من أوائل من هتفوا لسقوط النظام في سوريا.. مروة الغميان

في صباح ربيعي، من سنة 2011، تركت "الحرة الدمشقية" لأهلها فيديو تخبرهم فيه بأنها اختارت طريق النضال من أجل الحرية.

طلبت فيه أن يسامحوها.

أغلقت شاشة الحاسوب وانطلقت وهي تسمع في داخلها صدى جملة كانت قد قالتها في حافلة نقل عام قبل بضعة أيام: "الله لا يخليني إذا ما شعلت الثورة في سوريا".

كان صوتها من أول الأصوات التي صدحت بنداء الحرية في سوريا، والذي حَّولها إلى واحدة من أيقونات الثورة السورية.

كان اسم حسابها على موقع التواصل الاجتماعي "الحرة دمشقية"، واسمها في الحقيقة مروة الغميان.

"كنتُ أعتقد أنني لن أرى النور بعد ذلك اليوم بسبب إجرام النظام" تقول، مروة في مقابلة لها مع موقع الحرة.

فما قصة ذلك اليوم؟

في 15 مارس 2011 انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو مصور لمجموعة من الناشطين السوريين من قلب مدينة دمشق، وبالتحديد من أمام المسجد الأموي، بينهم فتاتان، يهتفون جميعاً لأجل "سوريا حرة أبية"؛ تميزت بينهم فتاة دمشقية توشحت بالعلم السوري حينها.

"لم يكن العلم فوق كتفي اعتباطاً، وإنما إشارة لمن تواصلوا معي على الفيسبوك لكي يصوروا هذه المظاهرة"، تقول مروة وهي تسترجع ذكريات يوم مشهود.

كانت المظاهرة استجابة لدعوات أُطلقت على صفحات الموقع الأزرق للتجمع والتظاهر ضد بشار الأسد والمطالبة بالحرية من نظام قمعي ظل جاثماً على صدور السوريين على مدى أكثر من أربعين عاماً.

أظهر الفيديو قيام عناصر مخابرات الأسد حينها بالاعتداء على الناشطين، واقتيادهم جميعاً إلى أقبية التحقيق.

اقتيدت مروة الغميان إلى السجن.

 

من أوائل من هتفوا لسوريا وللحرية

مروة حسان الغميان، ابنةُ حي المهاجرين، والمنحدرة من عائلة دمشقية ملتزمة متوسطة الحال. لم تمنعها حياتها الطبيعية قبل الثورة من أن تكون واحدة من أوائل الذين هتفوا لسوريا وللحرية.

تحولت خطوات مروة الواثقة نحو سوق الحميدية في ربيع 2011، وسط الخوف الذي كان يملأ سوريا آنذاك، إلى زلزالٍ هزَّ أركانَ الدكتاتورية.

سيذكر التاريخ أيضاً أن الصرخات التي انطلقت يومها كانت الشرارة التي أشعلت فتيل الثورة السورية ضد نظام الأسد في كل أنحاء سوريا.

ففي يوم الجمعة الموالي (18 مارس 2011)، انطلقت مظاهرات "جمعة الكرامة" في جل المحافظات السورية وخرج الآلاف لإعلان دعمهم لقيام الثورة السورية.

مسيرة بدأتْ بدمعةٍ خلف باب مغلق، وانتهت بصيحة حررت آلاف الأصوات المكبوتة، في شهادة تُجسِّد قصة شعب اختار الموت واقفاً على أن يحيا راكعاً.

"تأثرتُ بوالدي الذي كان يعود يومياً محملاً بهموم الوطن، وكان خوفه نابعاً من معاناته في وطن لا يُسمح فيه برفض تعليق صورة الطاغية في مكان عمله"، تقول مروة، مجيبة عن سؤالٍ حول المصدر الأساسي الذي ساهم في تكوين وعيها السياسي.

كانت مروة تراقب أباها وهو يحتضن بصمت ابنة عمها، الذي قتله أحدُ ضباط نظام الأسد. كانت عينا والد مروة تحكي هذه الحكاية في كل مرة يحتضن فيها ابنه شقيقه التي يُتّمت مبكراً.

"في المدرسة، كنا نُجبر على صراخ شعارات مثل +بالروح بالدم نفديك يا حافظ+"، تقول مروة مستحضرة طفولتها، ومؤكدة أن "تلك الشعارات لم تكن تمثل بالنسبة لها إلا انعكاساً للظلم والقهر الذي عانته عائلتها وعانى منه الشعب السوري برمته".

