي مقاومة الأنسولين، والذي يجب التعامل معها بحرص لأنها قد تتحول إلى داء السكري".

ويضيف أن "التحاليل المخبرية تظهر إذا كان الشخص لديه مقاومة للأنسولين، وعليه حينها مراقبة مستويات السكر في الدم باستمرار، وإجراء تغييرات في نمط الحياة، مثل تناول نظام غذائي صحي وممارسة الرياضة بانتظام وإدارة التوتر".

أما عن علاقة الكورتيزون بمرض السكري، فيشير الطبيب إلى أن "الكورتيزون يزيد من مقاومة الأنسولين، ما يجعل من الصعب على الجسم استخدام الجلوكوز (السكر) من الدم. كما يمكن أن يحفز الكبد لإنتاج المزيد من الجلوكوز، ما يرفع مستويات السكر في الدم".

وتطرق إلى حالة مارينا، قائلا: "عادةً يحدث ارتفاع مستويات السكر في الدم في غضون أيام قليلة من بدء علاج الكورتيزون، وقد يستمر التأثير لعدة أسابيع أو حتى أشهر بعد إيقاف الدواء، اعتمادًا على الجرعة ومدة العلاج. ولذلك فإن الأشخاص مثل مارينا الذين لديهم تاريخ من مرض السكري أو ما قبل السكري هم أكثر عرضة لخطر زيادة مستويات السكر في الدم مع الكورتيزون".

وتحدث الحصري عن خطورة تناول الكورتيزون بدون داعي مرضي، موضحا أنه يمكن أن يسبب آثارًا جانبية مختلفة، بما في ذلك احتباس السوائل، وارتفاع ضغط الدم، وارتفاع مستويات السكر في الدم، والأرق، وتغيرات المزاج (مثل القلق والتهيج)، وترقق الجلد وظهور الكدمات، وضعف العضلات.

وحذر الطبيب من انتشار عيادات التجميل والتخسيس وغيرها في مصر والتي تلجأ إلى "وسائل علاج غير صحية من أجل تحقيق مكاسب مادية"، وطالب بالمزيد من الرقابة والمحاسبة الفعالة.

وبسبب انتشار هذه الظاهرة، حذرت وزارة الصحة في مصر أكثر من مرة خلال السنوات الماضية عبر صفحتها الرسمية على فيسبوك المواطنين من استخدام تركيبات زيادة الوزن التي تحتوي على الكورتيزون، موضحة أنه يسبب ضعف المناعة واضطراب الدورة الشهرية عند السيدات وزيادة حب الشباب وشعر الوجه، كما يؤثر بشكل مُضر على مرضى السكري وارتفاع ضغط الدم.

وأكدت وزارة الصحة على ضرورة استخدام الكورتيزون للأغراض العلاجية المصرح بها فقط، مشيرة إلى أن الوزن ينخفض مرة أخرى عند المريض بمجرد إيقاف تناول الكورتيزون.

ولا تنكر أماني ومارينا معرفتهما المسبقة بخطورة الكورتيزون، لكنهما فضلتا إسكات أصواتهما الداخلية مقابل إرضاء المجتمع، ربما مع عدم إدراك كل منهما للثمن الذي ستدفعانه والذي ربما كاد أن يكلفهما حياتهما.

ويبقى السؤال: بعد دفع هذا الثمن الباهظ، هل رضي عنهما المجتمع؟

 

غادة غالب

وجوه وقضايا

الجانب المظلم من حقيقة الذكاء الاصطناعي

ضياء عُطي
21 مارس 2025

لتقنيات الذكاء الاصطناعي أثر إيجابي على كثير من مجالات حياتنا اليومية، لكن ما قد يخفى عن كثيرين هو تأثيراتها الضارة على الحياة بشكل عام: الحياة على هذا الكوكب.

استهلاك شركة مايكروسوفت من الكهرباء في عام 2023، على سبيل المثال، تجاوز 24 تيراواط، أي أكثر من استهلاك بلد مثل الأردن، أو حتى السعودية.

ويزيد الاستخدام المفرط للطاقة غير النظيفة لإنتاج الكهرباء من تداعيات الانبعاثات الضارة على البيئة. 

إلى جانب الكهرباء، يستخدم قطاع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي كميات هائلة من المياه لتبريد الأجهزة المعالجة للخوارزميات المعقدة.

الجبهة الأمامية

مراكز البيانات هي الجبهة الأمامية في الصراع نحو تصدر مجال الذكاء الاصطناعي.

هذه المراكز ليست حديثة العهد، فقد أُسس أول مركز معني بالبيانات في جامعة بنسلفانيا الأميركية عام 1945 لدعم ما عُرف حينها كأول كمبيوتر رقمي متعدد الأغراض، "ENIAC" اختصارا.  

