وجوه وقضايا

أبناء القمر.. مغاربة "ينتظرون شمساً لا تحرق"

هشام بوعلي- دبي
26 فبراير 2025

في غرفة مظللة، يرفع الستائر قليلاً، يتأكد أن آخر خيوط الضوء قد اختفت، ثم يستعد للخروج من عزلته الإجبارية.

يوم حمزة تيزمرت الحقيقي يبدأ فقط بعد أن تنسحب الشمس وينطفئ نورها من كفّ السماء.

"بعد أن ينام العالم، نستيقظ نحن لنعيش"، يقول حمزة، ابن السابعة والعشرين، وهو يضع طبقات الحماية المعتادة، المرهم الواقي على بشرته، النظارات المظللة، القفازات الواقية، وقناعه الخاص.

بحركات متأنية، ناتجة عن سنوات من الممارسة، يتفقد أن كل سنتيمتر من جلده محمي قبل أن يغادر عتبة بيته.

كفاح أخوين

يتشارك حمزة وأخوه محمد تيزمرت (31 عامًا) قصة كفاح استثنائية ضد مرض وراثي نادر، يحوّل بشرتهما إلى "مرايا" تتحسّس من أشعة الشمس.

"كانت حياتنا منذ بدايتها محفوفة بالصعاب والتحديات،" يروي حمزة، مستعيدا ذكريات طفولته الصعبة مع مرض جفاف الجلد المصطبغ، خلال السنوات الأولى لالتحاقه بالدراسة في قرية بنواحي مدينة تارودانت، وسط المغرب.

"كنا نضطر لقطع مسافة تستغرق نصف ساعة سيرا على الأقدام، عبر طرق وعرة، للوصول إلى مدرستنا".

حين نصل أخيرا، تكون أجسادنا قد أنهكها التعب والإجهاد بسبب التعرض لأشعة الشمس، رغم محاولاتنا الحثيثة لتجنبها.

مرض "أطفال القمر" هو اضطراب وراثي نادر يُعرف علما باسم جفاف الجلد المصطبغ، الذي يؤثر على قدرة الجلد على إصلاح التلف الناتج عن الأشعة فوق البنفسجية.

يعاني المصابون به، من حساسية شديدة لأشعة الشمس، مما يؤدي إلى تلف الجلد بسرعة وظهور بقع داكنة، وقد يتطور إلى سرطان الجلد في سن مبكرة.

ويحتاج المصابون إلى حماية صارمة من أشعة الشمس، مثل ارتداء ملابس واقية ونظارات خاصة، والعيش في بيئة خالية من التعرض المباشر للضوء، للحفاظ على صحتهم.

في ذلك الوقت، يضيف حمزة: "لم تتوفر لنا وسائل الحماية المناسبة التي نستخدمها اليوم. لا نظارات واقية، ولا أقنعة طبية، ولا مراهم".

"كل ما كنا نملكه هو خوذات بسيطة نغطي بها رؤوسنا، في محاولة يائسة لصد الأشعة الضارة التي تؤذي بشرتنا وتهدد حياتنا".

تأجّل التحاق الأخوين بالمدرسة الابتدائية بسبب حالتهما الصحية.

كان حمزة في السابعة من عمره وأخوه محمد في التاسعة عندما تمكنا أخيرا من بدء رحلتهما التعليمية، بعد تحذيرات متكررة من الأطباء لوالديهما من المخاطر الشديدة التي قد يسببها تعرضهما المباشر لأشعة الشمس.

يستذكر حمزة تلك الفترة بمشاعر مختلطة، قائلا: "امتدت سنوات المرحلة الابتدائية الست كسلسلة متصلة من المعاناة والكفاح".

كنا نواجه صعوبة بالغة في رؤية ما يُكتب على السبورة بسبب ضعف البصر الذي يسببه المرض، بالإضافة إلى سلسلة لا تنتهي من المشاكل الصحية التي كانت تلازمنا يوما بعد يوم، كما يقول.

