وجوه وقضايا

رحلة سودانيات إلى ليبيا.. معاناة بين حربين!

عبد النبي مصدق- واشنطن
26 فبراير 2025

حتى منتصف أبريل 2023، كانت حياة مناهل السنوسي هادئة، لا شيء يعكر صفوها.

عائلة صغيرة ومنزل ووظيفة وجيران ودودون وآمان تشعر به في مدينة الفاشر السودانية.

يبدأ روتينها اليومي بإعداد فطور الصباح وتوديع ابنها إلى المدرسة، قبل الالتحاق بعملها كممرضة في إحدى مستشفيات المدينة.

كان كل شيء على ما يُرام في حياة مناهل السودانية، إلى أن اندلعت الحرب وأطلقت أولى الرصاصات بين أبناء بلدها.
في لحظة انقلبت الأمور، سقط قتلى من الجانبين، عمت الفوضى، وانتشرت أعمال النهب والتخريب.

تحوّل الهدوء والسكينة إلى قلق وذعر، وخيّم شبح الحرب.

بعد فترة قصيرة من اندلاع الحرب، في أبريل 2023، بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع، شبه العسكرية، بقيادة محمد حمدان دقلو، المعروف بـ"حميدتي"، انفلتت الأمور وخرج كل شيء عن السيطرة.
داهمت عصابات أحياء مدينة الفاشر، انتشرت أعمال العنف والسرقة، وانعدم الأمن.

وصلت أذرع الإجرام إلى منزل مناهل الهادئ، طالت كل ثمين، نهبته بالكامل. تحولت حياة الممرضة السودانية منذ ذلك الحين إلى جحيم.

تقول مناهل إن أهل مدينتها يحافظون على عادة قديمة، تقيهم نوائب الدهر، إذ يطمرون بعض مدخراتهم تحت الأرض، بعيدا عن الأعين.

سارع زوج مناهل إلى "كنزه"، أخرجه وطالب عائلته بمغادرة البلد فورا، فـ"لا موعد معروف لانتهاء الحرب"، قال لزوجته.
لم تتردد مناهل كثيرا، جمعت بعض المؤونة، اصطحبت طفلها، وغادرت على متن أول مركبة نحو ليبيا المجاورة.

حسب إحصائيات أممية، تسببت الحرب بالسودان في فرار أكثر من 12 مليون شخص، في أزمة صنفتها المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بأنها "واحدة من أكبر حالات الطوارئ المتعلقة بالنزوح في العالم".

في ليبيا وحدها، تشير الإحصائيات ذاتها إلى وصول أزيد من 240 ألف لاجئ سوداني منذ بداية الصراع.

هذه التفاصيل ليست نهاية المأساة التي تعيشها مناهل، بل هي مجرد فصل صغير في رحلة طويلة من تحديات فرضتها حرب لم تشارك فيها السيدة السودانية وابنها.

 

رحلة محفوفة بالمخاطر

وسط صحارى موحشة لا يتراءى منها سوى كثبان رملية لا نهاية لها، تكافح سيارة قديمة على متنها 17 راكبا، بينهم مناهل وابنها وآخرون للوصول إلى حدود ليبيا.
"السيارة صُممت لحمل 9 أشخاص ليس أكثر"، تقول وهي تسرد لـ"الحرة" أطوار رحلتها القاسية نحو وجهتها الجديدة.

مع الحمولة الزائدة، حصل ما كان في الحسبان، توقفت السيارة عن العمل وبات لزاما على ركابها المبيت في الخلاء.

فراشهم الأرض ولحافهم السماء، قضت مناهل ورفاقها ليلة طويلة في العراء بانتظار أن يستجيب محرك السيارة القديمة لمحاولات الإصلاح.

انطلقت الرحلة نحو ليبيا يوم 25 فبراير 2024، وجمع ركاب السيارة المتهالكة قواهم للصمود في وجه الجوع والبرد والخوف والعطش.