"كبرتُ بوعي سياسي فطري، أدركت معه الفجوة بين حياة المواطن العربي المقيد وحياة الشعوب الحرة التي تعبر وتحتج بلا خوف".

تتابع حديثها: "هذا الوعي السياسي مع الإلهام الذي قدمته لنا ثورات الربيع العربي أشعرني أن الوقت في سوريا قد حان للتغيير".

 

ربيع عربي وصفعة وعهد قطعته على نفسها

في تلك الفترة كانت الثورات في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن تزداد زخماً، وأشارت تقارير إلى إرسال بشار الأسد طيارين إلى ليبيا لمساعدة معمر القذافي في قمع المتظاهرين وقتل شعبه.

"فخرجت مع بعض السوريين حينها للاعتصام أمام السفارة الليبية احتجاجاً على هذا الأمر ودعماً للأخوة الليبيين".

تتابع مروة: "مُنع المعتصمون من الوصول إلى السفارة الليبية، واستعمل الأمن السوري يومها العنف لفض الاعتصام. وتلقيتُ صفعة كانت بالنسبة لي شرارة أشعلت ناراً كامنة في أعماقي، صفعةً أعادت لي بلمحة مشاهد احتضان أبي لابنة شقيقه المقتول من طرف نظام كنا نهتف له بالفداء بالروح".

حينها هتفت مروة في داخلها جملة وهي في طريق عودتها إلى البيت، حاملة على خدها آثار تلك الصفعة: “الله لا يخليني إذا ما شعلت الثورة في سوريا".

تُقول مروة: "لم أرَ الصفعة كإهانة شخصية، بل انعكاس لسنوات من القهر الذي عاشه أهلي وشعبي. كانت الصفعة شرارة، لكن الوقود كان عقوداً من الظلم الطويل والتكميم والإجبار على التصفيق للقاتل".

وعن خروجها في مظاهرة الخامس عشر من مارس 2011 تضيف مروة للحرة:

"توجهتُ مع صديقتي نورا رفاعي إلى سوق الحميدية للمشاركة في المظاهرة التي ضمت نحو 150 متظاهرًا، وتوشحتُ بالعلم السوري، وفق اتفاق مسبق مع ناشطين ليكون علامة تميزني".

ولتوثيق الحدث، طلبت مروة من أصدقائها تصوير تلك المظاهرة وإيصال رسالة للعالم بأن الشعب السوري يطالب بحريته، " كان هدفي كسر حاجز الخوف وتشجيع الآخرين على المشاركة".

حدث ما كانت تتوقعه، فقد اعتُقلت مع أصدقائها وتعرضوا جميعهم للتعذيب، ثم تم اعتقال أختها.

"تلك اللحظة كانت من أكثر لحظات حياتي حزناً"، تقول مروة عن مشهد أختها باكية في مكتب التحقيق.

وتتابع: "مرت عليّ لحظات كنت أعتقد فيها أنني لن أخرج أبداً، ولحظات أخرى كنت أقول: حتى لو طال اعتقالي، سيأتي يوم يقتحم فيه الثوار باب هذه الزنزانة ويخرجونني".

بعد عشرة أيام من الاعتقال، تم الإفراج عن مروة، وقد بدأت سجون الأفرع الأمنية بالامتلاء بالمعتقلين الجدد.

هكذا وجدت نفسها تعانق الحرية من جديد؛ حاولت السفر خارج سوريا، غير أن الأمن السوري اعتقلها مرة أخرى.

"قضيتُ أسبوعاً في فرع الأمن العسكري 215 بدمشق، ثم أُفرج عني بشرط التعاون مع المخابرات للإيقاع بنشطاء الثورة". تقول مروة. "وافقتُ على هذا الشرط كي يتم الإفراج عني، ولكنني كنت أخطط لأمر آخر".

اتخذت مروة قراراً جريئاً بالسفر إلى الأردن عبر المطار رغم خطورة الموقف واحتمال اعتقالها بنسبة كبيرة.

ذهبت إلى مطار دمشق الدولي في أكتوبر 2011.

"كان لدي شعور قوي بأنني سأعود إلى زنزانة الاعتقال، لكنني كنت مستعدة لتحمل كل شيء إلا أن أكون أداة بيد النظام". تتابع حديثها.

ورغم بعض الصعوبات التي واجهتها مع أمن المطار بسبب الاعتقال السابق، استطاعت المرور والخروج من سوريا.

"كان إصراري على عدم خيانة الثورة ورفاقي أقوى من أي خوف"، تقول مروة.