ووسط هذه الأزمات الصحية، كانت هناك مشكلة أخرى تعين على الأخوين مواجهتها في الطفولة.. ويقول حمزة: "بعض زملائنا التلاميذ كانوا متفهمين، لكن آخرين كانوا يتنمرون علينا بسبب مظهرنا المختلف".

بمواجهة كل هذه الصعاب، أنهى الأخوان مرحلتهما الابتدائية بنجاح.

غير أن المرحلة الإعدادية كانت تنتظرهما بصدمة جديدة قاسية.

رفض مدير المدرسة الإعدادية استقبالهما، زاعما أن مرضهما معدٍ قد يصيب بقية التلاميذ، وهو ادّعاء يفتقر تماماً للأساس العلمي، إذ تؤكد الحقائق الطبية أن المرض غير معد، حسب حمزة.

تعنُّّت المدير، اضطره وأخوه للالتحاق بمدرسة خاصة بالمكفوفين في مدينة تارودانت، حيث تابعا دراستهما حتى التحاقهما بمعهد آخر للمكفوفين في مدينة تمارة، قرب العاصمة الرباط، حيث حصلا على شهادة البكالوريا بميزة حسن جداً في عام 2019.

بعدها التحقا بكلية الحقوق بجامعة محمد الخامس في الرباط لمتابعة دراستهما الجامعية، التي توّجاها بأن أصبحا أول مجازين في القانون مصابان بمرض "أطفال القمر" في المغرب.

"المرض جعلني أقوى وزادني إصراراً على الصمود. تكونت لدي مناعة ضد نظرات المجتمع السلبية. أصبحت أُعرِّف بقضية أطفال القمر في كل مكان أذهب إليه، في الكلية، في الشارع.. حتى مع سائقي سيارات الأجرة".

يقول حمزة: "هذا المرض ليس مجرد حالة طبية، إنه تحدٍ يومي للحياة والبقاء".

صورة لحمزة مرتديا القناع الواقي من أمام كلية الحقوق بالرباط

تحديات جديدة

"حين التحقنا بالكلية، واجهنا تحديات جديدة تماما"، يوضح حمزة مستذكرا مرحلة انتقاله وأخيه إلى جامعة محمد الخامس بالرباط.

"كانت صعوبات الحضور والتنقل يومية، والتأقلم مع الطلبة والأساتذة لم يكن بالأمر السهل".

يصف القاعات الدراسية بالتفصيل: "كانت القاعات كبيرة، بها نوافذ واسعة دون ستائر، مما يجعل أشعة الشمس تتسلل إلى داخلها بسهولة.. في أيام كثيرة  تعذر علينا الحضور بسبب وضعنا الصحي".

يتذكر حمزة بامتنان زملاءه المتعاونين: "بعض الطلبة، كانوا يساعدوننا كثيرا، يمدوننا بالدروس وبتسجيلات المحاضرات عندما لا نستطيع الحضور".

لكن لم يكن كل الأساتذة متفهمين لوضعهما، كما يشرح حمزة.

"بعضهم، لم يأخذ بعين الاعتبار مرضنا. عندما نتغيب عن حصصهم، يرفضون السماح لنا باجتياز الامتحان بحجة أنهم لم يسبق لهم أن شاهدونا خلال الدروس، رغم أنني شرحت لهم وللإدارة مرارا أن مرضي لا يسمح لي بالحضور نهارا".

في مواجهة كل هذه التحديات، استطاع حمزة وأخيه أن يحصلا على الإجازة في تخصص شعبة القانون الخاص.

لكن فرحتهما بإنهاء هذه المرحلة لم تكتمل، مرة أخرى.. وبرزت في وجه طموحاتهما الكبيرة عقبات جديدة.

يقول حمزة بحسرة: "بعد حصولنا على الإجازة، اجتزنا العديد من اختبارات التوظيف، لكن كان يتم إقصاؤنا بحجة أننا مصابان بهذا المرض، وأن مظهرنا الخارجي مختلف عن بقية الناس".