"خشيت الهلاك في تلك المنطقة"، تقول مناهل، قبل أن ينجح سائق السيارة ومشاركون بالرحلة في إصلاح العطب.
تواصلت رحلة "الألف ميل"، تخللتها بارقة أمل، فصادفت في طريقها سيارة عائدة لتوها من ليبيا أمدهم ركابها بما يسد الرمق ويضمن الوصول إلى مدينة الكفرة جنوب البلد المغاربي.

أخيرا وصلت مناهل إلى الكفرة، "صُدمت من الأعداد المهولة للسودانيين الفاريين من الحرب"، تقول في شهادتها، لـ"الحرة".
 

لا شيء على ما يرام

حطت مناهل رحالها بليبيا، توجهت إلى مزرعة لا تعرف لمن تعود ملكيتها، حاولت التقاط أنفاسها بعد رحلة موحشة.
غادرت مناهل دون انتظار نحو العاصمة الليبية طرابلس علّها تُحظى هناك برعاية المنظمات الأممية المعنية باللاجئين.
كانت تبحث عن فرص أفضل لابنها الصغير. تبيّن لها سريعاً أن الحياة مليئة بالمفاجآت، كأن ما واجهته من أهوال لم يكن كافيا.
ففي يوم ربيعي مشمس، وبينما كانت اللاجئة السودانية مارة بأحد شوارع العاصمة الليبية التي وصلتها حديثا، لمحت طفلا سودانيا يقطع الطريق وفي اتجاهه سيارة تسير بسرعة كبيرة.

لم تفكر كثيرا، قفزت في محاولة لإنقاذ الطفل، حصل ما أرادت لكن السيارة اصطدمت بها بشدة.

استفاقت مناهل في المستشفى على جلبة الممرضين والأطباء، عرفت لاحقا أنها تعرضت لكسور خطيرة.
"ألم لا يطاق، لم أحس بقدماي، تضررت أسناني، وعاين الأطباء كدمات بأجزاء متفرقة من جسدي"، تسرد للحرة تفاصيل ما واجهته.

فر صاحب السيارة، ولم تحصل على تعويضات عن الحادث. قضت نحو أسبوعين في المؤسسة الاستشفائية ثم طُلب منها المغادرة.

بدينارات معدودات، كان عليها التنقل أسبوعيا إلى المستشفى لتغيير الضمادات، قبل الخروج في محاولة تأمين قوت ولدها، في بلد لم تطأه قدمها من قبل.
هناك مقولة متداولة تذكر أن "الضحية الأولى للحرب هي البراءة".

وبالفعل، اصطدم ابن مناهل كغيره من معظم أبناء اللاجئين السودانيين في ليبيا، بحقيقة مفادها أن التعليم لهذه الفئة غير متاح.
"ابنى لا يدرس الآن فرسوم الدخول إلى المؤسسات التعليم مرتفعة للغاية هنا، وأنا أواجه متاعب صحية ولا قدرة لي على العمل"، تتحسر مناهل.

كحالة آلاف من السودانيين في ليبيا، بات حلم مناهل هو قبول ابنها في أي مؤسسة تعليمية، ريثما تضع الحرب في السودان أوزارها وتعود إلى ديارها.
 

مأساة متكررة

قصة مناهل ليست فريدة، فالنبش في حكايا اللاجئات السودانيات الفارات من الحرب إلى ليبيا يكشف الكثير من المآسي والأحلام الضائعة وسط أزيز الرصاص.
أساور شابة سودانية، لولا الحرب، لكانت الآن دكتورة في الصيدلة بشهادة من جامعة الخرطوم.

فور اندلاع الحرب، عادت أساور أدراجها من العاصمة السودانية إلى مسقط رأسها نيالى.
قُصفت أحياء في هذه المدينة الهادئة، مات أقارب وجيران، فاتخذت أساور قرارا بالمغادرة رفقة أشقائها وشقيقاتها ووالدتها نحو ليبيا.