هذه المراكز هي العمود الفقري للحوسبة الحديثة المعنية بتخزين كميات ضخمة من البيانات ومعالجتها.

تلك البيانات تكفل استمرار تشغيل كافة المواقع العاملة عبر شبكة الإنترنت، ما يسهل عمل الهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب.

لكن ظهور الذكاء الاصطناعي، التوليدي منه تحديدا، مثل خدمات "تشات جي.بي.تي" و"جيميناي" مثلا، غيّر "دراماتيكيا" في عمل مراكز البيانات، وفقا لمقال نشره معهد ماساتشوستس للتقنية "أم آي تي". 

واليوم، تتكون تلك المراكز من بنايات صناعية كبيرة، في داخلها مجموعة من الأجهزة الإلكترونية الضخمة.

داخل تلك البنايات هناك أجهزة تخزين البيانات الرقمية وخوادم الاتصالات والحوسبة السحابية، التي تمكن من تخزين ومعالجة البيانات.

بين عامي 2022 و 2023 ارتفعت متطلبات مراكز البيانات من الطاقة، في أميركا الشمالية، من 2,688 ميغاواط إلى 5,341 ميغاواط، وفق تقديرات علماء.

جزء من هذا الارتفاع مرتبط بالاحتياجات التي فرضها الذكاء الاصطناعي التوليدي، وفق "أم آي تي".

عالميا، بلغ استهلاك مراكز البيانات من الطاقة، في عام 2022، 460 تيراواط.

وتحتل مراكز البيانات المرتبة 11 بين الأكثر استهلاكا للكهرباء سنويا حول العالم، وهي مرتبة وسط بين فرنسا (463 تيراواط) والسعودية (371 تيراواط)، وفقا منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

وبحلول 2026، تشير "أم آي تي"، إلى أن استهلاك مراكز البيانات للكهرباء قد يصل إلى 1,050 تيراواط، ما قد يرفعها إلى المرتبة الخامسة، بين اليابان وروسيا.

الذكاء الاصطناعي التوليدي وحده ليس العامل الوحيد، يوضح المعهد التقني، لكنه "دافع أساسي" باتجاه زيادة الطلب على الطاقة والمياه. 

تستخدم تلك المراكز كميات ضخمة من الطاقة الكهربائية، وتكون لديها مصادر طاقة بديلة عند انقطاع التزويد أو في حالات الطوارئ، ما يمكّنها من الاستمرار في العمل.

لكن توفير الطاقة الكافية لتشغيل تلك المراكز أصبح تحديا في ظل ارتفاع الطلب العالمي على الطاقة.

الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قدّم خطة لتطوير الطاقة النووية في الولايات المتحدة تحظى بدعم لافت من جمهوريين وديمقراطيين على حد السواء، وقد تشكل الحل الأكثر رفقا بالبيئة.

البروفسور آناند راو من جامعة كارنيغي ميلون أوضح لموقع "الحرة" أنه بالإضافة إلى الاستخدام المكثف للطاقة الكهربائية، ظهرت معضلة جديدة أمام تلك المراكز.

الأجهزة الإلكترونية الضخمة التي تستهلك كميات كبيرة من الطاقة ترتفع حرارتها إلى درجات عالية جدا، ما يؤثر على قدرتها، وقد يؤدي حتى إلى تلفها.

قد يبدو ذلك غريبا لأول وهلة، ولكن على عكس حاسوبك الصغير الذي يستعمل مروحة أو اثنتين لتبريد رقاقاته الإلكترونية، تستخدم أجهزة مراكز البيانات الماء للتبريد.

تدخل آلاف الغالونات من الماء إلى مبادل حراري يشغل شبكة ضخمة ومتشعبة من الأنابيب والمبردات تمتد إلى كافة الأجهزة الكهربائية والإلكترونية، دون أن يلامس الماء، طبعا، أيا من الدارات الكهربائية.

ومثلما هو الحال بالنسبة للكهرباء، يضع استهلاك تلك الكميات الكبيرة من الماء ضغطا كبيرا على الموارد المحلية للمنطقة حيث تكون مركز البيانات.

بات من الواضح أن استدامة عمل تلك المراكز أصبحت مرتبطة بتأمين موارد كبيرة من الكهرباء والماء.

لكنّ هناك حلولا أخرى، بحسب البروفيسور راو، مثل استخدام النيتروجين للتبريد عوضا عن الماء.