يسترسل موضحا: "عادة نمر من الاختبار الكتابي بنجاح وبامتياز، لكن عندما نصل إلى الامتحان الشفوي، يتم إقصاؤنا بمجرد أن تقيّم اللجنة مظهرنا الخارجي".

هذا التمييز يؤلم حمزة بشدة: "للأسف، حتى في المباريات (المسابقات) الموحدة المخصصة للأشخاص في وضعية إعاقة، يتم إقصاؤنا".

يتساءل باستنكار: "كيف يُعقل أن تكون المباراة خاصة بالأشخاص ذوي الإعاقة ويتم إقصاء شخص مصاب بمرض أطفال القمر بسبب إعاقته؟ هذا بحد ذاته تمييز غير مقبول".

"نحن لا نريد أن نكون عبئاً على المجتمع أو على عائلاتنا. نريد فقط فرصة لإثبات قدراتنا بعد كل الجهد الذي بذلناه للوصول إلى هنا".

يختم حمزة حديثه مناشدا الجهات الوصية بتخصيص منصب واحد على الأقل كل سنة، للأشخاص في مثل حالته من الحاصلين على شهادات جامعية.

من ألم شخصي إلى أمل جماعي

بينما يواصل حمزة وأخوه محمد رحلتهما في البحث عن فرصة عمل تليق بمؤهلاتهما الأكاديمية، تتواصل منذ سنوات قصة كفاح موازية في جانب آخر من المغرب.

"اكتشفنا أن مرضها خطير وقاتل"، بهذه الكلمات يختصر الحبيب الغزاوي لحظة تغيرت فيها حياته للأبد، عندما علم بإصابة ابنته فاطمة الزهراء بمرض أطفال القمر، وهي في الرابعة من عمرها.

بعد علمه بمرض ابنته، لم يتردد الغزاوي في اتخاذ قرار مصيري، ترك مهنته كطبيب بيطري ليكرس وقته لرعاية ابنته.

"كان من الصعب علي المحافظة على فاطمة الزهراء مع الالتزام بعملي، قدمت المغادرة الطوعية من وظيفتي بالبادية للاستقرار في مدينة المحمدية، وحاولت بكل جهد رعايتها".

رحلة العلاج كانت قاسية بكل المقاييس. تحملت فاطمة الزهراء أكثر من 70 عملية جراحية على مدار حياتها، لاستئصال الأورام التي لم تتوقف عن مهاجمة جسدها.

"كان جسدها بالكامل يتعرض للتقرحات والأورام التي كانت تظهر من حين لآخر"، يصف الغزاوي المعاناة اليومية التي عاشتها ابنته.

لكن رغم قسوة المرض، كانت ثمة معجزة صغيرة تتحقق يوماً بعد يوم، إذ تحولت قبل رحيلها إلى "رمز " للتوعية بهذا المرض وتحدياته عبر منصات التواصل الاجتماعي، وساعدت في تأسيس "جمعية التضامن مع أطفال القمر بالمغرب"، التي كانت أول جمعية من نوعها في المملكة. 

بدأت هذه المنظمة الإنسانية، التي يرأسها الغزاوي، بهدف بسيط هو إحصاء المصابين والتعريف بالمرض، قبل أن تتحول إلى مؤسسة شاملة تقدم خدمات متنوعة للمصابين.

ونجحت المنظمة منذ عام 2012، في توثيق نحو 500 حالة في مختلف أنحاء البلاد، وتوفير وسائل الحماية الضرورية كالمراهم والنظارات والأقنعة الواقية.

ويبقى أحد أبرز مشاريعها الحالية هو تصميم قناع واقٍ بالتعاون مع شركة فرنسية، ليكون بديلاً ملائماً للقناع الفرنسي باهظ الثمن الذي كان يكلف 1200 يورو.

ورغم رحيل فاطمة الزهراء، يواصل الأب جهوده في مساعدة المصابين ودعم أسرهم، كاشفا أن نضاله اليوم منصبّ على إدراج المرض ضمن الإعاقات المعترف بها رسميا.