بطريقة توحي بالعجلة، عبّأ صاحب الشاحنة أناسا وحيوانات وأغذية وأمتعة في صندوق مركبته القديمة وقصد مدينة "ملّيط" قرب الحدود مع ليبيا.
استغرقت الرحلة نحو 10 أيام، ذاق فيها المشاركون في الرحلة ويقدر عددهم بنحو 7 أُسر، شتى أنواع العذاب، من عطش ومرض وجوع.

تستذكر أساور تفاصيل الرحلة قائلة: "استفقنا في بعض الصباحات فوجدنا أنفسنا مغمورين تماما برمال الصحراء المتحركة بفعل الرياح الشديدة".

استقر أفراد عائلة أساور لدى عائلة سودانية استضافتهم لأسابيع قبل التحول إلى مدينة بنغازي، حيث اشتغلوا بضعة أيام للحصول على بعض من المال.
انتقلت العائلة السودانية لاحقاً إلى العاصمة طرابلس حيث تواصلت مع مفوضية اللاجئين قبل حزم حقائب السفر مجددا نحو مدينة مصراتة هذه المرة.

مع تدهور الأوضاع المالية للعائلة السودانية الوافدة على ليبيا، قررت أساور التي كانت إلى وقت قريب مشروع صيدلانية أن تتحول إلى عاملة في مجال تغيير زيوت السيارات.
"أنا أول إمرأة تقتحم مجال تغيير زيوت السيارات في مدينة صبراتة وربما في ليبيا"، تقول أساور، مشيرة إلى أن "أسئلة وشكوك كثيرة حامت حول أدائها خلال الأيام الأولى من الورشة".

تقول "إلى حد الآن، لازلت أواجه نظرات الاستغراب من قبل عدد من الليبيين، لكنني أعتقد أني فتحت طريقا للنساء لم يُطرق من قبل".

مع مرور الأيام، تمكنت أساور من إتقان تفاصيل عملها الجديد ونجحت في إعالة أسرتها.
اليوم، تحلم أساور بإنهاء درساتها في مجال الصيدلة في بلد أجنبي ككندا أو الولايات المتحدة الأميركية، لكن ذلك يتطلب "إسراع مفوضية اللاجئين لإجراءاتها"، تؤكد لموقع الحرة.

على عكس مناهل، تستبعد أساور إمكانية العودة إلى السودان، حتى في حالة انتهاء الحرب.
"لم نعد نملك شيئاً، بيتنا هُدم والمشاريع التنموية توقفت، فكرة العودة قبل إنهاء دراستي العليا أمر صعب"، تضيف السيدة السودانية.

جهود محلية وأممية

رغم محاولات السلطات والمجتمع المدني في ليبيا تقديم مساعدات إنسانية وإغاثية للاجئين السوادنيين الفارين من ويلات الحروب، يرى مراقبون أن الاحتياجات المتزايدة لهذه الفئة تفوق قدرات هذه الدولة التي تمزقها أصلا النزاعات الداخلية.
في هذا السياق، يقول رئيس المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان، أحمد حمزة إنه "مع تردي الأوضاع المعيشية للمواطنين الليبيين، تعمقت أزمة اللاجئين السودانيين، خصوصا مع تباطؤ التدخلات الإنسانية الدولية".

يشدد حمزة في تصريح لموقع "الحرة" على "وجود جهود واسعة تبذلها السلطات الليبية والمنظمات الإنسانية والإغاثية، لكن ذلك لا يلبي احتياجات الإيواء والإغاثة والتعليم والصحة والغذاء".

وفي ظل نقص الاهتمام الدولي بإغاثة مئات الآلاف من اللاجئين المقيمين في ليبيا، يحذر حمزة من "موجات هجرة غير نظامية واسعة عبر قوارب الموت نحو أوروبا".