رغم أن النيتروجين متوفر بكميات كبيرة، إذ يمثل نحو 78 في المئة من الهواء في الغلاف الجوي للأرض، فإن استخدامه للتبريد مكلف كثيرا، ما يجعل الماء خيارا اقتصاديا أفضل.

حلول مبتكرة تعيقها "الهلوسة"

عوضا عن بذل جهد كبير في محاولة تبريد الأجهزة الإلكترونية، لماذا لا يتم استخدام أجهزة تطلق حرارة أقل، ما يعني بالضرورة أنها تستهلك كمية أقل من الطاقة؟

قد يخيل إليك أن هذه فكرة مثالية بعيدة عن الواقع، ولكن، مرة أخرى، يتحول الخيال إلى حقيقة.

تجري منذ مدة أبحاث تهدف لتطوير ما اصطلح على تسميته بحواسيب الكوانتوم التي تُعرف أيضاً باسم الحواسيب الكمومية.

اعتماد هذا النوع من الحواسيب على "فيزياء الكم" جعلها قادرة على القيام بعدد ضخم من الحسابات في وقت قصير ما جعلها تستخدم كمية طاقة أقل.

البيانات المعروفة بالإنكليزية بكلمة "بايت" وتعتمد نظام الرياضيات الثنائي المكون من رقمين هما 0 و1، وهو النظام المستخدم في الحواسيب.

لكن حواسيب الكم تعتمد على "الكيوبتات"، التي بإمكانها أن أن تكون في حالتي 0 و1 في نفس الوقت، وهو ما يعرف باسم التراكب الكمومي.

مكنت تلك الخاصية الفريدة هذه الحواسيب من إظهار قدرة كبيرة على فك المعادلات المعقدة وتقديم أجوبة متطورة على أسئلة مركبة، عبر معالجة العديد من المعادلات والمسائل في نفس الوقت.

وبالطبع، استخدمت حواسيب الكم في تطوير النماذج اللغوية للذكاء الاصطناعي، لكن الأجوبة التي قدمتها كانت "غير مستقرة".

وتعبير "غير مستقرة" يعبر عنها أحياناً بـ "الهلوسة"، حسب ما أوضح لموقع "الحرة"، كل من سام رزنيك، الباحث في معهد الأمن والتكنولوجيا الناشئة في جامعة جورج تاون الأميركية، والبروفيسور راو.

هذه "الهلوسة" البرمجية تتمثل في تقديم نموذج الذكاء الاصطناعي إجابات خاطئة وغير منطقية أو مخالفة للواقع أو عبثية لا معنى لها.

مجتمع الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي يسعى لتحسين قدرات حواسيب الكم، للاستفادة من قدراتها الفريدة خصوصا من ناحية الوصول إلى نفس النتائج لكن بجهد أقل ووقت أقصر.

سباق العمالقة

ويتوالى سباق السيطرة على هذه التكنولوجيا التي فتحت أبواب الأرباح المالية الضخمة والسيطرة السياسية وحتى العسكرية، وسط مخاوف من تهديدها حرية التفكير والتعبير.

خلال الأسابيع القليلة الماضية شهدت تطبيقات الذكاء الاصطناعي نموا صاروخيا وحققت أرقاما فلكية.

ارتفع عدد مستخدمي "تشات جي.بي.تي" نهاية فبراير بنسبة 33 في المئة مقارنة بنفس العدد في ديسمبر الماضي ليصل إلى 400 مليون مستخدم أسبوعيا.

ومن أهم مستخدمي "تشات جي.بي.تي" نجد بنك "مورغان ستانلي" الاستثماري وشركات كبرى مثل "تي موبايل" و"مودرنا" و"أوبر".

أما نموذج "ديب سيك" الصيني، فارتفع عدد مستخدميه 12 مرة خلال شهر يناير الماضي، ليصل الآن إلى معدل 700 ألف مستخدم أسبوعيا.

والتحقت شركة "أكس.أيه.آي" بالركب، ومنذ طرحها نموذج "غروك 3" ارتفع عدد مستخدميه من 4.3 مليون إلى 31.5 مليون مستخدم يوميا، وذلك خلال 3 أسابيع فقط.

وزعمت الشركة المنتجة لنموذج "ديب سيك" الصيني أنه يقدم خدمة أقل كلفة ومماثلة لنظيره الأميركي "تشات جي.بي.تي" من شركة "أوبن أيه آي".

سرعان ما خرج نموذج أميركي آخر بعد أقل من شهر، يسمى "غروك 3"، ليقدم قدرات أكبر.

شركة "أكس أيه آي"، التي أسسها إيلون ماسك عام 2023، تقول إن نموذج "غروك 3" هو الأفضل حتى الآن.

ظهور "ديب سيك" شكل صدمة ليس للباحثين المختصين بل للأسواق العالمية وحتى السياسة الدولية.