كما يسعى إلى توفير حلول مناسبة للتعليم والرعاية الصحية، وينظم أنشطة اجتماعية لكسر عزلة المصابين.

"لقد عشت تجربة محفوفة، في كل تفاصيلها، بالأمل والألم مع فاطمة"، يقول الغزاوي بهدوء وثقة، مضيفا أنه سيواصل "تكريس ما تبقى من حياته لمساعدة المصابين وعائلاتهم".

هشام بوعلي

وجوه وقضايا

الجانب المظلم من حقيقة الذكاء الاصطناعي

الحرة / خاص - واشنطن
21 مارس 2025

لتقنيات الذكاء الاصطناعي أثر إيجابي على كثير من مجالات حياتنا اليومية، لكن ما قد يخفى عن كثيرين هو تأثيراتها الضارة على الحياة بشكل عام: الحياة على هذا الكوكب.

استهلاك شركة مايكروسوفت من الكهرباء في عام 2023، على سبيل المثال، تجاوز 24 تيراواط، أي أكثر من استهلاك بلد مثل الأردن، أو حتى السعودية.

ويزيد الاستخدام المفرط للطاقة غير النظيفة لإنتاج الكهرباء من تداعيات الانبعاثات الضارة على البيئة. 

إلى جانب الكهرباء، يستخدم قطاع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي كميات هائلة من المياه لتبريد الأجهزة المعالجة للخوارزميات المعقدة.

الجبهة الأمامية

مراكز البيانات هي الجبهة الأمامية في الصراع نحو تصدر مجال الذكاء الاصطناعي.

هذه المراكز ليست حديثة العهد، فقد أُسس أول مركز معني بالبيانات في جامعة بنسلفانيا الأميركية عام 1945 لدعم ما عُرف حينها كأول كمبيوتر رقمي متعدد الأغراض، "ENIAC" اختصارا.  

هذه المراكز هي العمود الفقري للحوسبة الحديثة المعنية بتخزين كميات ضخمة من البيانات ومعالجتها.

تلك البيانات تكفل استمرار تشغيل كافة المواقع العاملة عبر شبكة الإنترنت، ما يسهل عمل الهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب.

لكن ظهور الذكاء الاصطناعي، التوليدي منه تحديدا، مثل خدمات "تشات جي.بي.تي" و"جيميناي" مثلا، غيّر "دراماتيكيا" في عمل مراكز البيانات، وفقا لمقال نشره معهد ماساتشوستس للتقنية "أم آي تي". 

واليوم، تتكون تلك المراكز من بنايات صناعية كبيرة، في داخلها مجموعة من الأجهزة الإلكترونية الضخمة.

داخل تلك البنايات هناك أجهزة تخزين البيانات الرقمية وخوادم الاتصالات والحوسبة السحابية، التي تمكن من تخزين ومعالجة البيانات.

بين عامي 2022 و 2023 ارتفعت متطلبات مراكز البيانات من الطاقة، في أميركا الشمالية، من 2,688 ميغاواط إلى 5,341 ميغاواط، وفق تقديرات علماء.

جزء من هذا الارتفاع مرتبط بالاحتياجات التي فرضها الذكاء الاصطناعي التوليدي، وفق "أم آي تي".

عالميا، بلغ استهلاك مراكز البيانات من الطاقة، في عام 2022، 460 تيراواط.

وتحتل مراكز البيانات المرتبة 11 بين الأكثر استهلاكا للكهرباء سنويا حول العالم، وهي مرتبة وسط بين فرنسا (463 تيراواط) والسعودية (371 تيراواط)، وفقا منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

وبحلول 2026، تشير "أم آي تي"، إلى أن استهلاك مراكز البيانات للكهرباء قد يصل إلى 1,050 تيراواط، ما قد يرفعها إلى المرتبة الخامسة، بين اليابان وروسيا.