وبداية الأسبوع الفائت، قالت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في بيان إنه رغم الجهود الإنسانية المستمرة، لا زال اللاجئون وطالبو اللجوء السودانيون في ليبيا يواجهون مخاطر جسيمة متعلقة بالحماية ولديهم احتياجات إنسانية عاجلة تشمل المأوى الطارئ والمياه النظيفة والنظافة العامة والرعاية الصحية والغذاء.

ويهدف المجتمع الإنساني وفق البيان ذاته إلى جمع 106.6 مليون دولار لدعم مئات الآلاف من اللاجئين السودانيين والمجتمعات المضيفة.
 

عبد النبي مصدق

وجوه وقضايا

الجانب المظلم من حقيقة الذكاء الاصطناعي

الحرة / خاص - واشنطن
21 مارس 2025

لتقنيات الذكاء الاصطناعي أثر إيجابي على كثير من مجالات حياتنا اليومية، لكن ما قد يخفى عن كثيرين هو تأثيراتها الضارة على الحياة بشكل عام: الحياة على هذا الكوكب.

استهلاك شركة مايكروسوفت من الكهرباء في عام 2023، على سبيل المثال، تجاوز 24 تيراواط، أي أكثر من استهلاك بلد مثل الأردن، أو حتى السعودية.

ويزيد الاستخدام المفرط للطاقة غير النظيفة لإنتاج الكهرباء من تداعيات الانبعاثات الضارة على البيئة. 

إلى جانب الكهرباء، يستخدم قطاع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي كميات هائلة من المياه لتبريد الأجهزة المعالجة للخوارزميات المعقدة.

الجبهة الأمامية

مراكز البيانات هي الجبهة الأمامية في الصراع نحو تصدر مجال الذكاء الاصطناعي.

هذه المراكز ليست حديثة العهد، فقد أُسس أول مركز معني بالبيانات في جامعة بنسلفانيا الأميركية عام 1945 لدعم ما عُرف حينها كأول كمبيوتر رقمي متعدد الأغراض، "ENIAC" اختصارا.  

هذه المراكز هي العمود الفقري للحوسبة الحديثة المعنية بتخزين كميات ضخمة من البيانات ومعالجتها.

تلك البيانات تكفل استمرار تشغيل كافة المواقع العاملة عبر شبكة الإنترنت، ما يسهل عمل الهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب.

لكن ظهور الذكاء الاصطناعي، التوليدي منه تحديدا، مثل خدمات "تشات جي.بي.تي" و"جيميناي" مثلا، غيّر "دراماتيكيا" في عمل مراكز البيانات، وفقا لمقال نشره معهد ماساتشوستس للتقنية "أم آي تي". 

واليوم، تتكون تلك المراكز من بنايات صناعية كبيرة، في داخلها مجموعة من الأجهزة الإلكترونية الضخمة.

داخل تلك البنايات هناك أجهزة تخزين البيانات الرقمية وخوادم الاتصالات والحوسبة السحابية، التي تمكن من تخزين ومعالجة البيانات.

بين عامي 2022 و 2023 ارتفعت متطلبات مراكز البيانات من الطاقة، في أميركا الشمالية، من 2,688 ميغاواط إلى 5,341 ميغاواط، وفق تقديرات علماء.

جزء من هذا الارتفاع مرتبط بالاحتياجات التي فرضها الذكاء الاصطناعي التوليدي، وفق "أم آي تي".

عالميا، بلغ استهلاك مراكز البيانات من الطاقة، في عام 2022، 460 تيراواط.

وتحتل مراكز البيانات المرتبة 11 بين الأكثر استهلاكا للكهرباء سنويا حول العالم، وهي مرتبة وسط بين فرنسا (463 تيراواط) والسعودية (371 تيراواط)، وفقا منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

وبحلول 2026، تشير "أم آي تي"، إلى أن استهلاك مراكز البيانات للكهرباء قد يصل إلى 1,050 تيراواط، ما قد يرفعها إلى المرتبة الخامسة، بين اليابان وروسيا.