"ديب سيك" اعتمد تقنية تسمى استخلاص النماذج، يقول رزنيك في حديثه لموقع "الحرة".

تعتمد هذه التقنية على طرح آلاف من الأسئلة على نموذج "تشات جي.بي.تي"، لفهم طريقة تحليله للمعلومات.

أي لفهم طريقة تفكيره، والتعلم منها عبر التدرب على ذلك النموذج.

وبناء على ذلك قام الباحثون الصينيون ببناء نموذج "ديب سيك"، باستخدام الأجوبة المقدمة من "تشات جي.بي.تي".

ومع ارتفاع عدد مستخدمي الذكاء الاصطناعي تتزايد الحاجة إلى مزيد من مراكز البيانات، ما يعني، في المحصلة، استهلاكا أكبر للكهرباء والمياه، وما يصحب ذلك من تآكل لإمكانيات استمرار الحياة على كوكب الأرض.

مفاجآت بالجملة

الباحثان اللذان تحدثنا إليهما يخالفان الاعتقاد السائد بأن الصينيين لا يملكون  قدرات حاسوبية كبيرة نظرا لتأخرهم في مجال الرقائق الإلكترونية.

فمنظومة "ديب سيك" أصبحت تستخدم عددا كبيرا من الرقائق المصنعة من طرف شركة هواوي الصينية.

يكشف رزنيك لنا سرا آخر من خبايا الصراع الخفي للسيطرة على شعلة القيادة في مجال الذكاء الاصطناعي.

نموذج "ديب سيك" يعتمد على قدرات حاسوبية كبيرة، لكن السر يكمن في طبيعة الرقاقات الإلكترونية.

هناك نوعان رئيسيان من الرقاقات الإلكترونية المعتمدة في نماذج الذكاء الاصطناعي.

الرقائق المتقدمة مثل تلك المنتجة من شركة "إنفيديا"، ومقرها ولاية كاليفورنيا الأميركية، تعرف باسم رقائق "جي.بي.يو"، وتستخدم للعمليات المعقدة مثل تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي.

كلمة "جي.بي.يو" هي الاختصار الإنكليزي لمصطلح "graphic processing unit" أو (GPU) اختصارا، وتعني "وحدات معالجة الصور".

مكنت قدرات تلك الرقائق شركة "إنفيديا" من الوصول إلى قيمة سوقية تعادل نحو 3 ترليون دولار.

رقائق "جي.بي.يو" لم تكن في الأصل معدة للاستخدام في مجال الذكاء الاصطناعي.

"إنفيديا" عملت منذ تأسيسها عام 1993، في مجال الألعاب الإلكترونية أو ألعاب الفيديو، وأرادت الحصول على صور ذات نوعية جيدة، تضفي طابعا أكثر واقعية على ألعاب الفيديو.

في ذلك الوقت كانت شركات التكنولوجيا مثل "إنتل" الأميركية تعمل على إنتاج رقائق حواسيب تعرف باسم "سي بي يو"، وهو الاختصار الإنكليزي لكلمة "سنترال بروسيسنغ يونت"، أو "وحدات المعالجة المركزية".

الرقائق الإلكترونية لوحدات المعالجة المركزية هي الأساس للحواسيب لذلك فهي أكثر انتشارا، لكن طريقة عملها تجعلها أقل تقدما في مجال الحسابات المعقدة.

من خلال التجارب الأولى للنماذج الحديثة للذكاء الاصطناعي، تبين أن وحدات معالجة الصور المنتجة من شركة "إنفيديا"، هي الأفضل بسبب قدرتها على إجراء العمليات الحسابية المعقدة، مع حجم معالجة أكبر.

تحولت "إنفيديا" من شركة تعمل في مجال ألعاب الفيديو إلى المزود الرئيسي للشركات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي.

منذ أعوام تشهد الولايات المتحدة والصين نزاعا بشأن الرقاقات المستخدمة في الذكاء الاصطناعي

المفارقة أن التحول المفاجئ كان سبباً في قوة الصدمة الناجمة عن نجاح نموذج "ديب سيك".

القدرة على تقديم نموذج يستخدم قدرات حاسوبية أقل تقدماً وضع مستقبل شركة "إنفيديا" في مرمى الشك وأثر على التداولات في الأسواق.

وأصبحت رقاقات "إنفيديا" طلبا أساسيا لدى كبرى شركات التقنية مثل "أمازون" و"غوغل" و"ميتا" و"مايكروسوفت" وغيرها.

لكن الاهتمام بذلك الحدث تجاوز عالم المال والأعمال.

ضياء عُطي