الذكاء الاصطناعي التوليدي وحده ليس العامل الوحيد، يوضح المعهد التقني، لكنه "دافع أساسي" باتجاه زيادة الطلب على الطاقة والمياه. 

تستخدم تلك المراكز كميات ضخمة من الطاقة الكهربائية، وتكون لديها مصادر طاقة بديلة عند انقطاع التزويد أو في حالات الطوارئ، ما يمكّنها من الاستمرار في العمل.

لكن توفير الطاقة الكافية لتشغيل تلك المراكز أصبح تحديا في ظل ارتفاع الطلب العالمي على الطاقة.

الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قدّم خطة لتطوير الطاقة النووية في الولايات المتحدة تحظى بدعم لافت من جمهوريين وديمقراطيين على حد السواء، وقد تشكل الحل الأكثر رفقا بالبيئة.

البروفسور آناند راو من جامعة كارنيغي ميلون أوضح لموقع "الحرة" أنه بالإضافة إلى الاستخدام المكثف للطاقة الكهربائية، ظهرت معضلة جديدة أمام تلك المراكز.

الأجهزة الإلكترونية الضخمة التي تستهلك كميات كبيرة من الطاقة ترتفع حرارتها إلى درجات عالية جدا، ما يؤثر على قدرتها، وقد يؤدي حتى إلى تلفها.

قد يبدو ذلك غريبا لأول وهلة، ولكن على عكس حاسوبك الصغير الذي يستعمل مروحة أو اثنتين لتبريد رقاقاته الإلكترونية، تستخدم أجهزة مراكز البيانات الماء للتبريد.

تدخل آلاف الغالونات من الماء إلى مبادل حراري يشغل شبكة ضخمة ومتشعبة من الأنابيب والمبردات تمتد إلى كافة الأجهزة الكهربائية والإلكترونية، دون أن يلامس الماء، طبعا، أيا من الدارات الكهربائية.

ومثلما هو الحال بالنسبة للكهرباء، يضع استهلاك تلك الكميات الكبيرة من الماء ضغطا كبيرا على الموارد المحلية للمنطقة حيث تكون مركز البيانات.

بات من الواضح أن استدامة عمل تلك المراكز أصبحت مرتبطة بتأمين موارد كبيرة من الكهرباء والماء.

لكنّ هناك حلولا أخرى، بحسب البروفيسور راو، مثل استخدام النيتروجين للتبريد عوضا عن الماء.

رغم أن النيتروجين متوفر بكميات كبيرة، إذ يمثل نحو 78 في المئة من الهواء في الغلاف الجوي للأرض، فإن استخدامه للتبريد مكلف كثيرا، ما يجعل الماء خيارا اقتصاديا أفضل.

حلول مبتكرة تعيقها "الهلوسة"

عوضا عن بذل جهد كبير في محاولة تبريد الأجهزة الإلكترونية، لماذا لا يتم استخدام أجهزة تطلق حرارة أقل، ما يعني بالضرورة أنها تستهلك كمية أقل من الطاقة؟

قد يخيل إليك أن هذه فكرة مثالية بعيدة عن الواقع، ولكن، مرة أخرى، يتحول الخيال إلى حقيقة.

تجري منذ مدة أبحاث تهدف لتطوير ما اصطلح على تسميته بحواسيب الكوانتوم التي تُعرف أيضاً باسم الحواسيب الكمومية.

اعتماد هذا النوع من الحواسيب على "فيزياء الكم" جعلها قادرة على القيام بعدد ضخم من الحسابات في وقت قصير ما جعلها تستخدم كمية طاقة أقل.

البيانات المعروفة بالإنكليزية بكلمة "بايت" وتعتمد نظام الرياضيات الثنائي المكون من رقمين هما 0 و1، وهو النظام المستخدم في الحواسيب.

لكن حواسيب الكم تعتمد على "الكيوبتات"، التي بإمكانها أن أن تكون في حالتي 0 و1 في نفس الوقت، وهو ما يعرف باسم التراكب الكمومي.