الذكاء الاصطناعي التوليدي وحده ليس العامل الوحيد، يوضح المعهد التقني، لكنه "دافع أساسي" باتجاه زيادة الطلب على الطاقة والمياه. 

تستخدم تلك المراكز كميات ضخمة من الطاقة الكهربائية، وتكون لديها مصادر طاقة بديلة عند انقطاع التزويد أو في حالات الطوارئ، ما يمكّنها من الاستمرار في العمل.

لكن توفير الطاقة الكافية لتشغيل تلك المراكز أصبح تحديا في ظل ارتفاع الطلب العالمي على الطاقة.

الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قدّم خطة لتطوير الطاقة النووية في الولايات المتحدة تحظى بدعم لافت من جمهوريين وديمقراطيين على حد السواء، وقد تشكل الحل الأكثر رفقا بالبيئة.

البروفسور آناند راو من جامعة كارنيغي ميلون أوضح لموقع "الحرة" أنه بالإضافة إلى الاستخدام المكثف للطاقة الكهربائية، ظهرت معضلة جديدة أمام تلك المراكز.

الأجهزة الإلكترونية الضخمة التي تستهلك كميات كبيرة من الطاقة ترتفع حرارتها إلى درجات عالية جدا، ما يؤثر على قدرتها، وقد يؤدي حتى إلى تلفها.

قد يبدو ذلك غريبا لأول وهلة، ولكن على عكس حاسوبك الصغير الذي يستعمل مروحة أو اثنتين لتبريد رقاقاته الإلكترونية، تستخدم أجهزة مراكز البيانات الماء للتبريد.

تدخل آلاف الغالونات من الماء إلى مبادل حراري يشغل شبكة ضخمة ومتشعبة من الأنابيب والمبردات تمتد إلى كافة الأجهزة الكهربائية والإلكترونية، دون أن يلامس الماء، طبعا، أيا من الدارات الكهربائية.

ومثلما هو الحال بالنسبة للكهرباء، يضع استهلاك تلك الكميات الكبيرة من الماء ضغطا كبيرا على الموارد المحلية للمنطقة حيث تكون مركز البيانات.

بات من الواضح أن استدامة عمل تلك المراكز أصبحت مرتبطة بتأمين موارد كبيرة من الكهرباء والماء.

لكنّ هناك حلولا أخرى، بحسب البروفيسور راو، مثل استخدام النيتروجين للتبريد عوضا عن الماء.

رغم أن النيتروجين متوفر بكميات كبيرة، إذ يمثل نحو 78 في المئة من الهواء في الغلاف الجوي للأرض، فإن استخدامه للتبريد مكلف كثيرا، ما يجعل الماء خيارا اقتصاديا أفضل.

حلول مبتكرة تعيقها "الهلوسة"

عوضا عن بذل جهد كبير في محاولة تبريد الأجهزة الإلكترونية، لماذا لا يتم استخدام أجهزة تطلق حرارة أقل، ما يعني بالضرورة أنها تستهلك كمية أقل من الطاقة؟

قد يخيل إليك أن هذه فكرة مثالية بعيدة عن الواقع، ولكن، مرة أخرى، يتحول الخيال إلى حقيقة.

تجري منذ مدة أبحاث تهدف لتطوير ما اصطلح على تسميته بحواسيب الكوانتوم التي تُعرف أيضاً باسم الحواسيب الكمومية.

اعتماد هذا النوع من الحواسيب على "فيزياء الكم" جعلها قادرة على القيام بعدد ضخم من الحسابات في وقت قصير ما جعلها تستخدم كمية طاقة أقل.

البيانات المعروفة بالإنكليزية بكلمة "بايت" وتعتمد نظام الرياضيات الثنائي المكون من رقمين هما 0 و1، وهو النظام المستخدم في الحواسيب.

لكن حواسيب الكم تعتمد على "الكيوبتات"، التي بإمكانها أن أن تكون في حالتي 0 و1 في نفس الوقت، وهو ما يعرف باسم التراكب الكمومي.