في المنفى، لم تتوقف مروة عن النضال.فكانت من مؤسسي شبكة لدعم اللاجئين السوريين، وساهمت في جمع التبرعات لإيصال الغذاء والدواء للمتضررين.

ركَّزت جهودها على تعليم أبناء الشهداء والمعتقلين، وشاركت في إطلاق مشاريع تعليمية تحمل أسماء الشهداء تخليداً لذكراهم. كما انخرطت في حملات لرفع الوعي العالمي بمعاناة الشعب السوري.

اليوم، تشعر مروة بالفخر لرؤية سوريا تتحرر من نظام الأسد الذي استمر لعقود، معتبرة أن الثورة كانت أكثر من مجرد غضب، بل عهداً للعيش بحرية.

تفتخر مروة بـ"كل روح فقدت حياتها، وبكل سجين قاوم ولم ينكسر، وبكل من حمل الحلم رغم الألم".

"ظن النظام أنه مستمر إلى الأبد، وشعرت بكل إيمان بأنه سينهار.. لم أكن أعلم أنه سيسقط بعد 14 عاماً، ولكنني كنت متأكدة أنه سيسقط".

تختم مروة: "أفخر بكل شهيد دفع ثمن هذا النصر، وبكل معتقل لم ينكسر. هذه الثورة لم تكن مجرد غضب، بل عهداً على أن نحيا أحراراً".
 

وجوه وقضايا

"اليهود البغداديون".. حكاية بصمات عراقية في الهند

رامي الأمين
23 أبريل 2025

يحكي الملحن البريطاني براين إلياس في مقطع فيديو عن خليط بين الطعام البغدادي اليهودي والتوابل الهندية. ما زال هذا الخليط يسكن ذاكرته ويشعر بطعمه في فمه، لما يعنيه من مزيج ثقافات في أطباق كانت تُعد بأيادي "اليهود البغداديين" في منطقة بايكولا في مدينة مومباي الهندية.

الفيديو واحد من عشرات الفيديوهات التي تنشرها الشابة البريطانية كيرا شالوم في حسابها "تاريخ المزراحي" The Mizrahi History على إنستغرام، لشهادات وذكريات لليهود المشرقيين من مختلف البلدان في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

شالوم التي تتحدّر من عائلة يهودية بغدادية عاشت في الهند حتى ستينيات القرن الماضي، تخصّص الكثير من وقتها، ومساحة كبيرة من حساباتها في وسائل التواصل الاجتماعي، للإضاءة على تاريخ ما يُعرف بـ"اليهود البغداديين".

وصل هؤلاء بأعداد كبيرة إلى الهند في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ولم يبق منهم سوى أعداد قليلة ما زالت تعيش هناك.

في كتابها "اليهود البغداديون في الهند"، تقول المؤرخة الإسرائيلية شالفا ويل إن هذه الفئة من اليهود معروفة في الهند وخارجها رغم عددها القليل، ومعظمها يتحدث اللغة العربية بالإضافة إلى الإنجليزية والهندية.

يتحدر هؤلاء بحسب ويل، ليس من بغداد فحسب، بل أيضاً من مدن عراقية أخرى كالبصرة والموصل، وكذلك من سوريا واليمن وإيران وبخارى وأفغانستان. بهذا المعنى فإن التسمية لا تعني حصراً اليهود المتحدّرين من العاصمة العراقية، بل تشمل يهوداً مزراحيين (شرقيين) من مناطق مختلفة في الشرق الأوسط.

تشير الكاتبة الإسرائيلية إلى أن أول يهودي وصل الهند من بغداد كان يدعى جوزف سماح ورست سفينته في مرفأ سورات في غوجارات الهندية في عام 1730، وترك بغداد بحثاً عن فرص تجارية جديدة.

ومع بدايات القرن التاسع عشر بحسب الكاتبة، تحولت مومباي إلى ملجأ كبير لعدد من اليهود الناطقين بالعربية الذين هربوا من بطش داود باشا، آخر حكام العراق من المماليك في الفترة بين عامي 1816 و1831.

أما التاريخ المفصلي في ترسيخ الوجود اليهودي البغدادي في مومباي وتطورها الاقتصادي نتيجة ذلك، فكان مع وصول ديفيد ساسون وعائلته إلى المدينة في عام 1832، حيث عملوا في تجارة الأفيون قبل أن تصبح غير شرعية.