مكنت تلك الخاصية الفريدة هذه الحواسيب من إظهار قدرة كبيرة على فك المعادلات المعقدة وتقديم أجوبة متطورة على أسئلة مركبة، عبر معالجة العديد من المعادلات والمسائل في نفس الوقت.

وبالطبع، استخدمت حواسيب الكم في تطوير النماذج اللغوية للذكاء الاصطناعي، لكن الأجوبة التي قدمتها كانت "غير مستقرة".

وتعبير "غير مستقرة" يعبر عنها أحياناً بـ "الهلوسة"، حسب ما أوضح لموقع "الحرة"، كل من سام رزنيك، الباحث في معهد الأمن والتكنولوجيا الناشئة في جامعة جورج تاون الأميركية، والبروفيسور راو.

هذه "الهلوسة" البرمجية تتمثل في تقديم نموذج الذكاء الاصطناعي إجابات خاطئة وغير منطقية أو مخالفة للواقع أو عبثية لا معنى لها.

مجتمع الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي يسعى لتحسين قدرات حواسيب الكم، للاستفادة من قدراتها الفريدة خصوصا من ناحية الوصول إلى نفس النتائج لكن بجهد أقل ووقت أقصر.

سباق العمالقة

ويتوالى سباق السيطرة على هذه التكنولوجيا التي فتحت أبواب الأرباح المالية الضخمة والسيطرة السياسية وحتى العسكرية، وسط مخاوف من تهديدها حرية التفكير والتعبير.

خلال الأسابيع القليلة الماضية شهدت تطبيقات الذكاء الاصطناعي نموا صاروخيا وحققت أرقاما فلكية.

ارتفع عدد مستخدمي "تشات جي.بي.تي" نهاية فبراير بنسبة 33 في المئة مقارنة بنفس العدد في ديسمبر الماضي ليصل إلى 400 مليون مستخدم أسبوعيا.

ومن أهم مستخدمي "تشات جي.بي.تي" نجد بنك "مورغان ستانلي" الاستثماري وشركات كبرى مثل "تي موبايل" و"مودرنا" و"أوبر".

أما نموذج "ديب سيك" الصيني، فارتفع عدد مستخدميه 12 مرة خلال شهر يناير الماضي، ليصل الآن إلى معدل 700 ألف مستخدم أسبوعيا.

والتحقت شركة "أكس.أيه.آي" بالركب، ومنذ طرحها نموذج "غروك 3" ارتفع عدد مستخدميه من 4.3 مليون إلى 31.5 مليون مستخدم يوميا، وذلك خلال 3 أسابيع فقط.

وزعمت الشركة المنتجة لنموذج "ديب سيك" الصيني أنه يقدم خدمة أقل كلفة ومماثلة لنظيره الأميركي "تشات جي.بي.تي" من شركة "أوبن أيه آي".

سرعان ما خرج نموذج أميركي آخر بعد أقل من شهر، يسمى "غروك 3"، ليقدم قدرات أكبر.

شركة "أكس أيه آي"، التي أسسها إيلون ماسك عام 2023، تقول إن نموذج "غروك 3" هو الأفضل حتى الآن.

ظهور "ديب سيك" شكل صدمة ليس للباحثين المختصين بل للأسواق العالمية وحتى السياسة الدولية.

"ديب سيك" اعتمد تقنية تسمى استخلاص النماذج، يقول رزنيك في حديثه لموقع "الحرة".

تعتمد هذه التقنية على طرح آلاف من الأسئلة على نموذج "تشات جي.بي.تي"، لفهم طريقة تحليله للمعلومات.

أي لفهم طريقة تفكيره، والتعلم منها عبر التدرب على ذلك النموذج.

وبناء على ذلك قام الباحثون الصينيون ببناء نموذج "ديب سيك"، باستخدام الأجوبة المقدمة من "تشات جي.بي.تي".