مكنت تلك الخاصية الفريدة هذه الحواسيب من إظهار قدرة كبيرة على فك المعادلات المعقدة وتقديم أجوبة متطورة على أسئلة مركبة، عبر معالجة العديد من المعادلات والمسائل في نفس الوقت.

وبالطبع، استخدمت حواسيب الكم في تطوير النماذج اللغوية للذكاء الاصطناعي، لكن الأجوبة التي قدمتها كانت "غير مستقرة".

وتعبير "غير مستقرة" يعبر عنها أحياناً بـ "الهلوسة"، حسب ما أوضح لموقع "الحرة"، كل من سام رزنيك، الباحث في معهد الأمن والتكنولوجيا الناشئة في جامعة جورج تاون الأميركية، والبروفيسور راو.

هذه "الهلوسة" البرمجية تتمثل في تقديم نموذج الذكاء الاصطناعي إجابات خاطئة وغير منطقية أو مخالفة للواقع أو عبثية لا معنى لها.

مجتمع الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي يسعى لتحسين قدرات حواسيب الكم، للاستفادة من قدراتها الفريدة خصوصا من ناحية الوصول إلى نفس النتائج لكن بجهد أقل ووقت أقصر.

سباق العمالقة

ويتوالى سباق السيطرة على هذه التكنولوجيا التي فتحت أبواب الأرباح المالية الضخمة والسيطرة السياسية وحتى العسكرية، وسط مخاوف من تهديدها حرية التفكير والتعبير.

خلال الأسابيع القليلة الماضية شهدت تطبيقات الذكاء الاصطناعي نموا صاروخيا وحققت أرقاما فلكية.

ارتفع عدد مستخدمي "تشات جي.بي.تي" نهاية فبراير بنسبة 33 في المئة مقارنة بنفس العدد في ديسمبر الماضي ليصل إلى 400 مليون مستخدم أسبوعيا.

ومن أهم مستخدمي "تشات جي.بي.تي" نجد بنك "مورغان ستانلي" الاستثماري وشركات كبرى مثل "تي موبايل" و"مودرنا" و"أوبر".

أما نموذج "ديب سيك" الصيني، فارتفع عدد مستخدميه 12 مرة خلال شهر يناير الماضي، ليصل الآن إلى معدل 700 ألف مستخدم أسبوعيا.

والتحقت شركة "أكس.أيه.آي" بالركب، ومنذ طرحها نموذج "غروك 3" ارتفع عدد مستخدميه من 4.3 مليون إلى 31.5 مليون مستخدم يوميا، وذلك خلال 3 أسابيع فقط.

وزعمت الشركة المنتجة لنموذج "ديب سيك" الصيني أنه يقدم خدمة أقل كلفة ومماثلة لنظيره الأميركي "تشات جي.بي.تي" من شركة "أوبن أيه آي".

سرعان ما خرج نموذج أميركي آخر بعد أقل من شهر، يسمى "غروك 3"، ليقدم قدرات أكبر.

شركة "أكس أيه آي"، التي أسسها إيلون ماسك عام 2023، تقول إن نموذج "غروك 3" هو الأفضل حتى الآن.

ظهور "ديب سيك" شكل صدمة ليس للباحثين المختصين بل للأسواق العالمية وحتى السياسة الدولية.

"ديب سيك" اعتمد تقنية تسمى استخلاص النماذج، يقول رزنيك في حديثه لموقع "الحرة".

تعتمد هذه التقنية على طرح آلاف من الأسئلة على نموذج "تشات جي.بي.تي"، لفهم طريقة تحليله للمعلومات.

أي لفهم طريقة تفكيره، والتعلم منها عبر التدرب على ذلك النموذج.

وبناء على ذلك قام الباحثون الصينيون ببناء نموذج "ديب سيك"، باستخدام الأجوبة المقدمة من "تشات جي.بي.تي".