بَنَت هذه العائلة سيناغوغ (كنيس يهودي) في بايكولا في مومباي، وآخر حمل اسم إلياهو في وسط المدينة، ثم بعد أن أصبحت تجارة الأفيون غير شرعية انتقل آل ساسون إلى الاستثمار في انتاج وبيع أكياس الرمل المخصصة للدشم (تحصينات دفاعية) العسكرية في الحروب، وحققوا أرباحاً طائلة.

كما أسهم دايفد وألبرت ساسون في بناء ميناء تجاري في مومباي والعديد من المدارس والمستشفيات التي ما يزال بعضها موجوداً حتى اليوم.

صورة من أرشيف كيرا شالوم الخاص

في تقديرات لأعداد اليهود البغداديين، فإنها بلغت حتى الربع الأول من القرن العشرين نحو سبعة آلاف نسمة، لكنها سرعان ما انخفضت بشكل كبير مع منتصف القرن العشرين.

تربط ويل في كتابها بين نَيل الهند استقلالها في عام 1947 وبدء اليهود بالتفكير بالرحيل عنها، والسبب أن القوانين التي أقرتها الحكومة الهندية بعد الاستقلال ضيقت عمليات التجارة والاستيراد والتصدير، وحدّت من قدرة اليهود البغداديين على الاستثمار في التجارة وإيجاد فرص جديدة.

كما شكّل إعلان دولة إسرائيل في عام 1948 فرصة ليهود بغداديين للهجرة إليها، لكن معظمهم اختاروا بلداناً ناطقة بالإنجليزية، بينما بقي نحو ألفين منهم في الهند حتى سنوات لاحقة، قبل أن ينتقلوا إلى بريطانيا واستراليا وكندا وأميركا.

تقول كيرا شالوم إن عائلتها غادرت الهند في عام 1961، أي بعد سنوات طويلة من نيلها الاستقلال، وقبل تأسيس دولة إسرائيل.

حاولت شالوم أن تفهم من أقاربها سبب رحيل اليهود البغداديين من الهند، لكنها، كما تقول، لم تحصل على سبب مقنع، خاصة وأن "معاداة السامية لم تكن حاضرة بأي شكل من الأشكال في الهند، واندمج أهلها وغيرهم في المجتمع الهندي بشكل كامل، أي مع المسلمين والهندوس".

حتى حينما كان اليهود يتعرضون لمجازر في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، لم يتعرض من كان في الهند لأية مضايقات، وفقاً لشالوم التي ما تزال تحتفظ بصور لعائلتها في مومباي وبعضهم يلبس أزياء عربية.

كان لليهود البغداديين كما تشرح شالوم، بصماتهم على الثقافة الهندية، ومساهماتهم الكبيرة في نهضة الهند، وتذكر من بين الشخصيات اليهودية البغدادية البارزة، الممثلة العراقية نادرة (فلورنسا حزقيل) التي ولدت في بغداد عام 1932 وعاشت في الهند حتى وفاتها عام 2006، وحصلت على شهرة في سينما بوليود.

من الشخصيات الأخرى التي تذكرها، الجنرال (جي أف آر يعقوب)، وهو قائد عسكري هندي من أصول يهودية بغدادية، لعب دوراً في استقلال بنغلاديش عام 1971.

وأثر اليهود البغداديون في المطبخ الهندي، إذ أدخلوا العديد من الأطباق العراقية التي أضيفت إليها التوابل الهندية أو بعض المكونات البريطانية.

وتتحدث شالوم بشغف عن توارث هذه الأطباق في عائلتها وشيوع استخدام الجيل الذي عاش في الهند اللغات الهندية والعربية والإنجليزية في جملة واحدة، كما بقي الأحفاد يستخدمون الدلالات الهندية في الإشارة إلى الجدّ أو الجدة، من مثل "نانا" و"ناني".

لم تزر هذه الشابة البريطانية العراق أبداً، كما أنها لم تزر الهند. تقول إنها "تتمنى زيارة الهند قريباً، لكنها لا تفكّر بزيارة العراق الآن، كذلك الأمر بالنسبة إلى باقي أفراد عائلتها، حيث يمنعهم الخوف بشكل أساسي من التفكير في زيارة البلاد التي يتحدرون منها".

لكنها لا تنكر حنين العديد من أفراد عائلتها وأقاربها إلى بغداد والثقافة العراقية، خاصة الموسيقى والطعام، فضلاً عن الحنين إلى الهند التي ما تزال تحتفظ بالكثير من الآثار والبصمات الثقافية والدينية التي تركها القادمون من بغداد ومدن أخرى.

رامي الأمين