ومع ارتفاع عدد مستخدمي الذكاء الاصطناعي تتزايد الحاجة إلى مزيد من مراكز البيانات، ما يعني، في المحصلة، استهلاكا أكبر للكهرباء والمياه، وما يصحب ذلك من تآكل لإمكانيات استمرار الحياة على كوكب الأرض.

مفاجآت بالجملة

الباحثان اللذان تحدثنا إليهما يخالفان الاعتقاد السائد بأن الصينيين لا يملكون  قدرات حاسوبية كبيرة نظرا لتأخرهم في مجال الرقائق الإلكترونية.

فمنظومة "ديب سيك" أصبحت تستخدم عددا كبيرا من الرقائق المصنعة من طرف شركة هواوي الصينية.

يكشف رزنيك لنا سرا آخر من خبايا الصراع الخفي للسيطرة على شعلة القيادة في مجال الذكاء الاصطناعي.

نموذج "ديب سيك" يعتمد على قدرات حاسوبية كبيرة، لكن السر يكمن في طبيعة الرقاقات الإلكترونية.

هناك نوعان رئيسيان من الرقاقات الإلكترونية المعتمدة في نماذج الذكاء الاصطناعي.

الرقائق المتقدمة مثل تلك المنتجة من شركة "إنفيديا"، ومقرها ولاية كاليفورنيا الأميركية، تعرف باسم رقائق "جي.بي.يو"، وتستخدم للعمليات المعقدة مثل تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي.

كلمة "جي.بي.يو" هي الاختصار الإنكليزي لمصطلح "graphic processing unit" أو (GPU) اختصارا، وتعني "وحدات معالجة الصور".

مكنت قدرات تلك الرقائق شركة "إنفيديا" من الوصول إلى قيمة سوقية تعادل نحو 3 ترليون دولار.

رقائق "جي.بي.يو" لم تكن في الأصل معدة للاستخدام في مجال الذكاء الاصطناعي.

"إنفيديا" عملت منذ تأسيسها عام 1993، في مجال الألعاب الإلكترونية أو ألعاب الفيديو، وأرادت الحصول على صور ذات نوعية جيدة، تضفي طابعا أكثر واقعية على ألعاب الفيديو.

في ذلك الوقت كانت شركات التكنولوجيا مثل "إنتل" الأميركية تعمل على إنتاج رقائق حواسيب تعرف باسم "سي بي يو"، وهو الاختصار الإنكليزي لكلمة "سنترال بروسيسنغ يونت"، أو "وحدات المعالجة المركزية".

الرقائق الإلكترونية لوحدات المعالجة المركزية هي الأساس للحواسيب لذلك فهي أكثر انتشارا، لكن طريقة عملها تجعلها أقل تقدما في مجال الحسابات المعقدة.

من خلال التجارب الأولى للنماذج الحديثة للذكاء الاصطناعي، تبين أن وحدات معالجة الصور المنتجة من شركة "إنفيديا"، هي الأفضل بسبب قدرتها على إجراء العمليات الحسابية المعقدة، مع حجم معالجة أكبر.

تحولت "إنفيديا" من شركة تعمل في مجال ألعاب الفيديو إلى المزود الرئيسي للشركات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي.

منذ أعوام تشهد الولايات المتحدة والصين نزاعا بشأن الرقاقات المستخدمة في الذكاء الاصطناعي

المفارقة أن التحول المفاجئ كان سبباً في قوة الصدمة الناجمة عن نجاح نموذج "ديب سيك".

القدرة على تقديم نموذج يستخدم قدرات حاسوبية أقل تقدماً وضع مستقبل شركة "إنفيديا" في مرمى الشك وأثر على التداولات في الأسواق.

وأصبحت رقاقات "إنفيديا" طلبا أساسيا لدى كبرى شركات التقنية مثل "أمازون" و"غوغل" و"ميتا" و"مايكروسوفت" وغيرها.

لكن الاهتمام بذلك الحدث تجاوز عالم المال والأعمال.

الحرة / خاص - واشنطن