ومع ارتفاع عدد مستخدمي الذكاء الاصطناعي تتزايد الحاجة إلى مزيد من مراكز البيانات، ما يعني، في المحصلة، استهلاكا أكبر للكهرباء والمياه، وما يصحب ذلك من تآكل لإمكانيات استمرار الحياة على كوكب الأرض.

مفاجآت بالجملة

الباحثان اللذان تحدثنا إليهما يخالفان الاعتقاد السائد بأن الصينيين لا يملكون  قدرات حاسوبية كبيرة نظرا لتأخرهم في مجال الرقائق الإلكترونية.

فمنظومة "ديب سيك" أصبحت تستخدم عددا كبيرا من الرقائق المصنعة من طرف شركة هواوي الصينية.

يكشف رزنيك لنا سرا آخر من خبايا الصراع الخفي للسيطرة على شعلة القيادة في مجال الذكاء الاصطناعي.

نموذج "ديب سيك" يعتمد على قدرات حاسوبية كبيرة، لكن السر يكمن في طبيعة الرقاقات الإلكترونية.

هناك نوعان رئيسيان من الرقاقات الإلكترونية المعتمدة في نماذج الذكاء الاصطناعي.

الرقائق المتقدمة مثل تلك المنتجة من شركة "إنفيديا"، ومقرها ولاية كاليفورنيا الأميركية، تعرف باسم رقائق "جي.بي.يو"، وتستخدم للعمليات المعقدة مثل تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي.

كلمة "جي.بي.يو" هي الاختصار الإنكليزي لمصطلح "graphic processing unit" أو (GPU) اختصارا، وتعني "وحدات معالجة الصور".

مكنت قدرات تلك الرقائق شركة "إنفيديا" من الوصول إلى قيمة سوقية تعادل نحو 3 ترليون دولار.

رقائق "جي.بي.يو" لم تكن في الأصل معدة للاستخدام في مجال الذكاء الاصطناعي.

"إنفيديا" عملت منذ تأسيسها عام 1993، في مجال الألعاب الإلكترونية أو ألعاب الفيديو، وأرادت الحصول على صور ذات نوعية جيدة، تضفي طابعا أكثر واقعية على ألعاب الفيديو.

في ذلك الوقت كانت شركات التكنولوجيا مثل "إنتل" الأميركية تعمل على إنتاج رقائق حواسيب تعرف باسم "سي بي يو"، وهو الاختصار الإنكليزي لكلمة "سنترال بروسيسنغ يونت"، أو "وحدات المعالجة المركزية".

الرقائق الإلكترونية لوحدات المعالجة المركزية هي الأساس للحواسيب لذلك فهي أكثر انتشارا، لكن طريقة عملها تجعلها أقل تقدما في مجال الحسابات المعقدة.

من خلال التجارب الأولى للنماذج الحديثة للذكاء الاصطناعي، تبين أن وحدات معالجة الصور المنتجة من شركة "إنفيديا"، هي الأفضل بسبب قدرتها على إجراء العمليات الحسابية المعقدة، مع حجم معالجة أكبر.

تحولت "إنفيديا" من شركة تعمل في مجال ألعاب الفيديو إلى المزود الرئيسي للشركات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي.

منذ أعوام تشهد الولايات المتحدة والصين نزاعا بشأن الرقاقات المستخدمة في الذكاء الاصطناعي

المفارقة أن التحول المفاجئ كان سبباً في قوة الصدمة الناجمة عن نجاح نموذج "ديب سيك".

القدرة على تقديم نموذج يستخدم قدرات حاسوبية أقل تقدماً وضع مستقبل شركة "إنفيديا" في مرمى الشك وأثر على التداولات في الأسواق.

وأصبحت رقاقات "إنفيديا" طلبا أساسيا لدى كبرى شركات التقنية مثل "أمازون" و"غوغل" و"ميتا" و"مايكروسوفت" وغيرها.

لكن الاهتمام بذلك الحدث تجاوز عالم المال والأعمال.

الحرة / خاص - واشنطن